صورة أبي منصوبة على الحائط
وجه نصف جانبي. شعر مفروق بعناية، ممسد بالزيت، نظارة دائرية مضحكة تتكئ على أرنبة أنف ناتئة.
جفنان يتهدلان على عينين ناعستين.
سترة رماديّة من الكتان، تحتها صدرية زرقاء مزرورة بأناقة، تبرز من قبّتها ربطة عنق مقلّمة.
الكف اليسرى استراحت على الخاصرة، واليمنى احتجزت بين الفكين غليوناً مبتذلاً.
الصورة إجمالاً مبتذلة، بهذا أُفكر وأنا ممدّد على القطن المنضدّ فوق حصير متآكل كقط رعديد انتبذَ ركناً قذراً في منجاة عن لؤم وخسّة مطارديه.
من خمسة عشرَ عاماً والصورة تفتح شبابيك أمل كاذب في حلكة الليالي البائسة. تضرب مواعيد مخلوفة لعودة مغترب يدعى أبي.
أذكر أبي... والكيفيّة التي هاجرَ بها بحيثيّاتها وتفاصيلها المكرورة. لم أرَ شيئاً من ذلك، ولا حتى أبي، فعمري الآن لا يتعدى الخامسة عشرة، لكنّ الضيعة تذكر... والسنديانات والمفارق والربوات وصنوبرات الجبل والمنحنيات يومَ رحيله...
كانَ نهاراً رمادياً، رائحة الشتاء تهبط من الأقبية الرطبة تنزلق على الجدران الطينية تاركةً أثر عفونة. تنساب من التربة العطشى جنيّةٌ تصوغ من الطين والبَلَل رُضاب عطر ينعش الأرواح.
الناس واجمون كأنّ جثماناً سيُشيَّع أو مهلكة ستقع، لا حسّ ولا صوت خلا همهمات انتثرت في جنبات البيت العاتم الذي أَمّهُ الغريب والقريب. وفي الساحة المسترخية قدّام باب خشبي تجمهرَ أطفال وصبية ومتطفلون يشهدون وداع ربّ الدار. وكانت شجرة لوز عمرها من عمر البيت تحني أغصانها أسفاً وبدا أنّ جذعها أوغلَ في التقشّر، وجذورها توشك أن ترخي قبضتها وترفع أصابعها الأخطبوطية عن أعناق الصخور.
وحينَ أزّت عجلات سيارة غريبة، عانقَ الجيران أبي وارتجّت أصوات النساء حادّةً في أجواء الحارة تنثر الدعوات بالتوفيق والسلامة. وكشفرة تقشط جناح فراشة ملأ بكاء أمي النفوس ألماً وتطّيراً وآخر ما رجمت به أبي قبل أن يتوارى لخمسة عشرَ عاماً دون خبر صراخُها النافذ حتى العظام:
-رح، اتركني وحدي.. الله لا يسهّل وإن فكّرت بالرّجعة فلأجل ما ببطني وهؤلاء...
وشدّت إلى خاصرتها ووركيْها أختي (بهيرة) وصبيين آخرين، أما أنا فلم أكن رأيت النور بعد.
سافرَ أبي وهيهات أن يرجع بسلامة أم بدونها. المهمّ في الأمر أنّ أمّي تناست غيابهُ من لحظة رحيله ببدلة مستعارة، وحقيبة تبرّعَ بها أصحاب صرَّ فيها ملابسهُ وساعة بسلسلة فضيّة وليرات وفرنكات شدّها بحزام في كيس صوفي بدا كخابية صغيرة أو إبريق.
