يجول سمعي عبر الليل. يهرب بي إلى الزوايا. أبحث عن الأمان. أعود. أنصت. ألتقط الكلمات. يهتز زجاج نافذتي. يعصف بي الوجع. يحاصرني الألم. أخبئ عيني. أبتعد. يطل وجهها بلا ألوان. يشيع الرعب في نفسي. يهزّني. أقفز بقدمين عاريتين. أشق الستارة. أبحث عن وجه ليلى. تقابلني الشرفة الموصدة: ـ سيزوّجونني! ـ يجب أن لا يحدث. ـ ربما يحدث. ـ مستحيل ستنتظرينني! ـ لا عذر لي. ـ اخلقي عذراً .. أرجوك. يناديني الصوت. أختبئ بذعر. تهاجمني قصص حديثة ومشابهة. أجفل. ستتزوّج ليلى. أنكمش. تتردّد في أوصالي أصداء المستحيل. أقف مشدوهاً، مسلوباً، يغدق الليل صور الطفولة، صوراً أزلية الملامح. ابتسم لي أبوها ذات مرّة، كان يناديني بالشقي. سألني وكنّا على أبواب الامتحانات. قال: ـ كيف استعدادك؟ ـ لابأس! ـ ستتفوّق ليلى عليك! ـ أنا مجتهد. ـ سنرى! ناداها من بيننا نحن الأطفال. حضنها. أسندت رأسها إلى كتفه. سألها إن كانت ترغب بشيء ليلبيه. عانقها بسعادة، بدا مبتهجاً قبل المغادرة، وهو يملي علينا ضرورة مراعاة الفتيات. كان يضحك من أعماقه، وكان أخوها يتوارى أحياناً، أو يتحفّز لنقاش جريء، فيرد بطريقة لا تخلو من الغيرة. قائلاً: تعودّت وجود ليلى بحكم علاقة الجوار بين أسرتينا، وتعودّت هي وجودي، وحين هاجمتنا مشاعر الحب لم نفاجأ. كان تأكيداً على استمرار العلاقة بيننا، واعترافاً ترجمه الصدق الطويل. لا أذكر أنني عانقتها عمداً، أو بعد تخطيط، كانت لقاءاتنا عفوية، لا تتعدّى اللمسة، فتشعل في جسدي رغبة اللقاء، وأدرك أنها تشاركني المشاعر، فنغرق في التحام قصير. تهرب على إثره، وأوقن أن اللقاء سيحدث. أعدّ سنوات الدراسة، أفكر بالعمل، بالمستقبل، وتهاجمني فكرة الزواج. أفرح. أخاف. يتدخّل وجه ليلى نقياً، صافياً، ( لا أريد شيئاً يا أبي). كان الأمل يدفعني للدراسة، لتحقيق الحلم، خاصّة وأن أسباب المعيشة في بيتنا، تضني أبي باستمرار، وتوقعه في متاهات التفكير، فيمنّي النفس في ساعات الأمل، بيوم أشاركه عبء الحياة والمعيشة. مازلت في مكاني، أستند إلى الجدار الباهت، وعند الوسادة غفت بعض أوراق شقيّة تفتقد اللون والأمل، كوجه ليلى المستنجد بي. ـ إني محاصرة.. لا عذر لي. ـ افعلي شيئاً. ـ وأنت؟ ـ سأفعل.. ليس الآن. بكل أشيائها تقتحم ضعفي. أخاف. أرتجف. أفكّر بأبيها الذي يشابه أبي، بظروف حياته وأحلامه، وشعوره بالمسؤولية، كان طيّباً كأبي، حدّثاني معاً عن ليلى التي ستتزوّج. استمعت إلى مؤهّلات الزوج. فكّرت بمؤهّلاتي. تراجعت. منّيت النفس بموقف ليلى التي ستصرّ على الرفض. كنت واثقاً أن حبنا محصّن ضدّ الصعاب، والهجمات، ولسوف يخترق صوتها جميع الجدران بجرأة وقوّة. عانقت الأمل تلك الليلة. كان وجهها يملأ ساحات عيني. وكنت أكتب لعينيها أجمل الكلمات. سطّرت الشعر والقصيدة. عزفت نشيد النصر، فلن يتجرّأ الليل على حبنا، لن يتجرّأ شيء، وكنت أشبهها بفراشة تواجه الريح، ولا تخشى العواصف، فأعدها بالفرح، والحب، والأمل، وحين غفوت. كانت صورة ليلى الطفلة التي لا يرد لها طلب تزغرد في أوصالي، وتملأ جوانحي. هل كنت أحب ليلى؟ هل كانت تحبني؟ أذكر أنني استيقظت ذلك الصباح على أولى الزغاريد، تبعتها العشرات. أصوات. بهجة. أفراح تنبئ عن حدث سعيد. تعلن مجيء الفرح، وقوعه، وكانت ليلى ستتزوّج. أذكر أنني سقطت وكأني أهوي في فراغ. كنت نقطة في دوار، يأخذني عبر دوائر بعيدة، لا أعرف الرجوع، لا أعرف الاستمرار، كانت أذناي تتلقّف قذائف الزغاريد، بينما الدوي يشقّ الحواجز. ويقطع المسافات، يصل كل الأسماع، ويعلن للمرّة الألف أن ليلى ستتزوّج، وترحل، وتغيب. ******** سألني والد ليلى في إحدى جلسات المساء الهادئة، وقد حنّ إلى الذكرى قائلاً: ـ اعتقدت في يوم مضى، أنك وليلى على اتفاق سينتهي بالزواج، وأبعدت الفكرة حين لم تحرّك ساكناً. ضحك والدي الذي تجلّى حنينه قائلاً: ـ أتاني شعور مشابه أيضاً، انتفى مع صمت مطبق حلّ على الاثنين. نظرت إليهما طويلاً، كانا قد شاخا، نهضت أغادر المكان، ونظرات ليلى تلاحقني، كأنها تحمّلني ذنوب المقبل من الأيام.
يجول سمعي عبر الليل. يهرب بي إلى الزوايا. أبحث عن الأمان. أعود. أنصت. ألتقط الكلمات. يهتز زجاج نافذتي. يعصف بي الوجع. يحاصرني الألم. أخبئ عيني. أبتعد. يطل وجهها بلا ألوان. يشيع الرعب في نفسي. يهزّني. أقفز بقدمين عاريتين. أشق الستارة. أبحث عن وجه ليلى. تقابلني الشرفة الموصدة:
ـ سيزوّجونني!
ـ يجب أن لا يحدث.
ـ ربما يحدث.
ـ مستحيل ستنتظرينني!
ـ لا عذر لي.
ـ اخلقي عذراً .. أرجوك.
يناديني الصوت. أختبئ بذعر. تهاجمني قصص حديثة ومشابهة. أجفل. ستتزوّج ليلى. أنكمش. تتردّد في أوصالي أصداء المستحيل. أقف مشدوهاً، مسلوباً، يغدق الليل صور الطفولة، صوراً أزلية الملامح.
ابتسم لي أبوها ذات مرّة، كان يناديني بالشقي. سألني وكنّا على أبواب الامتحانات. قال:
ـ كيف استعدادك؟
ـ لابأس!
ـ ستتفوّق ليلى عليك!
ـ أنا مجتهد.
ـ سنرى!
