ها هو يوم آخر. نهضت بعد أرق الليل. تحركت كما في الأمس. احتسيت القهوة. ارتديت ملابسي، فتحت الباب، وخرجت. مشيت كما في كل يوم. أحياناً تحت المطر، وأحياناً بلا مطر، قد يكون برد أو حر، أرى وجوهاً مبتهجة، أو بلا صفات، أتجاهل كل أمر، لا فرق إن أزبد البحر أم أمطرت السماء، إن زلزلت الأرض أم سكن الفضاء، ففي منطقة ما من الداخل يوجد مؤشّر يعيد الأشياء إلى الصفر أو النقطة التي تبلّدت عندها الأحاسيس وانعدمت الأحلام، فالأمور في طريقها إلى الحقيقة حيث يتحول إلى كل شيء إلى لا شيء. كان الشارع مكتظّاً بالناس، بعربات الباعة الجوّالين، أطلت النظر نحو البعيد، كل شيء مسطّح، الأبنية والأشجار، الأعمدة والجدران، سكينة تخترق الطريق، أقدام متعبة، رؤوس منكّسة، المسافات بعيدة، والنهايات واحدة، وأنا نقطة في بحر الحياة، أتحرك مستسلمة للآتي، للقادم، مذ ماتت الأسئلة وتوقف البحث، أمشي، أكرر الأرقام، وراء كل خطوة، واحدة، اثنتان، ثلاث، أعود ثانية إلى البداية، أعدّ، أعدّ، لا شيء يجدّد الحياة، كل الأمور تصب في بوتقة واحدة، كل الناس نحو هدف واحد، الجائع والمتملّق، الصغير والكبير، كل شيء بعيد عن الجمال، اختلفت المعاني، الحب والحاجة والأهداف، تعدّدت الأسباب والمنطلقات، لا شيء يستحق التفكير، لا شيء يستحق الاهتمام. في غمرة ما أنا به، سحبني صوت ارتطام على الأرض، ملت بلا مبالاة، وجدت طائراً يتخبط وقد فرد جناحيه وكأنه في النزع الأخير. هبطت بطريقة لا شعورية، حملته، عدت أدراجي نحو البيت، نحو صنبور الماء، وبأصابعي نقلت القليل إلى جوفه، ربما ينتعش أو ينفي مظاهر الموت، غير أنه مات. عدت للطريق ببساطة، للفراغ الطويل، لا يعنيني أحد، أو مكان، قدماي وعيناي تعرفان الطريق، اكتشفت بأنني لا أعرف التفكير أو أنني لست مهيأة لذلك، وخلال ومضة فوجئت بالسؤال القديم، ما الذي شتّت ذهني؟ أو ما الذي بعثر مشاعري؟ لماذا غادرني الشوق؟ لماذا احتلّني الضياع؟ استغربت، إذن أنا أبحث عن سبب، وهذا يعني تأشيرة خروج من الحالة المزمنة التي أعيشها، أبحث عن شيء لا أدري ما هو، لكنه موجود في مكان ما، في زمن ما، غير أنه لا يشبه ما أنا به في شيء. كانت السماء مغبرة قليلاً. إنه الغروب، غروب الصباح، مثلما تغرب شمس النفوس، وشمس السماء، الناس والطبيعة متآزران، فكرت، هذا مزيد من التشاؤم، سأفكر بأشياء مختلفة تزاحمت الصور في ذاكرتي بسرعة، متسوّلة تحمل طفلها وهو عاري الرأس والقدمين، طفل آخر يسأل العون، فتيات يتسكعن بوجوه مصبوغة، رجل يحتج على فواتير الهاتف والكهرباء، خادمة لا تتعدى العاشرة من عمرها، سمسار يمتطي سيارته الفاخرة. أبعدت الصور عن عيني، ذلك لا يعنيني في شيء، أن يسقط عامل من طابق عاشر، أو يموت جاري بمرض عضال، أن أصل إلى القمة أو أسقط إلى الهاوية، أن تدّق الطبول أو تقرع الأجراس، كل الأمور تنتهي أخيراً، يطويها الزمن والنسيان، ربما كانت في استمرار، غير أن اللحظة تختلف، تتبدل وتتغير، تحمل الجديد، نهاية لشيء، وبداية لآخر، تتكرّر