بهيرة أيضاً نسيت والدنا وعجّلَ برعمها بالتفتّح لا لُتعشق أو تُحبّ، بل لتعارك وأمّنا ويلات الزمن. وقفت مرّةً أمام مرآة -عفو الخاطر- تلمّست بغرابة وخوف ربوتْين نفرتا في صدرها... وشعر انسابَ كستار مخمل على ظهر صقيل وسواعد مكتنزة، لمعت مفارقهُ كأنَّ يَدَ نبي مسحت عليها... انشدهت (بهيرة)، شهقت بحياء واستنكار كأنّما عُرّيت أمام أشهاد. جزّت شعرها بقسوة كمن يسلخ جلد ماعز...، انسكبت الخصلات على الأرض أفاعٍ صريعة وصارَ لبهيرة شكل صبي. قمطت رأسها بمنديل عقدت أطرافه على جبهتها كفلاّحة مخضرمة أو كواحدة من (أخوات الرجال)... شقّت فستانها المخصور، خاطت منهُ خرقاً للاستعمال البيتي. وكأنّ إبليساً سطا على روحها هرعت إلى صندوق الملابس، لبست ثوباً فضفاضاً لأمنا، فهدّأ روعَها غياب نحالة الخصر وملامح التكوّر والبروز.
من اليوم الذي اعتقلت فيه بهيرة أُنوثتها وحزنٌ مرير يعايشني.. أكبر فيكبر معي، ويُنضج وعيي قبل الأوان.
الفرشة العفنة التي بَقَرَتَها بهيرة بسكين كالخنجر يخيفُني لمسُها، تندلق أحشاؤها على الحصير كتلاً من قطن مُصفَرّ لهُ رائحة الصّدأ والحديد المحروق.
أتمدد على الحشوة كهرّ استمرأ العطالة والزوايا التالفة.
في انتظار أن تحشو بهيرة الفرشة وتخيطُها ثانيةً أستمتع بحريّة واسترخاء لكامل جسمي وعضلاتي فلا شريك لي بفراشي اليوم.
غضبُ أمّي يباغت فرحتي فتجفل وتنطمس تحت سقف من القلق يحتكر الشعور والقلب الواجف. ها هيَ أمي تدخل الدار، تلقي أحمالاً عن ظهرها. ألمحُ في إثرها بهيرة برأس مقموط وسواعد مشمّرة...، فرغت أمي من حلب البقرة التي نضبَ ضِرعُها وإطعام العجل الذي لا يأتي على علف حتى يخور مطالباً بأحسن منهُ.
فرشت بهيرة شوالاً من الخبز اليابس على الأرض. وشرعت المرأتان تكسّران الأرغفة الرمادية، وتلعنان حظّاً خائباً قاهراً رَفَسَهما إلى الدرك الأسفل من الحياة وصَنّفهُما كأُجراءٍ للآخرين، تعتاشان من نبر الزيتون وطحن الجوز والدقيق وتقشير الفستق بالأجرة، وقد تدخلان في شراكة تجارية غير متكافئة كما الحال مع بقرة الجيران فتؤمّنان قوتَنا من اللبن لقاء تعليفها وتسمينها والسهر على ولادتها والنوم على خوارها ومعاينة أمراضها ومسايرة أفانين دِلّها وغنجها...، وحيثما اتفّقَ ووجدت بهيرة فرصة عمل فهيَ لا تتردد في اقتناصها واهبةً حياتها (كأُضحية) من أجلنا، حتى أنها رهنت نفسها كـ (دادا) لأولاد الحارة الذين حظيت أمهاتهم بوظائف حكومية في المدينة فكان على (الدادا) بهيرة أن تبتكر حيلاً تردع الصغار عن المطالبة بأهلهم بافتعال ألعاب وتمثيليّات ساذجة تبدو بها كمهرّج لم يتقن عملهُ ريثما يستردّ المؤتمنون أماناتهم من عندها.
يبدو انفعال أمي وبهيرة حاداً هذا المساء لدرجة أنّ أمّي لم تفطن لنومي على القطن وإلاّ ما سلمْتُ من سُخريتها اللاذعة كأن تعلّق هكذا:
-ما تفعل يا فدّان هنا؟ أكل ومرعى وقلّة صنعة؟... شكراً لله الذي باركني بفدادين تجتّر وتشخر فتؤنس وحدتي...
وما كنت لأُبادل أمي نقمة بنقمة إذ تسوطني بمقذع شتمها بل تأخذني بها رأفة، ويستبدّ بي حزنٌ وعَجز يمحق اخضرار الأمل فيتصحّر القلب ويعجف عندها..، تفّر العين إلى الصورة المحايدة، تتعقّب مسارات الخطوط الزيتيّة، وتزاويق فرشاة غرّة رسمت خارطة كذبة سوداء وملامح سحنة مغبونة ساذجة ورثُتها عن رجل يُدعى
أبي...
