كلما تناولت كتاباً من كتب التراث العربي تتعزز في نفسي حقيقة جوهرية هي أن كتب التراث ينبغي أن تقرأ على ريث وأناة، لأن الكثير مما انطوت عليه في تضاعيفها يستدعي فضل تأمل ومحاكمة، إن أردنا أن نستخلص منها ما يعنينا اليوم. وما يعنينا منها يتفاوت في طريقته من قارئ إلى أخر، أو من باحث إلى سواه، كما يختلف باختلاف الهدف... فثمة قراء يتخيرون ما يعرض لهم من جميل القول ومستعذب النظم ومستملح الطرائف.... ويعولون على مثل هذا في رسم صورة لمجتمع آمن خليّ. وبعضهم ينتخب مايقف عليه من أخبار الظلم والغدر والقتل والخيانة.. فتقوم في نفسه صورة بشعة لماض مظلم متخلف، ويرى فريق ثالث أن كتب التراث قد تضمنت فيضاً من صور البطولة والشجاعة والكرم والوفاء والنجدة وسائر مظاهر الخير والعلاقات الإنسانية النبيلة... ويرى المعنيُّ بالجانب الفكري أن تاريخ العرب قد عرف على نحو واضح جلي كثيراً من ألوان الديمقراطية الحقة، وقدراً حقيقياً من سيادة قيم العدل والمساواة ورعاية حقوق الناس ومشاعرهم وأمنهم وكرامتهم. إلى جانب ذلك كله تستوقف القارئ أنواع من الهموم الإنسانية والمعاناة حتى ليبدو العربي القديم مؤرقاً مذعوراً كطير القطا الجفول... وفي تراثنا الغني كلام طويل عن الحكماء والعقلاء والدهاة... وكلام طويل عن أخبار الحمقى والمغفلين.. ألست تقرأ أخبار العُمَرَين إلى جانب أخبار مسيلمة الكذاب وأبي رغال وأبي جهل؟! أذكرك بهذا لأقول: إن استرجاع بعض مواقف السلف أو أقوالهم لا يعني إسقاطها على الحاضر أو المستقبل. ولا يعني استقراءها بمعاييرنا العلمية أو الأخلاقية، كما لا يعني أن نلتمس فيها رموزاً تفترضها، فالفكر العظيم يتأبى على أن تقسره ليكون مطية نزعاتك.. والقارئ المنصف يترك للأثر الذي يقرؤه حرية الاتجاه والمدى الكافي للتنفس والاتساع والإيحاء.. ترى كيف كان يفكر بعض السابقين عندما قالوا -أوقيدوا- بعض ما سأذكر ذلك؟!.. -عن الأصمعي قال: بلغني أن رجلاً قال لأويس القرني (أحد النساك) إني آنس بك. فقال أويس: ما كنت أحسب أن أحداً يستوحش مع اللّه. قال: فأين تأمرني أن أنزل؟ قال: عليك بالشام، فانزل سيف بحرها. قال: فكيف بالمعاش؟ قال: أفخالط اليأس القلوب فما تنفعها موعظة؟ تفر إلى الله وتتهمه في رزقك؟! -قالوا: وكان زياد بن أبيه إذا ولى رجلاً عملاً قال له: خذ عهدك، وسر إلى عملك، واعلم أنك مصروف رأس سنتك، وأنك تصير إلى أربع خلال، فاختر لنفسك، إنا إن وجدناك أميناً ضعيفاً، استبدلنا بك لضعفك، وسلّمتك من معَرَّتنا أمانتُك، وإن وجدناك قوياً خائناً استهنّا بقوتك، وأحسنا على خيانتك أدبَك، فأوجعنا ظهرك، وأثقلنا غُرْمك، وإن جمعت علينا الجرمين جمعنا عليك المضرتين، وإن وجدناك أميناً قوياً، زدنا في عملك، ورفعنا ذكرك، وكثّرنا مالك، وأوطأنا عقبك (أي رعينا أبناءك). -قالوا: وكان بالمدينة غلام أحمق، فقال لأمه: يوشك أن تريني عظيم الشأن. قالت: وكيف؟ فواللّه ما بين لابتيها أحمق منك. فقال: واللّه ما رجوت هذا الأمر إلا من حيث يئست منه، أما علمت أن هذا زمان الحمقى، وأنا أحدهم؟! -وقال رجل من جلساء عمر بن عبد العزيز لرجل سمعه يتكلم بكلام أعجبه: إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا تركنا العمل بما علمنا، ولو أنا عملنا بما علمنا لأوتينا علماً لا تقوم له أبداننا. -وعن الأصمعي قال: وقف أعرابي على قوم يغتابون رجلاً من إخوته فقال: أبطئوا عن عيب من لو كان حاضراً أسرعتم إلى مدحه، فرب مغتاب لغيره بما هو فيه، ومادح لسواه بما لا يُعْرَف به. -وعن العتبي قال: بُعِث إلى عمر بحلل، فقسمها، فأصاب كل رجل ثوباً، ثم صعد المنبر وعليه حلة، (والحلة ثوبان) فقال: أيها الناس ألا تسمعون؟ فقال سلمان: لا نسمع. فقال عمر: ولم يا أبا عبد اللّه؟ قال: إنك قسمت علينا ثوباً ثوباً، وعليك حلة. فقال: لا تعجل يا أبا عبد اللّه، ثم نادى عبد اللّه (ابنه) فلم يجبه أحد، فقال: يا عبد اللّه بن عمر، فقال: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: نشدتك اللّه، الثوب الذي ائتزرتُ به أهو ثوبك؟ قال: اللهم نعم. فقال سليمان: أما الآن فقل نسمع. -ودخل أعرابي على بعض الملوك فقال: رأيتني فيما أتعاطى من مدحك كالمخبر عن ضوء النهار الباهر، والقمر الزاهر، الذي لا يخفى على الناظر، وأيقنت أني حيث انْتهى في القول منسوب إلى العجز، مقصر عن الغاية. فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك، ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك. -وقال علي كرم اللّه وجهه: عيب الكلام تطويله.
كلما تناولت كتاباً من كتب التراث العربي تتعزز في نفسي حقيقة جوهرية هي أن كتب التراث ينبغي أن تقرأ على ريث وأناة، لأن الكثير مما انطوت عليه في تضاعيفها يستدعي فضل تأمل ومحاكمة، إن أردنا أن نستخلص منها ما يعنينا اليوم.
وما يعنينا منها يتفاوت في طريقته من قارئ إلى أخر، أو من باحث إلى سواه، كما يختلف باختلاف الهدف... فثمة قراء يتخيرون ما يعرض لهم من جميل القول ومستعذب النظم ومستملح الطرائف....
ويعولون على مثل هذا في رسم صورة لمجتمع آمن خليّ. وبعضهم ينتخب مايقف عليه من أخبار الظلم والغدر والقتل والخيانة.. فتقوم في نفسه صورة بشعة لماض مظلم متخلف، ويرى فريق ثالث أن كتب التراث قد تضمنت فيضاً من صور البطولة والشجاعة والكرم والوفاء والنجدة وسائر مظاهر الخير والعلاقات الإنسانية النبيلة... ويرى المعنيُّ بالجانب الفكري أن تاريخ العرب قد عرف على نحو واضح جلي كثيراً من ألوان الديمقراطية الحقة، وقدراً حقيقياً من سيادة قيم العدل والمساواة ورعاية حقوق الناس ومشاعرهم وأمنهم وكرامتهم.
إلى جانب ذلك كله تستوقف القارئ أنواع من الهموم الإنسانية والمعاناة حتى ليبدو العربي القديم مؤرقاً مذعوراً كطير القطا الجفول... وفي تراثنا الغني كلام طويل عن الحكماء والعقلاء والدهاة... وكلام طويل عن أخبار الحمقى والمغفلين.. ألست تقرأ أخبار العُمَرَين إلى جانب أخبار مسيلمة الكذاب وأبي رغال وأبي جهل؟! أذكرك بهذا لأقول: إن استرجاع بعض مواقف السلف أو أقوالهم لا يعني إسقاطها على الحاضر أو المستقبل. ولا يعني استقراءها بمعاييرنا العلمية أو الأخلاقية، كما لا يعني أن نلتمس فيها رموزاً تفترضها، فالفكر العظيم يتأبى على أن تقسره ليكون مطية نزعاتك.. والقارئ المنصف يترك للأثر الذي يقرؤه حرية الاتجاه والمدى الكافي للتنفس والاتساع والإيحاء.. ترى كيف كان يفكر بعض السابقين عندما قالوا -أوقيدوا- بعض ما سأذكر ذلك؟!..
