هــو.. وليلى

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : ماري رشو | المصدر : www.awu-dam.org

أشار إلى صدره بأصابع دقيقة. قال بصوت أجشّ:‏

-أنا رجل ناجح، لي اسم وهوية. أتحرك. أكبر. أما أنت؟ تابع باستخفاف:‏

-أنت شبح، لا اسم لك ولا عنوان.‏

أصلح وضع المرآة. حدق في العينين المنفرجتين. تنبّه إلى نظرات الرجل القابع خلف الصفحة الزجاجية. ابتعد محتفظاً بآخر انطباع. ارتمى في فراشه وهو يتمتم:‏

-أكره هذه الصورة.‏

*******‏

منذ أيام وهو على حالته هذه. يستلقي في الفراش. ينهض. يواجه المرآة. يحدث نفسه. يفكّر بليلى التي غادرته. يحاورها. تهرب منه. يناديه رجل المرآة. ليلى محقّة. ينتفض. إنه يريدهما معاً. ليلى ورجل المرآة.‏

دخل الغرفة يسترق الخطوات. أغلق الباب بتأن. يتبعه ظل. يسبقه. يدخل الصفحة الزجاجية. رجلان متحفّزان. يفصل بينهما جسم لامع.‏

آثار الليل أنهكت الوجه والعينين. حدّق إلى الشعر الأشعث. إلى الابتسامة الهازئة. انقبض. أدار وجهه متمتماً:‏

-لقد قررّت.. وتابع:‏

-قرّرت الاستمرار في عملي.‏

صمت. عاد ينظر إلى المرآة. بدا الرجل غاضباً. كان قد اتهمه بالأمس. وصف أعماله بالسطو. كانت ليلى تشارك رجل المرآة الرأي. إنهما يتّهمانه معاً.‏

كان جاداً ومستغرباً. إنه رجل مختلف. حباه الله بالذكاء والفطنة. أخضع تجاربه للعمل، لكشف الخبايا. إنه قوي بالمعرفة، ويعرف ما يريد. لا يهمه رأي رجل المرآة، أو ما تقوله ليلى. أتاه صوت واثق. قال:‏

-ألا تريد ليلى؟‏

صمت. تذكّر لقاءاته معها. أصبحا يتشاجران في كل لقاء. هي ورجل المرآة متآزران. استرق نظرة من المرآة. فكّر:‏

-سيكون الجدال عقيماً. لن نتّفق أيضاً.‏

ارتدى سترته. خرج.‏

في الطريق أيضاً تذكر ليلى. هو لا يذكر زمن وجودها في حياته. شبّهها بنفسه، بقطعة من كيانه. لم يلحظ التصاقها به. لاحظ مغادرتها. أدهشه ذلك التلازم بين الاكتشاف والمغادرة. رجل المرآة يصرّ. إنها الأجمل. برحيلها يرحل الحب والخير والجمال.‏

*******‏

منذ زمن لم يعترض حياته شيء صعب. يصل دائماً إلى مبتغاه. لا يعنيه المستحيل. لا تهمه العقبات. مذ شبّ وعارك الحياة. مذ عرف التملّك ورسم لنفسه الطريق. أما طفولته؟ ابتسم للذكرى. حين أحب مرآته. تلك اللحظات المدهشة. مرآته كانت المنفذ. والقوة. كان طفل المرآة يشبهه. يحبّه. يهمس له بالأسرار. يشكو آلامه. كلما تذكّر يشعر بالأسى. كان طفلاً بائساً. لا يحب التفكير بالأطفال البائسين. لا يحب هذه الذكريات. تقلّص وجهه. لوّح ذراعه في الفراغ. شتم رجل المرآة الذي تغيّر. سمعه يدافع عن نفسه. ويقول بسخرية (الألم يلد الحب والعطاء، وآلامه هو أنجبت مزيداً من الآلام).‏

عاد إلى البيت منهكاً. لملم بقايا الأمس. صحون. زجاجات. ألقى نظرة على الغرفة. أجواء تعبق بالروائح. ألقى نظرة فيما حوله. النوافذ المحكمة. الستائر. استغرب تجاهله لكل ما يتعلّق بالعمل. انقبض. أغلق الباب. وهن في قدميه. في جسده. ارتمى في الفراش. غاب عن عمله أياماً.‏

*******‏

أزاح الغطاء عن جسده. لم يكن مرهقاً أو حزيناً. اتجه نحو المرآة باسترخاء. ألقى نظرة سريعة. أشاح. فكّر! لماذا فقد ليلى؟ لماذا فقد أشياءه الجميلة؟ مرّت الصور كشريط واه. نهض متثاقلاً. كان في ذهنه رجل المرآة. اتجه نحوه. نظر بعينيه طويلاً. قال بأسى:‏

-لماذا تكره نجاحي؟‏

-هذا صحيح! والأسباب كثيرة.‏

تململ. قال:‏

-أنا لا أستغلّ أحداً. لست أنانياً. لست وصولياً. أريد التعويض للطفل الحزين الذي يسكن أعماقي!‏

شعر رجل المرآة بالغضب، غير أنه تمالك نفسه وهو يؤكد قائلاً:‏

-طفلك بحاجة لأمان. للحب.‏

طال مكوثه في البيت. أحكم إغلاق النوافذ والأبواب. لم يشأ الرد على الهاتف الذي يرنّ باستمرار. كان جسده حاراً وعيناه ذابلتان. مشتت الذهن والتفكير. منهوك القوى، وحين ارتمى في الفراش، لا يدري كم مرّ من الوقت. حلم بكوب ماء، ويد تمسح فوق جبينه. حلم بكلمة صدق وفرح تجلبهما الحبيبة. برد في جسده وصقيع. وهن ووجع. لماذا يرتجف؟ دثّر جسده. رأسه. لم لا تكون ليلى زوجته؟ حاول استرجاع أحاديثها، مواقفها. كانت تشبه رجلاً في الذاكرة. تشبه رجل المرآة، وكأنهما اتفقا منذ الأزل.‏

