لكل عمل منغصاته ومباهجه، ونزوع العقل السوي يظل متجدداً إلى تحقيق المباهج والتخلص من السلبيات، غير أن الآفة التي قد تصيب مثل هذا التجدد هي تسرب السأم أو النعاس إلى النفوس كتسرب الخدر الذي يلم بعيني المستريح على الشاطئ وقد مل مراقبة الأمواج المتحيرة في مد وجزر مكرورين، والريح واهنة. ونحن أحياناً نصير في حالة كهذه فنعالج الأمور الكبيرة بطرح الأفكار عَرَضا، ثم بتنحيتها بآلية التعود واستدعاء غيرها... وهكذا كثيراً ما تتحول الخطط والقرارات إلى ركام من المقترحات والمشاريع التي لم تهمل، ولم تعط حقها، وتظل الأمراض الاجتماعية في انتظار الدواء، ثم الاقتناع بجدوى تناوله. أجل في الاجتماعات بأنواعها كثيراً ما يدفع نفاد الصبر إلى "سلق" جدول الأعمال و"تمرير" موادّه ومشكلاته وفق آليّة التعوّد. ثمّ يصدر القرار المنتظر مذيّلاً بكلمة "أصولاً" ولو دقّقنا في طبيعة ما كنّا قررّناه لوجدنا عقولنا مجانبة للأصول، بل ربّما استنكرنا موافقاتنا تلك وتنصّلنا منها، وخاصّة إذا ما وُوجهنا بحصائلها السلبيّة وتفصيلات عيوبها التي لا تخفى عند التدقيق والتأمّل.. لنفترض مثلاً أنّ وزارة التربية ناقشت إعادة إقرار الكتب المدرسيّة المتخصصة للمرحلة الثانويّة، هل نتصوّر أنّ المجتمعين سيقترحون إعادة النظر في تعديل المعلومات المقيّدة عن النظامين الاشتراكي والرأسمالي بعد كلّ ما طرأ على المذهبين من تطوّر وتعديل جعل المعلومات التي في الكتب موضع حيرة وقلق عند أبنائنا اليوم؟! ولنفترض مثلاً أنّ مؤتمراً عُقد عندنا لمناقشة شحّ السمك في ساحلنا بصفةٍ خاصّة، أفكان المجتمعون يصرّون -في موضوعيّةٍ خالصة- على أنّ السماح بنزول مراكب الصيد الكبيرة "الجرّافات" تحتاج إلى إعادة نظر؟! أيقرّون مثلاً أنّ صيدها على مقربةٍ من الشاطئ وجرفها لأكوام من السمك الصغير "البزرة" كان أبرز العوامل في شحّ السمك؟! أم أنّ المسألة كانت ستُلخّص -كما لُخّصت سابقاً- بمثل هذه العبارة: "أخي نحن ماعندنا ثروة سمكيّة"... بكلامٍ آخر: هل ندقّق ونتفحّص إجراءاتنا بروحٍ علميّة ومنهجيّة متأنيّة؟! قبل موجة هذا المطر الجليل كانت صحفنا وأحاديثنا تتناقل يوماً فيوماً أخباراً عن تزايد حفر الآبار في المزارع الخاصّة وغير الخاصّة.. ثمّ تنشغل مؤسّسة المياه ومؤسّسة الإعلان ووسائل الإعلام بإرشاد المواطنين للإقلال من هدر المياه ويتّسع الحديث عن تدّني منسوب المياه الجوفيّة في حوض منطقة دمشق. وقد يقال إنّ تنامي الاتجاه نحو الزراعة شيءٌ حسن، وحفر بئرٍ ليست مشكلة. هذا صحيح كما يبدو في عمومه، وفي جزئيّته، ولكن عندما لا نعتمد