الأحداث، لكن بصور وأزمان وحقائق مختلفة، قال لي أحد الزملاء يجب الابتعاد عمّا هو مؤلم، يجب أن نتذكر ما هو جميل، فكرت بالنسمة التي كان لها فيما مضى فعل السحر، والكلمة التي تحمل أعذب الألحان، كان كل شيء عذباً فأرى نفسي منخرطة مع الآخرين، في الفرح والحزن وأكتشف في كل مناسبة ما في أعماقي من حب وعطاء، وأتلمس في لحظات الهدوء سعادة هي في جلب البهجة إلى المحيط، وإزاحة الأسى، ومقدرة على المشاركة وأنا مشحونة بالثقة والأمل. هاجمتني صورة الطائر الذي مات، شعرت باللامبالاة، انتقلت إلى غبرة السماء التي ملأت مساحة عيني، إلى الحر المشتّد، صدح صوت بائع الغاز، بائع الحظ، وقعت عيناي على ملصقات الجدران، مطرب وراقصة، متوفّون، لافتات، أشحت ببساطة، كانت قدماي تتجهان نحو مقر عملي، لا أحمل ذكرى أو أفكاراً. دخلت الغرفة كالعادة، الجو مكتظّ بدخان السجائر، قرقعة أقداح القهوة، ردّت إحدى الزميلات تحيّة الصباح، تساءل آخر عن تأخري، نظرت إلى ساعة الحائط، ببساطة، جلست ألملم بعض الأوراق، وخلال دقائق كنت أشغل نفسي بالعمل. بدا الجو ساكناً، للعمل نكهة العدم، كما لعقم الأيام، كل الأشياء متشابهة، الليل والنهار، الدقائق والساعات، أشياء تشبه التعوّد والتكرار، تشبه الملل، يتساوى الرفض والقبول، الحب والكره، التوقّف أو الاستمرار. في تلك السكينة، التقطت عيناي شيئاً ما يعبر خلف النافذة، رفعت رأسي، كان طائر يروح ويجيء، ذكّرني بطائر الصباح، وبطريقة لا شعورية رحت أراقبه، كان مختلفاً، يبدو قوياً، يطير بحركة دائرية، يعود في كل مرة إلى الشرفة المطلّة على الغرفة، يخفق بجناحيه، فيبدو وكأنه يشارف على السقوط، غير أنه يصرّ على المحاولة والطيران من جديد بطريقته الهندسية اللافتة، وخلال ثوان هيِّئ لي أن مصيره قادم كما حدث للآخر، فكرت ببساطة، لماذا تموت الطيور هذا الصباح؟ نهضت. وقفت عند الباب. جذبتني حركة في أرض الشرفة، حدّقت، كان فرخ طائر صغير فقد التوازن، يتمايل بجناحين، ملأهما ريش أسود ناعم، بدا في حركته وكأنه يستجدي العون، ارتجف فجأة وقنط، كنت قد فتحت الباب وهممت بالخروج، نقلت نظري بينه وبين العش المبني بدقّة في الأعلى وبين الطائر الذي مازال يدور في الفراغ، كان رأسي يعمل بسرعة، وقد تجسّد المشهد لعيني، بيت وأسرة، أم وأطفال، راقبتهما لحظات وأنا مكتوفة الأيدي، كان الطائر يذهب في رحلة أمتار ويعود إلى الشرفة، واثقاً جريئاً، يرخي جناحيه فوق الصغير، يرفرف بقوة ويعود إلى البداية، في حين سكن هذا، والتصق بالأرض ليبدو أقل حجماً، برأسه المتمايل، وريشه الموزع بدقة، وجسده الضئيل المنكمش. بدا الطائر مصرّاً حتى النهاية، وهيِّئ لي بأن المشهد قد طال، خاصّة وهو يعود في كل مرة أكثر جرأة وقوة. كان جميلاً بريشه الأسود اللمّاع، بجناحيه المصفّقين، وبإصراره، كأنه يريد شيئاً، أن يقوم بفعل ما، مازال الصغير في أرض الشرفة، يرفع رأسه إلى الأعلى ينتظر شيئاً، يصفّق بجناحيه الصغيرين، ويراقب الطائر الذي يتعمّد الدوران فوقه، قبل أن يعود