يدخل مجهداً كقافلة بغير حُداء.. مثقلاً بحمولة من فصول الخريف المبددة، ويطرح جانباً حقيبته المنتفخة كحقائب مطهري الأولاد في القرى، ويزفر.. ثم يقعد مهدوداً كحائط ترابي، ويتأمل قدميه مطرقاً صامتاً.. أقول ممازحاً: - مابالك مَجْرهِدّ الوجه مكفَهِرّ السحنة؟! يقول ممتعضاً: - دعني من بلاغة أجدادك العرب، ومن خيامهم وإبلهم.. يكفينا مافينا.. وسكِّرْ هذا الباب رجاء. - نقول: أغلق أو أوصد، تلك هي اللغة العليا.. - لا حول ولا قوة إلا باللّه! يبدو أنك خليّ البال؟! - أجل (يبدو)!! وأنت تبدو في توعُّك فكري، أو تبدو مقبلاً على تبدل قاري؟! كأنك مُحَزَّم بسجادة من الاضطهاد غير المعلن.. أمقدم على زواج ميمون؟! الحقيقة آن الأوان لذلك يادكتور نواف.. - نعم! نعم لم يبق غير هذا الجنون!! أبحث لمتنفس عن إحساسي بالاضطهاد في التغرير بمسكينة عاثرة الحظ أتزوجها!! ثم سهرة فسهرة فسهرة تدخل معي في هذا "الوجع الأبي"... وبحكم الحب الذي نوهم أنفسنا به تكون وقتها خلية البال، مجردة من المناعة ضد أوبئة الأرق العصري.. وتكون بالتالي ضحية سهلة لاستباحة العدوى.. وبعد أيام تبدأ تبحث مثلي، أو معي عن مخرج.. أو تستسلم وتطلب من فروسية الشرقي -الذي هو أنا- أن تخرجها من كوابيس العصر.. أعني أصير مسؤولاً عن مخرجين، وقد ظننا أن في الزواج الملاذ والمحتمى!.. - أحاول تهدئة حوار التلقي والإيصال، وتعديل درجة الصوت وملامح تقاطيع الوجه فأقول في موضوعية أنا غير مقتنع بها من الداخل: يا أخي نواف.. العالم مضطرب يبحث عن الاستقرار، وثمة إحساس بتلوث الغلاف الجوي والبيئة، وباهتزاز اليقينيات الأيديولوجية، والثوابت العربية.. وثمة تفكك اجتماعي، وأسري، يتجلى في صور من الزهد، أو التكالب والجشع، أو إعادة صياغة الأسئلة والمواقف.. صور من الموت السهل.. والفلسفة السهلة.. فهل "حبّكت" معك الأمور بحيث بقي الحب وحده صعباً؟! بحيث صار البحث عن المخارج منه سابقاً للبحث عن المداخل إليه؟! صحيح أن العمل الوظيفي صار كَرْمي الشباك، و"صلي الدبق" وربما صار شراكاً لا يبحث فيه حتى العاقل عن المعطى بقدر مايبحث عن "المخرج.. وصحيح أن العلاقات الاجتماعية صارت اليوم ألغوزة، أو حفلة تنكرية همُّ الناس فيها ابتكار أقنعة جديدة.. وأن السياسة صارت مثل متاهة "ثورندايك" وأنت بالتالي صرت في مَدَاخَة عصرية.. ولكنك -في هذا كله- لست وحدك.. الناس والعصر، والرؤى والمحتملات.. كل ذلك داخل في هذا المدار المرحلي.. ويخطئ اليوم من يظن نفسه أنه الوحيد المغرّر به.. أو الوحيد الذي يراقب حركة المرور من حوّامة تطير به فوق المدينة.. أو تتأتى له المكاشفات نابعة من تحت وسادته.. بمعنى آخر: هناك إحساس إنساني بالأرق العصري، يتساوى فيه أحياناً استقراء مايجري، واستشراف ماسيجري، لكن طريقة الاستجابة تختلف قليلاً. وكأن المسألة شبيهة بتوقع الزلازل، فالأفاعي والثيران والأرانب والكلاب.. وربما النباتات تستجيب لكلّ ذلك غريزياً بتصرف ترتئيه، قد يكون الهرب.. والعلماء يغفلون ظواهر الغريزة وينظرون إلى مقياس "رختر" ويُعمْلِون العقل لدراسة الغلاف الجوي وباطن الأرض وأسس الأبنية.. لذوي الإدراك العقلي إذن إحساس بالقلق، ولذوي الإحساس الغريزي شيء مماثل. وثمة من يبحث عن المداخل أو من يبحث عن المخارج، أفيستدعي الأمر بعد كل هذا مزيداً من التدقيق والتردد والحسابات لتقرر إن كان بمقدورك إمضاء بضعة أيام، قائظة أو ممطرة، مع من تحب أو تختار؟! يا عزيزي.. مازال هناك متسع للألفة والحب لمن أراد.. بالرغم من كل شيء.. بالرغم من كل شيء، بل لعله لم يبق لنا غير ذلك.
