تعزيــــة:
لم يحدث أن دفنت سعيدة أبناءها خشية أن يطلع النهار، فكيف أقتلع هذا الألم من قلبي فأعلقه على كبدي؟
لدمه الذي سيزهر نشيد مخضوضل في حناجر شلحها الكظم ورضرضها الصمت، أطلت شمس هذا الخريف إذ رمى خطوته الحازمة نحو معراج فرحه الضائع يرتقيه إلى قدره الرابض في توهجها المكذب نبوءة قارئة نشرة الثامنة الجوية المشنغلة بسقوط المطر على مدينتنا "الصادة" كذلك يسميها مجانين كرة القدم.
هو الصاعد عقبة قضائه إلى دمه، يده اليسرى تعرقها سخونة الرغيف الصغير، دفع ديناره المعمد بكهربية العرق المغمس في ميعة الغاز، ليلم عليه في "سيدى الشيخ" تشوش مهبئ معوصف. يصك الخباز وراءه بابا، وأمامه الدكاكين ترتدي حديدها، وإلى جانبه السيارات تنهش الإسفلت والزفت، مصدرة هلعاً، مخلفة غمغمة، نافثة تلوثا وزعيقا، فيتحول السكون المرعوب حركة، والصمت المحتدم ضجة سارية نحو نبع السيل بشرا يجرفه، فيلج في سم الخميس، فيتشبث بهتافاتهم، يعلق نبراتها المنغمة على وتر الغضب.
يتذكر حلمه فيجده ولاه سرابا هارباً يوم قالت له بنت الحومة: "أحطك في عيني، أسكنك في قلبي، لكن أهلي يئسوا من مجيء السكنى. هذا الاثنين يفتح على ولد عمتي" فانتفض فيه دمه: نحو من نسفوا قصرك الطفولي ذرات جمعتها من أغشيتك الملتهبة ومن خلاياك المتفجرة ثم شتتوها فذروها على حبر تقاريرهم تسع سنوات وقد صادروا كلمتك وصوتك، أملك وحبك وفرحتك وبهجتك".
لا رغيفه الصغير ضاع منه ولا انكسر. فلما واجهته الزرقة المتمترسة وغشي عينه لمعان جنزرتها رفع يمناه قبضة على الشمس وتحرق للقيا فطوم بنت الحومة إذا أطلت من وراء المتراس، هناك دمعا مكحلة، بالحزن موردة، بالغبن معطرة، بيضاء القلب، والروح أهيف، مهفهفة الخاطر والقبلات المبهجة، تفتح ذراعيها عروساً من جزيرة السراب، فأحس يديه تتحولان جناحين، ولكنه هتف: فطوم. وخطا قمرياً في هويناه بزي العريس عشاء خميس صيفي، فنفثت عليه الزرقة فغرست في صدره وفي رأسه نواتين ناريتين، فارتد فهمد متوسداً رغيفه الصغير مفترشاً دمه الساخن.
نام إلى الأبد. حرر دمه أقحواناً تتعطر به شمس صباح العاشر من أكتوبر، حناء ترطب تربة الخريف الأعجف، حمرة سائحة في شارع "فانون" المعبد بالشهادة، نحو حيه السعيد حيث أم وبنات وصبايا يجلجلن وأصدقاء وجيران وأهل يتخضخضون.
ومن سكنت أجسادهم النويات النارية الآتية من جحيم الزرقة المتمترسة ثمانية. هم سابعوه. والطفل الذي غافل أمه ليشهد اللعبة الماحقة هو الآخر افترش دمه ليهمد بالجوار. هم سادسوه. أرداه الطيش؟؟ قتل مغصوبا. لا علة. قلنا: أحرقه الحنين والوجد إلى سكينة وقبلة. وقال نسوة: أي فحل أضعنا؟ أما الرجال الذين أقعدهم عطب السنين فتنفسوا: لا خوف على خصوبة نسلنا. وعلق سياسي مكوي: لن تستتب في هذه المدينة مهانة. أما عذراء العذارى فأنشدت: طلعة شمس الحجرة الطويلة لخويا خالد نهار الربيع، وبسمة غيابها على جبل سيدي أحمد الزقاي عشية الخريف. فيا عذارى سعيدة اغتسلن. في حمام ربي اغتسلن. وركعتين صلين صلاة حضور لخويا خالد. في العاشر من أكتوبر انثرن على جسده ورداً برياً من جبال سعيدة العتيقة. وغمسن اسمه في عطر عذرتكن ثم اسقين روحه الظمأى عطشكن قبلات كلما تلفع دمه وخرج يختال بين شارع "فانون" وبين حيّنا السعيد.