ويكرّر المحاولة من جديد. أتاني شعور أن الطائر في مأزق، ويقين بأهمية ما يقوم به. وجدت نفسي أغوص في التساؤلات، وخلال ومضة، دفعني شعور غامض نحوه، إنه يطلب المساعدة، بل إنه يريد الحياة، له هدف، وطريق، وبداية واستمرار، ودون أن أدري شعرت بشيء يهزّني، شيء يدفعني للمشاركة، اندفعت، هبطت نحو الصغير، وضعته فوق كفي، كنت أرتجف وأنا أهمس له بالاطمئنان، وأبسطه إلى الأمام مواجهاً للطائر المحلّق، وكأنني نقطة في مسيرته المرجوّة، انتظر اقترابه بتحفّز مشوب بالرهبة. ازدادت السرعة فجأة، ضاقت الدائرة، اتجه الطير نحو راحة كفي، اقترب، لامس جناح الصغير، ابتعد ثانية ليعيد الكرّة من جديد، خفق قلبي بشدّة، شعرت بأنني نقطة الوصل، كل شيء في أعماقي يتدفّق، يأمل، تقلّصت أصابعي، تململ الصغير، وقف، رفرف قليلاً، اقترب الطير للمرة الأخيرة، لامس أصابعي بجناحيه، مال نحو الصَّغير الذي رفرف بقوة، ثم اندفع يلحق بالطائر بين دهشتي، وما حملته خلال الدقائق القليلة. حضنت كفي، شيء في أعماقي يتدفّق، شيء أكبر من الدهشة والإعجاب، شيء يشبه الوجل، لم أكن أسمع شيئاً آخر، كان قلبي يخفق وهما يبتعدان، تلاحقهما عيناي بحب، كل الأشياء جميلة، السماء والشجر، الأرض والبشر، شعرت بالبهجة، حملت أشيائي وعدت، طالعتني الابتسامات العذبة، الآملة، تلك اللحظات، مرّ شريط طويل من الذكريات، بما فيها الحب والأمل، الحزن والشقاء والفرح، شعرت برغبة الاستمرار، برغبة المتابعة، كان لي قدرة على الطيران والتحليق، نظرت إلى الجميع بحب، وابتسمت
ها هو يوم آخر. نهضت بعد أرق الليل. تحركت كما في الأمس. احتسيت القهوة. ارتديت ملابسي، فتحت الباب، وخرجت.
مشيت كما في كل يوم. أحياناً تحت المطر، وأحياناً بلا مطر، قد يكون برد أو حر، أرى وجوهاً مبتهجة، أو بلا صفات، أتجاهل كل أمر، لا فرق إن أزبد البحر أم أمطرت السماء، إن زلزلت الأرض أم سكن الفضاء، ففي منطقة ما من الداخل يوجد مؤشّر يعيد الأشياء إلى الصفر أو النقطة التي تبلّدت عندها الأحاسيس وانعدمت الأحلام، فالأمور في طريقها إلى الحقيقة حيث يتحول إلى كل شيء إلى لا شيء.
كان الشارع مكتظّاً بالناس، بعربات الباعة الجوّالين، أطلت النظر نحو البعيد، كل شيء مسطّح، الأبنية والأشجار، الأعمدة والجدران، سكينة تخترق الطريق، أقدام متعبة، رؤوس منكّسة، المسافات بعيدة، والنهايات واحدة، وأنا نقطة في بحر الحياة، أتحرك مستسلمة للآتي، للقادم، مذ ماتت الأسئلة وتوقف البحث، أمشي، أكرر الأرقام، وراء كل خطوة، واحدة، اثنتان، ثلاث، أعود ثانية إلى البداية، أعدّ، أعدّ، لا شيء يجدّد الحياة، كل الأمور تصب في بوتقة واحدة، كل الناس نحو هدف واحد، الجائع والمتملّق، الصغير والكبير، كل شيء بعيد عن الجمال، اختلفت المعاني، الحب والحاجة والأهداف، تعدّدت الأسباب والمنطلقات، لا شيء يستحق التفكير، لا شيء يستحق الاهتمام.
في غمرة ما أنا به، سحبني صوت ارتطام على الأرض، ملت بلا مبالاة، وجدت طائراً يتخبط وقد فرد جناحيه وكأنه في النزع الأخير.