-عُدْ إلينا يا أبي...
وإذ لا تقع العين على ما يريح الخاطر تروح فُرْجَتُها تضيق حتى تنطفئ شبه نائمة في لحظة يأس وخصومة مع القَدَر.
الشتاء حزين، الحزن ذاتهُ يحتجّ لتعاسة أمّي. يريد أن يطفش، لكنَّ يداً تشدّ أطراف ثوبه فيمكث بقتامتهِ وثقله..، وكانون طاغية تَعِس يكسّر البَرَد شظايا حقد تغتال دروباً طيّبة ونوافذَ بريئة وحيطاناً عزلاء، وأنا فوق الفراش أعقدُ رهاناً خاسراً مع خِدر لعين لا بدّ سيهزم الإرادة ويُسلمني لنومٍ محققّ.
"النوم موت مؤقتّ"... يقرُّ بذلك العلم على ذمّة معلّمنا الذي أكثر ما يسوؤهُ أن يُباغِتنا مُتَلّبسين بالنوم على المقعد أو لاوين أعناقنا في حالة شرود ذهني. حينها تقتضي المصلحة المهنيّة و (أمانة الرسالة) أن يُلهب أكفّنا بقضيب الرمان فتفرّ الدماء إلى وجوهنا فاضحةً هَلَع نفوسنا وذلّنا وانكسارنا.
قضيب الرّمان يجعلني أُطبق جفناً وأشقّ آخر... حاجتي للنوم ملّحة والوجوم الشتائي يغري بذلك، من جهة... عليَّ استظهار درس التاريخ واستكمال حل مسألة رياضية عالقة، وبمجرّد أن (يُميتني النوم مؤقتاً) فسأعجز عن (بعث) روحي قبل الصباح فأبلغ المدرسة يعتريني انزعاج المقصّرين.
بهيرة وأمّي تتصايحان. تنعيان حظّهما،... رغم الجلبة أكاد أتخدّر كليّاً وأغفو.. يدخل إخوتي الدار، يقرقع الباب، أفتح عينيّ بتأثير تنبيه عصبي حامداً الله لأنني لم أنم فبالكاد يتسع الوقت لاستئناف الدراسة.
لحظات، وأهبّ من مكاني كباشق لمحَ فريسة ضالّة، أثب عدّة وثبات..، أحرّك جذعي وأطرافي بعنفوان ونزق فأُشعل في جسمي مجمرة حقيقية، خلال نصف ساعة أُتِمّ واجبات المدرسة ثم أغيب في سبات نهائي عاذراً أمّي لعدم إيقادها مدفأة الحطب إذ يصعب أن تفرقع النار في الخشب المنقوع بماء المطر. لهذا تبدو أقدامي محنّطة بالصقيع، مُفخّخة بالألم. كذلك قرنيّات أظافري أُحِسُّ أنّ إبراً تحقن تحتها وجعاً ووخزاً قاهراً. فلولا ألم قدميّ ويديّ لأنجزتُ وظائفي بدل أن أتقعّر على الفرشة عاضّاً على أناملي، داسّاً قدميَّ العاريتين في فُتات القطن العَفِن.
في محاولة يائسة لإبقاء عينيَّ يقظتين أُعاود النظر إلى صورة أبي... خواطر طارئة تنكص بي إلى ذكرى أوّل كذبة أتتنا عن عودتهِ، يومَ تحمّسنا حماسَ من عانقَ عندهُ الحلمُ الحقيقةَ، وصافحَ الواقعُ الخيال، وبتوالي الكذبات عرّشت المرارة في القلب عنكبوتاتِ خيبةٍ ومقت يلوك براءة الحلم ويغتال الأمان.
-لن يعودَ أبوكم.. انسوه.
قالت أمي بجمود في ذكرى الكذبة العاشرة عن عودة أبي. من وقتها، أُسدل الصمت على الموضوع، وانعزلت أمي في غرفتها ساهمةً لأسابيع حتى خشينا أن تفقد صوتها أو عقلها. وحين فتحت بابها، ملأت البيت صراخاً ولعناً..، قذفت رفشاً إلى بهيرة واعتقلت معولاً وانطلقت الاثنتان تواصلان الكدّ في الزراعة والسقاية والتعشيب وجني المحاصيل حيثما اتفقَّ ووجدتا من يبتاع قوة عملهما.