-حدّثني عن عملك؟‏

-أصنع المعجزات! أسيطر على من أتعامل معهم. أنا الرابح باستمرار.‏

سألته بحزن:‏

-كيف؟‏

-إني أحفظ اللعبة جيداً. أحوم حول نقاط الضعف. أخطط. أستغل الظرف.‏

امتلأت عيناها بالدموع. كانت تفكر بالخير والحب، بالصدق والعطاء، وكان يفكر بامتلاك كل شيء، طالما حفظ طريق الوصول.‏

*********‏

لا يدري لماذا تهاجمه ذكريات الطفولة. كان يحلم باللعب كبقية الأطفال. يشتاق لحضن أم. لتمرّد. لعصيان. للمطالبة بما يحب ورفض مالا يحب. كان يعرف أن للأطفال أمهات يغفرن الذنوب، ويتحملن الصعاب، فيلجأ إلى تلك المرآة. كان يريد لنفسه أماً. لماذا ماتت أمه؟ ولماذا تزوج أبوه؟ قال له: (هي في مكانة أمك). لم يصدّقه. اختلف معه طفل المرآة. كان يحثّه على المبادرة:‏

-ثابر على الحب.. إنه عدوى.‏

ويصمتان من جديد.‏

حلم في طفولته بيوم يمسح فيه حزن الأيام. كان لا يغفو قبل التسكّع في الأزقّة. يصبح رجلاً هاماً. يأخذ بيد طفل، بيد شيخ. يعاقب الظلم. يقتل الأحزان.‏

بكى ذات مرّة، وقبل أن يغفو، حلم بيد أمه الغائبة تمسح جبينه. كان في عينيها نظرة تشبه الاعتذار. قال له طفل المرآة في الصباح:‏

-أمك لم تمت.. تراقبك من بعيد.‏

صمت. لكنه لم يصدّقه.‏

******‏

مذ دخلت ليلى حياته، وهو يشبّهها بأمه التي لا يذكرها. ربما تحمل ملامحها. كانت أمه جميلة، يجب أن تكون جميلة، وليلى جميلة أيضاً.‏

ها هي ليلى لا تفارق ذاكرته. كأنها أمامه الآن. بابتسامتها العذبة. بعينيها الصافيتين. بأحاديثها. بأحلامها. كانت تحلم بطفل ينجبه الفرح. طفل ذكي الملامح. يكبر، ويكبر معه الحب.‏

قال له أبوه ذات يوم:‏

- حين مرضت أمك، حاصرها الهم.‏

تساءل ببراءة:‏

- لم؟‏

- كانت تحبك وتخاف عليك.‏

اغرورقت عيناه. تابع أبوه:‏

- حاول أن تسعدها!‏

تساءل ببراءة:‏

- كيف؟‏

- كن طفلاً طيباً.. ورجلاً طيباً.‏

*****‏

لم ينم تلك الليلة، ومع استمرار الذكريات، أحاط به أكثر من وجه. كان موقناً من وجود أمه، وطفل المرآة، وليلى. هيئ له أن الجميع بصحبته، وليلى التي لم تفارقه. رافقته حتى الصباح. مسحت جبينه أكثر من مرة. أحضرت له الماء، سامرته. وكان مندهشاً ومغتبطاً.‏

استيقظ باكراً. آثار دموع فوق وجهه. حرّك ذراعه وقدميه. نهض. ها هو يخرج من حلم طويل. استعاد تفاصيل ليلته. جالت في خاطره أفكار تحبّها ليلى، وتحبّها أمه. شعر بالفرح.‏

مرّ الصباح. اغتسل. شرب كوباً من اللبن. استرخى على مقعد جانبي. أطال المكوث. أطال التفكير. منذ زمن لم يلحظ ما يراه الآن.غرف البيت المتّسعة. لوحات جدرانية. قطع فنية. مناضد. كتب. ابتسم. تسلّلت إليه البهجة.‏

التقت عيناه بعيني الرجل في المرآة. ملامح تشبه الطفولة. بادله ابتسامة عذبة. سرت الطمأنينة في نفسه. منذ زمن لم يبتسم لـه رجل المرآة. كرّر المحاولة. تكرّرت الابتسامة. لا يدري كم مرّ من الوقت. يذكر أن الغرفة كانت تدور. خاف في البداية. أراد الهروب. قبع في إحدى الزوايا.‏

مسح وجهه براحة كفّه. أغمض عينيه. فتحهما. تأكد أن أمراً غريباً قد حدث. حدّق إلى المرآة طويلاً. أجفل. كان إلى جانب وجه الرجل القابع في المرآة وجه ليلى.‏

لم يشك من أنه وحيداً أبداً. غير أنه التفت يبحث عنها. اقتربت منه بثقة. فتحت ذراعيها. ضمّته. عانقها فرحاً.‏

نظر إلى المرآة ثانية. اختفت ليلى. وجد الرجل الذي يشبهه مبتسماً. أشار إلى أن ليلى تعيش في أعماقه. ابتسم في سرّه مصرّاً على الكتمان. فلن يصدّقه أحد، غير أنه كان واثقاً ممّا حدث، ومن وجود ليلى التي أصرّت على الانتصار.