هبطت بطريقة لا شعورية، حملته، عدت أدراجي نحو البيت، نحو صنبور الماء، وبأصابعي نقلت القليل إلى جوفه، ربما ينتعش أو ينفي مظاهر الموت، غير أنه مات.
عدت للطريق ببساطة، للفراغ الطويل، لا يعنيني أحد، أو مكان، قدماي وعيناي تعرفان الطريق، اكتشفت بأنني لا أعرف التفكير أو أنني لست مهيأة لذلك، وخلال ومضة فوجئت بالسؤال القديم، ما الذي شتّت ذهني؟ أو ما الذي بعثر مشاعري؟ لماذا غادرني الشوق؟ لماذا احتلّني الضياع؟ استغربت، إذن أنا أبحث عن سبب، وهذا يعني تأشيرة خروج من الحالة المزمنة التي أعيشها، أبحث عن شيء لا أدري ما هو، لكنه موجود في مكان ما، في زمن ما، غير أنه لا يشبه ما أنا به في شيء.
كانت السماء مغبرة قليلاً. إنه الغروب، غروب الصباح، مثلما تغرب شمس النفوس، وشمس السماء، الناس والطبيعة متآزران، فكرت، هذا مزيد من التشاؤم، سأفكر بأشياء مختلفة تزاحمت الصور في ذاكرتي بسرعة، متسوّلة تحمل طفلها وهو عاري الرأس والقدمين، طفل آخر يسأل العون، فتيات يتسكعن بوجوه مصبوغة، رجل يحتج على فواتير الهاتف والكهرباء، خادمة لا تتعدى العاشرة من عمرها، سمسار يمتطي سيارته الفاخرة.
أبعدت الصور عن عيني، ذلك لا يعنيني في شيء، أن يسقط عامل من طابق عاشر، أو يموت جاري بمرض عضال، أن أصل إلى القمة أو أسقط إلى الهاوية، أن تدّق الطبول أو تقرع الأجراس، كل الأمور تنتهي أخيراً، يطويها الزمن والنسيان، ربما كانت في استمرار، غير أن اللحظة تختلف، تتبدل وتتغير، تحمل الجديد، نهاية لشيء، وبداية لآخر، تتكرّر الأحداث، لكن بصور وأزمان وحقائق مختلفة، قال لي أحد الزملاء يجب الابتعاد عمّا هو مؤلم، يجب أن نتذكر ما هو جميل، فكرت بالنسمة التي كان لها فيما مضى فعل السحر، والكلمة التي تحمل أعذب الألحان، كان كل شيء عذباً فأرى نفسي منخرطة مع الآخرين، في الفرح والحزن وأكتشف في كل مناسبة ما في أعماقي من حب وعطاء، وأتلمس في لحظات الهدوء سعادة هي في جلب البهجة إلى المحيط، وإزاحة الأسى، ومقدرة على المشاركة وأنا مشحونة بالثقة والأمل.
هاجمتني صورة الطائر الذي مات، شعرت باللامبالاة، انتقلت إلى غبرة السماء التي ملأت مساحة عيني، إلى الحر المشتّد، صدح صوت بائع الغاز، بائع الحظ، وقعت عيناي على ملصقات الجدران، مطرب وراقصة، متوفّون، لافتات، أشحت ببساطة، كانت قدماي تتجهان نحو مقر عملي، لا أحمل ذكرى أو أفكاراً.
دخلت الغرفة كالعادة، الجو مكتظّ بدخان السجائر، قرقعة أقداح القهوة، ردّت إحدى الزميلات تحيّة الصباح، تساءل آخر عن تأخري، نظرت إلى ساعة الحائط، ببساطة، جلست ألملم بعض الأوراق، وخلال دقائق كنت أشغل نفسي بالعمل.
بدا الجو ساكناً، للعمل نكهة العدم، كما لعقم الأيام، كل الأشياء متشابهة، الليل والنهار، الدقائق والساعات، أشياء تشبه التعوّد والتكرار، تشبه الملل، يتساوى الرفض والقبول، الحب والكره، التوقّف أو الاستمرار.
