عصفور للفجر الفضي

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : مســعود بوبو | المصدر : www.awu-dam.org

قالت: نحن ننظر إلى المسألة بمنظار محايد، برؤية أوربية تحاول أن تكون منصفة وموضوعية..

قلت: حسناً‍! وأنا سأعيد توضيح الأمر بطريقة أخرى، بطريقة إيحائية إنسانية، إن سمحت لغتي الفرنسية المتواضعة بذلك... عملياً ماذا يفعل هؤلاء المشردون؟ وتحت أية دوافع؟ وهل حقاً نزعوا من أنفسهم الحس الإنساني، بتلك التصرفات!.. أحد هؤلاء الفدائيين حكى لي مرة القصة التالية:‏

قال: كنا أربعة اجتزنا الحدود إلى الداخل، وكان المطر شديداً، والريح كانت غربية قوية، حركياً كانت تناسبنا، وهكذا اقتربنا من موقع إسرائيلي كنا رصدناه من قبل، وعندما صار في المدى المجدي لأسلحتنا توزّعْنا.. كانت الخطة، إن نجحت العملية أن نلتقي في نقطة حددناها، وإن لم تنجح يتجه اثنان منا نحو الداخل أيضاً، لهما أهل بالداخل طبعاً، ويتجه اثنان إلى الخلف عبر طريق جبلي صعب... واشتد انهمار المطر... تقول السماء فتحت كل أبوابها!. تقول قامت القيامة؟!... من يدري ما الذي حدث وكيف حدث! أمْطَرْنا الموقع بكل ما في حوزتنا من الأسلحة الفردية.. كانت معمعة حقيقية يا أستاذ: انفجارات، وصراخ ونيران، وأضواء كاشفة.‏

... من كان يعتقد أنهم نصبوا أضواء كاشفة في الأشجار؟! يا رجل صار الليل كالنهار... والأضواء في مثل هذه الحالة سلاح ذو حدين، كشفتنا وحجزت عنا رؤية الموقع، لكن واحدنا كان يقفز كالنمر بعد كل رشة إلى موقع تبادلي، لأن ناره تكشفه. وحوصرنا، جاءت نجدة وتكاثروا من حولنا، تفوق واضح بالإمكانيات. ولم يبق من خيار لنا أنا وأحمد في الخلف، سوى الانسحاب من الطريق الجبلي، خاصة بعد نفاد ذخيرتنا، وبعدما قدرنا أن أحد عناصر المجموعة أصيب، أو ابتعد، لأن وميض النار انقطع من جهته... واندفعنا مصعدين في الطريق الصعب، وكل الطرق صعبة، بل ما من طريق هناك... أدغال وصخور ومنحدرات وعرة، وربما ألغام أو أسلاك مكهربة... وتابعنا الصعود بمشقة غير مهتمين بالمخاطر... ومتى كنا آمنين منها؟!. حتى في بيوتنا نحن في خطر، نحن الغرقى فما خوفنا من البلل؟!.‏

كانت أصواتهم تلاحقنا قوية بفعل الريح العاصفة: طلقات، وأصوات محركات، ونباح كلاب، ومناداة باللاسلكي على ما يبدو... ونحن كنا نلهث ونتحدث، وأحياناً نضحك، الرياح الفلسطينية معنا فلا يسمعوننا وشيئاً فشيئاً ابتعدت أصواتهم، واقترب الفجر الشرقي فكان علينا أن نختبئ لأنه من غير المعقول أن نمشي في النهار، وكنت أعرف مغارة في هذا الجبل من أيام الطفولة، أنا ابن المنطقة كما تعلم.. واهتدينا إلى المغارة فدخلناها.. وكان المطر قد كف عن التسكاب.. كنت منهكاً متلاحق الأنفاس، وشعرت بكآبة ثقيلة كالرصاص تجثم على صدري. استدرت متحاملاً على قواي، مستنداً إلى باب المغارة وأرسلت نظرة نحو السهل الواطئ الذي صار بعيداً: كانت النيران ما تزال تشتعل، وحركة سيارات واضحة من أضوائها، ولم أسمع أية أصوات، جنوب الموقع بقليل ومضت قنبلة مضيئة، تبعتها أخرى.. استباح المكان الضوء، بدا كل ما حوله جهيراً للعين يكشف كل خبيء.. ومن داخل المغارة كان صوت أحمد ينبعث موزعاً بين الشهيق والشخير، هل غفا؟! لم أكلمه... وببطء وحذر رحت أتقرى جوف المغارة... بإصبعي وبقدمي.. وبغتة وقفت أصابعي.. غريزياً وقفت... وفكرت، ماذا يمكن أن يكون هذا الجسم الصغير الأملس؟! حشرة في الشتاء القارس؟! مستحيل! تلمسته مرة أخرى.. وأدركت بغير تردد أنه عصفور.. عصفور صغير يوشك أن يتجمد من البرد. أخذته بين راحتيّ، ولم يبد مقاومة أو نفوراً.. مخلوق غض صغير، طري الملمس ناعم.. تذكرت طفلي الصغير، وحشرج في حلقي شيء ما، صعد نحو العينين، ثم أخرج تنهيدة متأنية.. ونسيت أحمد وصوته، نسيت مايغتلي في السهل المنخفض، وغادرتني نهائياً هواجس العودة.. ومصير زميلينا اللذين اتجها نحو الداخل، أو استشهدا.. غير بعيد من هنا كانت عصافير كثيرة مازالت أصواتها وألوان أجنحتها في البال.. كان تين وعنب وأغان وقمح وصبايا تحب جني الزيتون... كان الليل الخلي يأتي مشـ.. وبدأ العصفور يتململ في دفء راحتي.. أين سحبتني الذاكرة؟! لعلي ابتعدت! وراح طرير حوامة يقترب. وازداد حتى أحسست أنها ستحط فوق المغارة.. انتفض أحمد مذعوراً.. واضطرب العصفور وحرك جناحيه.. أمسكت برجليه فراح يرفرف ويسقسق قلق العينين... قبلته.. وأطلقته، فاعتلى ثم غاص في ضوء الفجر الفضي.... ثم أغمضت عيني لأنام نصف سنة.‏

قالت المرأة الفرنسية: أتعني أن الفدائيين من جمعية الرفق بالحيوان؟ ابتسمت لها. ولم أقل شيئاً...‏