ناداها من بيننا نحن الأطفال. حضنها. أسندت رأسها إلى كتفه. سألها إن كانت ترغب بشيء ليلبيه. عانقها بسعادة، بدا مبتهجاً قبل المغادرة، وهو يملي علينا ضرورة مراعاة الفتيات. كان يضحك من أعماقه، وكان أخوها يتوارى أحياناً، أو يتحفّز لنقاش جريء، فيرد بطريقة لا تخلو من الغيرة. قائلاً:
تعودّت وجود ليلى بحكم علاقة الجوار بين أسرتينا، وتعودّت هي وجودي، وحين هاجمتنا مشاعر الحب لم نفاجأ. كان تأكيداً على استمرار العلاقة بيننا، واعترافاً ترجمه الصدق الطويل. لا أذكر أنني عانقتها عمداً، أو بعد تخطيط، كانت لقاءاتنا عفوية، لا تتعدّى اللمسة، فتشعل في جسدي رغبة اللقاء، وأدرك أنها تشاركني المشاعر، فنغرق في التحام قصير. تهرب على إثره، وأوقن أن اللقاء سيحدث. أعدّ سنوات الدراسة، أفكر بالعمل، بالمستقبل، وتهاجمني فكرة الزواج. أفرح. أخاف. يتدخّل وجه ليلى نقياً، صافياً، ( لا أريد شيئاً يا أبي). كان الأمل يدفعني للدراسة، لتحقيق الحلم، خاصّة وأن أسباب المعيشة في بيتنا، تضني أبي باستمرار، وتوقعه في متاهات التفكير، فيمنّي النفس في ساعات الأمل، بيوم أشاركه عبء الحياة والمعيشة.
مازلت في مكاني، أستند إلى الجدار الباهت، وعند الوسادة غفت بعض أوراق شقيّة تفتقد اللون والأمل، كوجه ليلى المستنجد بي.
ـ إني محاصرة.. لا عذر لي.
ـ افعلي شيئاً.
ـ وأنت؟
ـ سأفعل.. ليس الآن.
بكل أشيائها تقتحم ضعفي. أخاف. أرتجف. أفكّر بأبيها الذي يشابه أبي، بظروف حياته وأحلامه، وشعوره بالمسؤولية، كان طيّباً كأبي، حدّثاني معاً عن ليلى التي ستتزوّج. استمعت إلى مؤهّلات الزوج. فكّرت بمؤهّلاتي. تراجعت. منّيت النفس بموقف ليلى التي ستصرّ على الرفض. كنت واثقاً أن حبنا محصّن ضدّ الصعاب، والهجمات، ولسوف يخترق صوتها جميع الجدران بجرأة وقوّة. عانقت الأمل تلك الليلة. كان وجهها يملأ ساحات عيني. وكنت أكتب لعينيها أجمل الكلمات. سطّرت الشعر والقصيدة. عزفت نشيد النصر، فلن يتجرّأ الليل على حبنا، لن يتجرّأ شيء، وكنت أشبهها بفراشة تواجه الريح، ولا تخشى العواصف، فأعدها بالفرح، والحب، والأمل، وحين غفوت. كانت صورة ليلى الطفلة التي لا يرد لها طلب تزغرد في أوصالي، وتملأ جوانحي.
هل كنت أحب ليلى؟ هل كانت تحبني؟ أذكر أنني استيقظت ذلك الصباح على أولى الزغاريد، تبعتها العشرات. أصوات. بهجة. أفراح تنبئ عن حدث سعيد. تعلن مجيء الفرح، وقوعه، وكانت ليلى ستتزوّج.
أذكر أنني سقطت وكأني أهوي في فراغ. كنت نقطة في دوار، يأخذني عبر دوائر بعيدة، لا أعرف الرجوع، لا أعرف الاستمرار، كانت أذناي تتلقّف قذائف الزغاريد، بينما الدوي يشقّ الحواجز. ويقطع المسافات، يصل كل الأسماع، ويعلن للمرّة الألف أن ليلى ستتزوّج، وترحل، وتغيب.
********
سألني والد ليلى في إحدى جلسات المساء الهادئة، وقد حنّ إلى الذكرى قائلاً:
ـ اعتقدت في يوم مضى، أنك وليلى على اتفاق سينتهي بالزواج، وأبعدت الفكرة حين لم تحرّك ساكناً.
ضحك والدي الذي تجلّى حنينه قائلاً:
ـ أتاني شعور مشابه أيضاً، انتفى مع صمت مطبق حلّ على الاثنين.
نظرت إليهما طويلاً، كانا قد شاخا، نهضت أغادر المكان، ونظرات ليلى تلاحقني، كأنها تحمّلني ذنوب المقبل من الأيام.