يا عذارى سعيدة الثملات بنشوة الاستحلام تباعاً في سريره المكتسي شفق مساء نحو بدء نهاره المرصع بدرر حلمه المغتال، احتضن نجمة العاشر من أكتوبر تودعكن سر الرحيل إلى منتهى العشق، قبل أن تغتسلن في سيدي عيسى وتطفن رافلات على مصنع الورق طواف فراش نيسان، تلقحن الفحولة، تسلمكن سواعده ورقة بيضاء مصقعة من مدونة الشهادة خطت بالقرمز: أردته الزرقة فولد صوتا ليحيا ذكرى ويسري انعتاقا. جميع العاشقين يفكون خواتم دمهم، تستعصي العشيقة أو تتأبى. فيا عذارى سعيدة، جميع العاشقين للشمس قادمون. على بصيص آخر نجمة واروه التراب. لم يحدث أن دفنت سعيدة "نا" أبناءها خشية أن يطلع النهار فصبحن قبره بماء من معدنها كل سنة عجفاء يهديكهن عماله الطيبون كيلا يذبل الأقحوان وينتحر القرنفل في زمن العجافة، أنا حبيبته المسكونة غدائدي بمذاق عسلية شبابه، المفجوعة بانسياح حلمه، فكيف أقتلع من قلبي هذا الألم فأعلقه على كبدي؟
ياعذارى سعيدة أسألكن الله مغفرة إن ذرفت دمعة وغنيت نشيداً لزين الشباب، وحيد أمه هو وفخر الحومة هو، وحلم الصبايا المنتظرات. طوق دمه المدينة فلتحن. وسرى طيفه في شوارعها فلتثن، على رقاب قاتليه يجن الهاتفون بقمصيه مضمخاً نرجساً وقرنفلاً ينحتون لغداتهم نهاراً وعشقاً مؤملاً ونشيداً للعشق المفقود: من يكون وجه القمر ليلة بدره إن لم يكن خويا خالد؟
سافرة إليه بعشقي الصاهل، الحاج إلي بدمه المحمحم الشارد، من حزنه ومن مهاناتنا القابضة سبع سنين كالمارد، المتشظية سبع ساعات كالبلور كانهيار الحصن الصامد. وقف فأطلقوا، فولاهم فأطلقوا وترنح فأطلقوا. قالت الجبال المحيطة أهرقوا. وأكملت العصافير الفزعة: دما يتحول نسغا. وقلنا: بل ومن النبع أغدق.
فعزتها العذارى فيه، لم تندبه النادبات. كانت الزغردة تملأ أفق حيه السعيد، ببهجة دمه تجفل النادبات فينتكسن ويخرسن، ومن حنين أمه إليه ينظمن مرثية ينشجنها في مأثم يبعد في الأفق.
قل في العاشر من أكتوبر للأقحوان القاني. لا وقت للحزن فالزغاريد مأذن بارتفاع الدم إلى الشهادة. كذلك قالت سعيدة "ي": اليوم استكمل تنضيد تاجي لأعرس في محفل التاريخ يوم تدعى المدائن إلى ملكوت الذاكرة.
هذا المساء سابقت حروف اسمه سرعة الضوء في أعمدة إنارة مدينتنا لما سأل الناس عن وجهه تتصاف منتضدة تخرق حجاب الصمت المذهل، فتتشكل تقاسيم لجبهته وعينيه وشفتيه على وجوههم المتقابلة، يراه الواحد في الآخر فتشلح صدري آهة.
وهذا المساء حزنت مقاهي المدينة وتشحبت أزقتها، فلن يشرب فيها شاياً أبداً، أضع فيها قدما.
وغربت الشمس أكثر حزناً وراء سيدي أحمد الزقاي، وصار "السرسور والحي السعيد، الرياض والنصر والصومام، بوخرس والداودي والرائد، الكاستور وبودية" أوتادا دقها هذا الحزن في قلب المدينة ليرفع خيمته، ركيزتها نصب المدارة، ويحشد خلقها مبدلاً ليلهم العادي ليلة مختلفة لفاتحة الحكاية. قلت لفتاتي: إلى قبره حمل معه شكه في أنه مات.