-عن الأصمعي قال: بلغني أن رجلاً قال لأويس القرني (أحد النساك) إني آنس بك.
فقال أويس: ما كنت أحسب أن أحداً يستوحش مع اللّه. قال: فأين تأمرني أن أنزل؟ قال: عليك بالشام، فانزل سيف بحرها. قال: فكيف بالمعاش؟ قال: أفخالط اليأس القلوب فما تنفعها موعظة؟ تفر إلى الله وتتهمه في رزقك؟!
-قالوا: وكان زياد بن أبيه إذا ولى رجلاً عملاً قال له: خذ عهدك، وسر إلى عملك، واعلم أنك مصروف رأس سنتك، وأنك تصير إلى أربع خلال، فاختر لنفسك، إنا إن وجدناك أميناً ضعيفاً، استبدلنا بك لضعفك، وسلّمتك من معَرَّتنا أمانتُك، وإن وجدناك قوياً خائناً استهنّا بقوتك، وأحسنا على خيانتك أدبَك، فأوجعنا ظهرك، وأثقلنا غُرْمك، وإن جمعت علينا الجرمين جمعنا عليك المضرتين، وإن وجدناك أميناً قوياً، زدنا في عملك، ورفعنا ذكرك، وكثّرنا مالك، وأوطأنا عقبك (أي رعينا أبناءك).
-قالوا: وكان بالمدينة غلام أحمق، فقال لأمه: يوشك أن تريني عظيم الشأن.
قالت: وكيف؟ فواللّه ما بين لابتيها أحمق منك. فقال: واللّه ما رجوت هذا الأمر إلا من حيث يئست منه، أما علمت أن هذا زمان الحمقى، وأنا أحدهم؟!
-وقال رجل من جلساء عمر بن عبد العزيز لرجل سمعه يتكلم بكلام أعجبه: إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا تركنا العمل بما علمنا، ولو أنا عملنا بما علمنا لأوتينا علماً لا تقوم له أبداننا.
-وعن الأصمعي قال: وقف أعرابي على قوم يغتابون رجلاً من إخوته فقال:
أبطئوا عن عيب من لو كان حاضراً أسرعتم إلى مدحه، فرب مغتاب لغيره بما هو فيه، ومادح لسواه بما لا يُعْرَف به.
-وعن العتبي قال: بُعِث إلى عمر بحلل، فقسمها، فأصاب كل رجل ثوباً، ثم صعد المنبر وعليه حلة، (والحلة ثوبان) فقال: أيها الناس ألا تسمعون؟ فقال سلمان: لا نسمع. فقال عمر: ولم يا أبا عبد اللّه؟ قال: إنك قسمت علينا ثوباً ثوباً، وعليك حلة. فقال: لا تعجل يا أبا عبد اللّه، ثم نادى عبد اللّه (ابنه) فلم يجبه أحد، فقال: يا عبد اللّه بن عمر، فقال: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: نشدتك اللّه، الثوب الذي ائتزرتُ به أهو ثوبك؟ قال: اللهم نعم. فقال سليمان: أما الآن فقل نسمع.
-ودخل أعرابي على بعض الملوك فقال: رأيتني فيما أتعاطى من مدحك كالمخبر عن ضوء النهار الباهر، والقمر الزاهر، الذي لا يخفى على الناظر، وأيقنت أني حيث انْتهى في القول منسوب إلى العجز، مقصر عن الغاية. فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك، ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك.
-وقال علي كرم اللّه وجهه: عيب الكلام تطويله.