وشغلنا -نحنُ الصبيان الثلاثة- مرتبة الوصيف لأمّنا وأُختنا نأتمر بأمرهما، ونضطلع بمهام بسيطة لا تتعدى جلب المتاع ونقلِها وتوصيلها.
-البردُ يُناوش عظامي...
أتحسسّ بيدي الباردة ساعدي المطوي تحت رأسي... يبدو الساعد دافئاً من أثر الثقل الذي يحمل، ومن فرق الحرارة بين اليد الطلقة واليد المقيّدة إلى الرأس أشعر أنّ اليدين لا تنتميان معاً لجسمي، فكأنهما عضوان في بدنيْن مختلفين، هذا لأني لا ألتفّ ببطّانية، فقد ارتميت بكل ثقلي وتعبي منذ وقت على القطن الأعجف وجمّدني البرد في انحناء تقعّري حتى أني لا أقوى على الانقلاب إلى الجهة العكسية، فالبرد سيهاجم بضراوة الجانب الدفيء من جسمي.
أقسى ما في الأمر أنّ جواربي مغسولة، ها هيَ منشورة على طرف كرسي مخلوع والماء يقطر منها فقد ابتلت في الطريق الموحلة إلى المدرسة. وحدثَ هذا مع إخوتي، فأرغمتنا بهيرة على خلع أبواط (الغوما) الملطّعة بالطين وتسليم جراباتنا الملوثة للغسل الفوري كضريبة لدخول البيت، فمن صادفَ خُفّاً أخفى رجلُه فيه أو عثر على قبقاب بهيرة العتيق انتعلهُ ومن لم يجد لفَّ قدميه ببّطانية، أو طمرهُما بالقطن كما فعلتُ.
المطر يطشطش في الخارج كدرنات بطاطا تتقلّب في مقلاة. تطل السماء حالكة في كوّة الحائط..، الرؤيا تنعدم تحت سلطان العتمة،... تضيء بهيرة شمعة في حجرة مجاورة، تغادر وأمي البيت يلحق بهما الضوء إلى الحظيرة، هناك يخور العجل متحدياً طشيش المطر.
يا لَلظّلام يطوّق الحجرة آمراً بالنوم. أبدو مقتنعاً بخسارة الرهان الذي عقدُتُه مع نفسي، فالنهوض من الفراش الآن يعادل البعث من قبر.
المشكلة عندي تتعدى كسلاً غَشَيِني وصقيعاً يَبرد عظامي، فينكمش لهُ جسمي، ويتكرمش جلدي بصورة تنتأ فيها المسامات، وتنتفخ كحبوب صغيرة نتجت عن فطور جلدية... كل المصيبة في الجراب الصوفي المغسول فلو كان يحبك بشدّة على قدميّ العاريتين، وساقيَّ دونَ الرّكب، لنالَ الازرقاق والألم اللعين قصاصاً على ما يُلحقانِه بي من تنكيل وعذاب. أما وأنا على هذه الحال فمستعدّ للإجفال في أية لحظة تتلامس بها يدي الباردة فوق مع نظيرتها الدافئة تحت. وفي فكيّ، يغرز البرد أورامَهُ فتكاد اللثة المقرورة تنشقّ عن دعامات الأسنان، رغم هذا وخلافُهُ ظلت عيناي تنوسان بين فتح وإغماض حتى سكنت الرعشة فيهما وأسبَلَتَا معاً.
***
دوّى صياح أمي كطبول تُعلن نفير الحرب:
"يا فدَادين،.. يا عجّان قوموا...، فات وقت المدرسة".
قفزتُ من مخبأي كأرنب بُوغتَ بطلقة صيّاد، تلمّستُ جواربي، عجنُتها بيديّ، ما تزال مبتلّة. لبستُها مكابراً على الألم وعلى نِمال واخز شَلَّ أمشاط أقدامي. زررتُ سترتي بأصابع فقدت لونها. اختطفتُ كتبي كيفما كان وهُرعت على الطريق الموحلة إلى المدرسة..، إخوتي يلهثون في إثري، والمطر حيوان شرس يسدّ الطُرُق ويغشى الرؤيا كالضباب المُدلهّم.