وقالت هي: أعرف صديقته، ويحها من أين لها شقائق النعمان؟ وقالت طالبة لصديقها، على ظهر شهادتي الثانوية أخط بالأحمر: حتى يكسر سيف القهر. وقالت صبية لجاراتها: عرس دمه يرحل إلى عيد ميلادي. كل حرف من حروف اسمه بنوع من الحلوى. وقال نسوة مأخوذات بالمخاض في قسم الولادة: باسمه تكون مواليدنا. وقال عامل لرفاقه في شاحنة نقلهم منتصف الليل: في جنينة المعمل ننصب حجرة من رخام نحفر عليها بلون الدم: مجداً للرجال، ذكرى لدمهم، عهداً لأرواحهم.
فضلل الواحد منهم الآخر بحركة وحركة ليخفي إجهاشه وما استطعت. وتلا إمام عقب صلاة الفجر على روحه سورة "يس" وجود بالقراءات السبع "ولا تحسبن"، ثم بكى واستغفر متحمحماً وما كففت. أما الأصدقاء فقد كانوا نقلوه إلى المستشفى، هم الذين لم يسمعوا للرصاص طلقاً إلا على الشاشات، ولا رأوا آثاره الحقيقية في الصدر وفي الرأس إلا في جسده عياناً، يحسبون أن نزفه ستوقفه ضمادة، يحسب هو أن الرصاص لم يصبه إلا حلماً، يرون حجرة أو آله حادة أصابته، لا يدرون أن المعدن الناري سكن منه الصدر.
فتقطع أوصال الشك صرخة أمه في الحي السعيد: حححححاوجي، ححاوجي، فتردفها جلجلات النساء رعباً. شهقات الرجال انخنقت تجملاً. وسالت دموع الفتيان تعزيه. أما الصبايا فحشرجن نحيباً سلوانا.
فلما تحاشد جيران الحي السعيد مخضوا الواقعة: الزرقة نفثت. كان الموت. وكان المساء يصفر. وكانت خيمة الجنازة الأخرى صفراء. لم أكره غير العسف. لم يغر إلا على فطوم. كاد السد ينهد. جاء الآخرون وأطلقوا في الفضاء. تبعثر الحشد، ثم التم جاء الضابط يعزي، وأقسم بشرف البزة الخضراء أن أيادي جنوده بيضاء نقية لكن، كيف تشجرت فكرة حظر البكاء عليه جهراً هو الذي أعطى مدينتنا قلبه ثمناً للحق في الجهر بالقول؟ فتنازل العويل إلى النشيج إلى البكاء صمتا يشحن الصدور غما ضاق به الفجر فكركرها الصبح في حلقه ليقذفها مع تباشيره الأخيرة صرخات متلظية ترانيم أجراس تقرعها أعصاب الفتيان ترتجم من حناجرهم تزلزل نصب دارة المدينة، ترجرج شارع نوفمبر هبوطاً صعوداً فاحتشاداً يستنجدون بالشهداء يتوعدون القردة ينطقونها دارجة. يلوحون للشمس تشرق على جبين عذراء من الشرفة يثملها تموج الحشد، راحت تنوح أنشودة على إيقاع الهتاف: حزني على شبابك المغصوب. وأبكي ياعين على المكتوب شوفي زهر الربيع في الخريف كما البحر غاضب.
كيف سحت يا دمه في وجوههم ضارباً؟ نهدي ويا نهدي، انفر وتمط، هذا زمن العشق يغنونه. ها هم يلوحون بقميصه العبق يشيعونه إلى كل عذراء يحننون ترنيمة القرنفل. إلى الشهداء يرتلون عهد الأمل. في "لا مارين" ماجوا ثم ساروا. إلى اليمين انحرفوا ثم إلى اليسار استووا. ولكن الآخرين أطلقوا. ولكن الفتيان لم يتفرقوا. وبما تبقى لهم من هواء في رئاتهم هتفوا: عينوا القتلة. عمارات الحي السعيد كانت شرفاتها توشحها بضاضة أذرع العذارى ووجوه الأمهات الصارمة ملامحها. شيب العجائز يحكي قصة جيل الغضب. عند أقدامها كان الرجال يرفعون رؤوسهم. وكان الأطفال مبهورين يلتقطون سحر الحركات وسر الكلمات. لم يكبر الرجال. أمه وحدها حرحر حنجرتها صوت غير مبين فانتشلته حناجر جميع النسوة لتصعده زغردة تحول مأتم الزرقة عرسا للشهادة في زمن أحزان الحي السعيد.