في تلك السكينة، التقطت عيناي شيئاً ما يعبر خلف النافذة، رفعت رأسي، كان طائر يروح ويجيء، ذكّرني بطائر الصباح، وبطريقة لا شعورية رحت أراقبه، كان مختلفاً، يبدو قوياً، يطير بحركة دائرية، يعود في كل مرة إلى الشرفة المطلّة على الغرفة، يخفق بجناحيه، فيبدو وكأنه يشارف على السقوط، غير أنه يصرّ على المحاولة والطيران من جديد بطريقته الهندسية اللافتة، وخلال ثوان هيِّئ لي أن مصيره قادم كما حدث للآخر، فكرت ببساطة، لماذا تموت الطيور هذا الصباح؟
نهضت. وقفت عند الباب. جذبتني حركة في أرض الشرفة، حدّقت، كان فرخ طائر صغير فقد التوازن، يتمايل بجناحين، ملأهما ريش أسود ناعم، بدا في حركته وكأنه يستجدي العون، ارتجف فجأة وقنط، كنت قد فتحت الباب وهممت بالخروج، نقلت نظري بينه وبين العش المبني بدقّة في الأعلى وبين الطائر الذي مازال يدور في الفراغ، كان رأسي يعمل بسرعة، وقد تجسّد المشهد لعيني، بيت وأسرة، أم وأطفال، راقبتهما لحظات وأنا مكتوفة الأيدي، كان الطائر يذهب في رحلة أمتار ويعود إلى الشرفة، واثقاً جريئاً، يرخي جناحيه فوق الصغير، يرفرف بقوة ويعود إلى البداية، في حين سكن هذا، والتصق بالأرض ليبدو أقل حجماً، برأسه المتمايل، وريشه الموزع بدقة، وجسده الضئيل المنكمش.
بدا الطائر مصرّاً حتى النهاية، وهيِّئ لي بأن المشهد قد طال، خاصّة وهو يعود في كل مرة أكثر جرأة وقوة. كان جميلاً بريشه الأسود اللمّاع، بجناحيه المصفّقين، وبإصراره، كأنه يريد شيئاً، أن يقوم بفعل ما، مازال الصغير في أرض الشرفة، يرفع رأسه إلى الأعلى ينتظر شيئاً، يصفّق بجناحيه الصغيرين، ويراقب الطائر الذي يتعمّد الدوران فوقه، قبل أن يعود ويكرّر المحاولة من جديد.
أتاني شعور أن الطائر في مأزق، ويقين بأهمية ما يقوم به. وجدت نفسي أغوص في التساؤلات، وخلال ومضة، دفعني شعور غامض نحوه، إنه يطلب المساعدة، بل إنه يريد الحياة، له هدف، وطريق، وبداية واستمرار، ودون أن أدري شعرت بشيء يهزّني، شيء يدفعني للمشاركة، اندفعت، هبطت نحو الصغير، وضعته فوق كفي، كنت أرتجف وأنا أهمس له بالاطمئنان، وأبسطه إلى الأمام مواجهاً للطائر المحلّق، وكأنني نقطة في مسيرته المرجوّة، انتظر اقترابه بتحفّز مشوب بالرهبة.
ازدادت السرعة فجأة، ضاقت الدائرة، اتجه الطير نحو راحة كفي، اقترب، لامس جناح الصغير، ابتعد ثانية ليعيد الكرّة من جديد، خفق قلبي بشدّة، شعرت بأنني نقطة الوصل، كل شيء في أعماقي يتدفّق، يأمل، تقلّصت أصابعي، تململ الصغير، وقف، رفرف قليلاً، اقترب الطير للمرة الأخيرة، لامس أصابعي بجناحيه، مال نحو الصَّغير الذي رفرف بقوة، ثم اندفع يلحق بالطائر بين دهشتي، وما حملته خلال الدقائق القليلة.
حضنت كفي، شيء في أعماقي يتدفّق، شيء أكبر من الدهشة والإعجاب، شيء يشبه الوجل، لم أكن أسمع شيئاً آخر، كان قلبي يخفق وهما يبتعدان، تلاحقهما عيناي بحب، كل الأشياء جميلة، السماء والشجر، الأرض والبشر، شعرت بالبهجة، حملت أشيائي وعدت، طالعتني الابتسامات العذبة، الآملة، تلك اللحظات، مرّ شريط طويل من الذكريات، بما فيها الحب والأمل، الحزن والشقاء والفرح، شعرت برغبة الاستمرار، برغبة المتابعة، كان لي قدرة على الطيران والتحليق، نظرت إلى الجميع بحب، وابتسمت