الأساس العلميّ، وعندما يتبع حفر البئر حفر ثانٍ وثالثٍ ومئات، سنواجه مشكلةً خطيرة كانت نتيجة النظر إلى ظواهر الأمور، أو كانت وليدة التهاون في الجزئيّات.. والصورة نفسها قد نجدها عند السكوت على سارق أو مرتشٍ - أي سنواجه مشكلة السرقة والرشوة كوباءٍ اجتماعيٍّ لا ينتهي.. أو نجد نتائج مماثلة في الترخيص أو السماح بتزاحم البيوت في الأراضي الزراعيّة بحيث قد يجيء يومٌ تتحوّل فيه خضرة الوطن والمحصول الزراعي إلى بيوتٍ أو قصورٍ من الحديد والإسمنت وإلى شبكات متداخلة من خطوط المياه والكهرباء وهوائيّات التلفزيون، وقلّ مثل ذلك في صيد العصافير وقطع الأشجار وحرائق الغابات.. صحيحٌ أنّ السلطة التنفيذيّة في البلد لا تستطيع أن تلاحق كل من حمل بندقية صيد، ولا كل من حمل فأساً أو منشاراً لقطع شجرة.. لكن بالتأكيد ستكون كثرة العصافير والأشجار سبباً في بهجتها ورضاها، ومظهراً من مظاهر تحضّرنا ومدنيّتنا.. وثمّة كيفيّة لتكوْن قادرة على فعل كهذا... إن بلادنا صارت الآن تزدان بشبكة مواصلات متقدمة، وبسدود لها مردود جمالي وحضاري واقتصادي، وبأغراس زرعت حديثاً بالآلاف، أو بالملايين..وفي هذا مظهر للتقدم والمقدرة.. فكيف يتصور العقل أن بمقدور بلد أن يتقدم في كثير من المظاهر ولا يستطيع أن يجتث كثيراً من مظاهر التخلف والفساد في المقابل؟! في اختصار: نحن بمقدورنا أن نكون أفضل، والمسألة متأرجحة بين الاكتراث وعدم الاكتراث، بين التصميم على الفعل والتراخي أو الترخص فيه.. بين ظواهر سلبية تبدو هامشية وجزئية في البداية، ثم تستحيل إلى كوارث حين تغفل ويتغاضى عنها.. إن ترك الأشياء تمر على أنها (صارت من قبل) وأنها بسيطة ومألوفة، ومنتهى منها.. سلوك قد يصبح عادة، ثم عرفاً فقاعدة ومتى تأصل داء التساهل وعدم الاكتراث والتدقيق تَحَوَّلْنا إلى أمة سائرة في نومها وصار إيقاظها محوجاً إلى مضاعفة الجهد والعناء والقدرات
لكل عمل منغصاته ومباهجه، ونزوع العقل السوي يظل متجدداً إلى تحقيق المباهج والتخلص من السلبيات، غير أن الآفة التي قد تصيب مثل هذا التجدد هي تسرب السأم أو النعاس إلى النفوس كتسرب الخدر الذي يلم بعيني المستريح على الشاطئ وقد مل مراقبة الأمواج المتحيرة في مد وجزر مكرورين، والريح واهنة. ونحن أحياناً نصير في حالة كهذه فنعالج الأمور الكبيرة بطرح الأفكار عَرَضا، ثم بتنحيتها بآلية التعود واستدعاء غيرها...
وهكذا كثيراً ما تتحول الخطط والقرارات إلى ركام من المقترحات والمشاريع التي لم تهمل، ولم تعط حقها، وتظل الأمراض الاجتماعية في انتظار الدواء، ثم الاقتناع بجدوى تناوله.