يدخل مجهداً كقافلة بغير حُداء.. مثقلاً بحمولة من فصول الخريف المبددة، ويطرح جانباً حقيبته المنتفخة كحقائب مطهري الأولاد في القرى، ويزفر.. ثم يقعد مهدوداً كحائط ترابي، ويتأمل قدميه مطرقاً صامتاً..
أقول ممازحاً:
- مابالك مَجْرهِدّ الوجه مكفَهِرّ السحنة؟!
يقول ممتعضاً:
- دعني من بلاغة أجدادك العرب، ومن خيامهم وإبلهم.. يكفينا مافينا.. وسكِّرْ هذا الباب رجاء.
- نقول: أغلق أو أوصد، تلك هي اللغة العليا..
- لا حول ولا قوة إلا باللّه! يبدو أنك خليّ البال؟!
- أجل (يبدو)!! وأنت تبدو في توعُّك فكري، أو تبدو مقبلاً على تبدل قاري؟! كأنك مُحَزَّم بسجادة من الاضطهاد غير المعلن.. أمقدم على زواج ميمون؟! الحقيقة آن الأوان لذلك يادكتور نواف..
- نعم! نعم لم يبق غير هذا الجنون!! أبحث لمتنفس عن إحساسي بالاضطهاد في التغرير بمسكينة عاثرة الحظ أتزوجها!! ثم سهرة فسهرة فسهرة تدخل معي في هذا "الوجع الأبي"... وبحكم الحب الذي نوهم أنفسنا به تكون وقتها خلية البال، مجردة من المناعة ضد أوبئة الأرق العصري.. وتكون بالتالي ضحية سهلة لاستباحة العدوى.. وبعد أيام تبدأ تبحث مثلي، أو معي عن مخرج.. أو تستسلم وتطلب من فروسية الشرقي -الذي هو أنا- أن تخرجها من كوابيس العصر.. أعني أصير مسؤولاً عن مخرجين، وقد ظننا أن في الزواج الملاذ والمحتمى!..
- أحاول تهدئة حوار التلقي والإيصال، وتعديل درجة الصوت وملامح تقاطيع الوجه فأقول في موضوعية أنا غير مقتنع بها من الداخل:
يا أخي نواف.. العالم مضطرب يبحث عن الاستقرار، وثمة إحساس بتلوث الغلاف الجوي والبيئة، وباهتزاز اليقينيات الأيديولوجية، والثوابت العربية.. وثمة تفكك اجتماعي، وأسري، يتجلى في صور من الزهد، أو التكالب والجشع، أو إعادة صياغة الأسئلة والمواقف.. صور من الموت السهل.. والفلسفة السهلة.. فهل "حبّكت" معك الأمور بحيث بقي الحب وحده صعباً؟! بحيث صار البحث عن المخارج منه سابقاً للبحث عن المداخل إليه؟! صحيح أن العمل الوظيفي صار كَرْمي الشباك، و"صلي الدبق" وربما صار شراكاً لا يبحث فيه حتى العاقل عن المعطى بقدر مايبحث عن "المخرج.. وصحيح أن العلاقات الاجتماعية صارت اليوم ألغوزة، أو حفلة تنكرية همُّ الناس فيها ابتكار أقنعة جديدة.. وأن السياسة صارت مثل متاهة "ثورندايك" وأنت بالتالي صرت في مَدَاخَة عصرية.. ولكنك -في هذا كله- لست وحدك.. الناس والعصر، والرؤى والمحتملات.. كل ذلك داخل في هذا المدار المرحلي.. ويخطئ اليوم من يظن نفسه أنه الوحيد المغرّر به.. أو الوحيد الذي يراقب حركة المرور من حوّامة تطير به فوق المدينة.. أو تتأتى له المكاشفات نابعة من تحت وسادته.. بمعنى آخر: هناك إحساس إنساني بالأرق العصري، يتساوى فيه أحياناً استقراء مايجري، واستشراف ماسيجري، لكن طريقة الاستجابة تختلف قليلاً. وكأن المسألة شبيهة بتوقع الزلازل، فالأفاعي والثيران والأرانب والكلاب.. وربما النباتات تستجيب لكلّ ذلك غريزياً بتصرف ترتئيه، قد يكون الهرب.. والعلماء يغفلون ظواهر الغريزة وينظرون إلى مقياس "رختر" ويُعمْلِون العقل لدراسة الغلاف الجوي وباطن الأرض وأسس الأبنية.. لذوي الإدراك العقلي إذن إحساس بالقلق، ولذوي الإحساس الغريزي شيء مماثل. وثمة من يبحث عن المداخل أو من يبحث عن المخارج، أفيستدعي الأمر بعد كل هذا مزيداً من التدقيق والتردد والحسابات لتقرر إن كان بمقدورك إمضاء بضعة أيام، قائظة أو ممطرة، مع من تحب أو تختار؟! يا عزيزي.. مازال هناك متسع للألفة والحب لمن أراد.. بالرغم من كل شيء.. بالرغم من كل شيء، بل لعله لم يبق لنا غير ذلك.