في مدخل الصف وقفت كشجرة قصفَ الإعصار غصونها ولوى رقبتها. سرى لغط وتأوُّه، تحول الصف إلى قاعة محكمة أنا المتّهم، رفاقي شهود، القاضي يجلس على كرسي خيزران، يُريح بطّة ساقه اليمنى على جنبهِ الأيسر.. يصفّق بالقضيب البني الغليظ على راحة يدهِ ساهماً متأمّلاً.
-أينَ كنتَ يا وَلد...
لم تصدر عني كلمة. تخاذَلَ صوتي. تجمّدَ من البرد، فرّ إلى أمعائي باحثاً عن قبَس حرارة يُعينُهُ على الإفصاح والنطق. وكنتُ أرتجف كقصبة وحيدة عند مفارق طرق، الماء يرشح منّي ويصطفق فكّاي ببعضهما. أما الألم في كاحلي وكِعابي فكانَ فوق التصوّر...
أومَأَ إليّ بالاقتراب.
القرّ والبلل أبطأا حركتي فدنوت بتثاقل مباعداً ما بين ساقيّ كمن تغوّطَ في ملابسه. هبّت عاصفة ضحك وظُنّت بي ظنون.
-همّ... جئتنا متأخراً، لِنَر إن كنت حفظت درسك.
انطلقَ في استجوابي من درس التاريخ، أبدى صبراً في انتظاري وكأنهُ يحزر النتيجة سلفاً ويتلذذ بتعذيبي، لم تُسعفني الذاكرة، فأمس استظهرت الدرس بعجالة على نيّة أن أنام (قليلاً) وأعود متنشطاً فأُغيّبهُ وأفكّ طلسم الأُحجية الرياضية.
قلّبَ الأستاذ بتأنٍّ مقصود دفاتري المبتلة:
-هم... م م م، لم تُكمل وظيفة الحساب، لم تكلّف نفسكَ عناء تبييضها حتى.
بعد صمت ثقيل اعتكرت ملامحه، تجعّدت عقدة حاجبيه، استقامَ أمامي ماردَ رعب وهلع..، بصعوبة تكمّشت أصابعي بقماش البنطال المتهدّل. الصقيع ينساح في بطني حقوداً قاهراً، يقرص أحشائي، تلتهب الأمعاء، تئنّ، تتقلّص عن جدران قَفَصها فأحسُّ بجوفي خاوياً ممغوصاً.
-آ ا ا ا ا ه...
تميد الأرض لصُراخي، القضيب يحلّق في الفراغ متبجحّاً بسلطانه على النفوس ويسوط بضراوة أطراف أصابعي وظاهر كفيَّ.
مع كل جلدة يشق المعلم فضاء الصف صارخاً:
-تتأخّرْ، طِخّ، درساً لا تحفظ، طِخّ، وظيفة لا تكتب، طِرِخْ... تعوم في المستنقعات وتأتيني قميئاً كحشرة، طِرِخ، أسألُكَ فلا تجيب.. طِرِخ طِرِخ طِخّ...
وينبثق صوتي من رماد العجز حارّاً أليماً زاعقاً:
-آ ا ا ا ا خ... أيّ ييّ ييّ ييّ.
بملء الصوت الذي استعدتُه، وددتُ لو أصرخ أمام محكمتي وقاضيَّ والأرانب التي تضحك على أنفسها حين يدور عليها الدولاب وتصيبُها الطلقة.
وددتُ لو أطلب مُهلة، فسحة وقت إضافية أوضّح فيها أشياء وأشياء ينبغي قولُها.
اللعنة على البرد، اللعنة على الوجع. لو لم تكن قدماي تؤلمانني كنت درست التاريخ، وحللت الرياضيات ولكن...
اللعنة على الجراب الملوّث. اللعنة على بهيرة التي لم تعصرهُ جيداً ليجف بسرعة.
اللعنة على الشتاء...، على النوم...، على حظّي...
لكنَّ شيئاً من هذا لم يحدث