أجل في الاجتماعات بأنواعها كثيراً ما يدفع نفاد الصبر إلى "سلق" جدول الأعمال و"تمرير" موادّه ومشكلاته وفق آليّة التعوّد. ثمّ يصدر القرار المنتظر مذيّلاً بكلمة "أصولاً" ولو دقّقنا في طبيعة ما كنّا قررّناه لوجدنا عقولنا مجانبة للأصول، بل ربّما استنكرنا موافقاتنا تلك وتنصّلنا منها، وخاصّة إذا ما وُوجهنا بحصائلها السلبيّة وتفصيلات عيوبها التي لا تخفى عند التدقيق والتأمّل.. لنفترض مثلاً أنّ وزارة التربية ناقشت إعادة إقرار الكتب المدرسيّة المتخصصة للمرحلة الثانويّة، هل نتصوّر أنّ المجتمعين سيقترحون إعادة النظر في تعديل المعلومات المقيّدة عن النظامين الاشتراكي والرأسمالي بعد كلّ ما طرأ على المذهبين من تطوّر وتعديل جعل المعلومات التي في الكتب موضع حيرة وقلق عند أبنائنا اليوم؟! ولنفترض مثلاً أنّ مؤتمراً عُقد عندنا لمناقشة شحّ السمك في ساحلنا بصفةٍ خاصّة، أفكان المجتمعون يصرّون -في موضوعيّةٍ خالصة- على أنّ السماح بنزول مراكب الصيد الكبيرة "الجرّافات" تحتاج إلى إعادة نظر؟! أيقرّون مثلاً أنّ صيدها على مقربةٍ من الشاطئ وجرفها لأكوام من السمك الصغير "البزرة" كان أبرز العوامل في شحّ السمك؟! أم أنّ المسألة كانت ستُلخّص -كما لُخّصت سابقاً- بمثل هذه العبارة: "أخي نحن ماعندنا ثروة سمكيّة"... بكلامٍ آخر: هل ندقّق ونتفحّص إجراءاتنا بروحٍ علميّة ومنهجيّة متأنيّة؟! قبل موجة هذا المطر الجليل كانت صحفنا وأحاديثنا تتناقل يوماً فيوماً أخباراً عن تزايد حفر الآبار في المزارع الخاصّة وغير الخاصّة.. ثمّ تنشغل مؤسّسة المياه ومؤسّسة الإعلان ووسائل الإعلام بإرشاد المواطنين للإقلال من هدر المياه ويتّسع الحديث عن تدّني منسوب المياه الجوفيّة في حوض منطقة دمشق. وقد يقال إنّ تنامي الاتجاه نحو الزراعة شيءٌ حسن، وحفر بئرٍ ليست مشكلة. هذا صحيح كما يبدو في عمومه، وفي جزئيّته، ولكن عندما لا نعتمد الأساس العلميّ، وعندما يتبع حفر البئر حفر ثانٍ وثالثٍ ومئات، سنواجه مشكلةً خطيرة كانت نتيجة النظر إلى ظواهر الأمور، أو كانت وليدة التهاون في الجزئيّات.. والصورة نفسها قد نجدها عند السكوت على سارق أو مرتشٍ - أي سنواجه مشكلة السرقة والرشوة كوباءٍ اجتماعيٍّ لا ينتهي.. أو نجد نتائج مماثلة في الترخيص أو السماح بتزاحم البيوت في الأراضي الزراعيّة بحيث قد يجيء يومٌ تتحوّل فيه خضرة الوطن والمحصول الزراعي إلى بيوتٍ أو قصورٍ من الحديد والإسمنت وإلى شبكات متداخلة من خطوط المياه والكهرباء وهوائيّات التلفزيون، وقلّ مثل ذلك في صيد العصافير وقطع الأشجار وحرائق الغابات.. صحيحٌ أنّ السلطة التنفيذيّة في البلد لا تستطيع أن تلاحق كل من حمل بندقية صيد، ولا كل من حمل فأساً أو منشاراً لقطع شجرة.. لكن بالتأكيد ستكون كثرة العصافير والأشجار سبباً في بهجتها ورضاها، ومظهراً من مظاهر تحضّرنا ومدنيّتنا.. وثمّة كيفيّة لتكوْن قادرة على فعل كهذا...
إن بلادنا صارت الآن تزدان بشبكة مواصلات متقدمة، وبسدود لها مردود جمالي وحضاري واقتصادي، وبأغراس زرعت حديثاً بالآلاف، أو بالملايين..وفي هذا مظهر للتقدم والمقدرة.. فكيف يتصور العقل أن بمقدور بلد أن يتقدم في كثير من المظاهر ولا يستطيع أن يجتث كثيراً من مظاهر التخلف والفساد في المقابل؟! في اختصار: نحن بمقدورنا أن نكون أفضل، والمسألة متأرجحة بين الاكتراث وعدم الاكتراث، بين التصميم على الفعل والتراخي أو الترخص فيه.. بين ظواهر سلبية تبدو هامشية وجزئية في البداية، ثم تستحيل إلى كوارث حين تغفل ويتغاضى عنها.. إن ترك الأشياء تمر على أنها (صارت من قبل) وأنها بسيطة ومألوفة، ومنتهى منها.. سلوك قد يصبح عادة، ثم عرفاً فقاعدة ومتى تأصل داء التساهل وعدم الاكتراث والتدقيق تَحَوَّلْنا إلى أمة سائرة في نومها وصار إيقاظها محوجاً إلى مضاعفة الجهد والعناء والقدرات