إلى بيروت... حاضنة طفولتي"
منذُ عشرينَ سنةً كنا نقطنُ تلكَ البلاد. كشأنِ آلاف الأُسر الزاحفة بمعدات فارغة لاصطياد فرص عمل. وطالَ تنَقُّلنا بين البطاح قبلَ أن نستقر في العاصمة.
وكي لا نتبجّح أو نَدّعي (التحضّر)، أعترفُ بأننا لم نسكن قلب العاصمة بل أحد أطرافها المنسيّة، ومكثنا حتى اندلعت الحرب الأهلية التي لم تنسَ شيئاً ولم تذر.
كانت حارتُنا النائية تشكّل همزة وصل بين المدينة وأطراف جبال جرداء. إنها تترامى إلى موضع سكّة قطار أفلحت في وضع حد للتكاثر الفوضوي لمساكنها. ولم يشذ عن القاعدة إلاّ مدرسة أثرية من طبقة واحدة تجاوزت السكة بمسافة مئة متر شرقاً. تلك كانت مدرستُنا واسمها "ديمانش" أي "الأحد". إنّها من نفائس ما خلّف الفرنسيون في عهد الانتداب. أمّا بيتنا فشغل شقة في عمارة قديمة تتلاقى مع المدرسة بخط مستقيم مائل، يتقاطع مع السكة مشكلاً زاوية حادة. وهكذا "أتصبّح" بوجه مدرستي، وبالسكة التي يعبرها القطار يوميّاً في رحلتين: الواحدة ظهراً... والرابعة فجراً، فإن تعذّرَ علينا انتظار المرور الليلي للقطار فلا أسهل من المُضيّ لملاقاته نهاراً، إنهُ موعدٌ لا نفوّتّهُ نحنُ الأولاد، وكذلك حارتُنا التي تُكنس أطفالها وتركنُهم عند السكّة ظهر كل يوم، فيتسنّى للأهل أن يتنفّسوا الصعداء.
وفي حارتنا، كما في العاصمة، كما في تلك البلاد، كانَ الأمان منهوباً حتى بعد رحيل المستعمر الذي تركَ البلد فريسةَ مفارقات فاضحة تبدأ بالتسميات وتنتهي بالحروب الدامية. ففي شارعنا تصادف أسماءً كـَ: "عبد الرحيم" و"رامي" و"عائشة" و"حلا". وتجد: "ألفريد" و"سيلفانا" و"روزماري" و"جان بول".
وفي حارتنا أجانب بجنسيات كثيرة وانتماءات دينية متعددة وبها مواطنون أصليون وآخرون "متأصلون"، وبعض شركس وأرمن، وعصبة يهود، فلا غرابة أن تتعرف بأحد فيقول لك:
- اسمي "مَردْكيْان" أو "جاكوب" أو "أزنيف" أو "حرطوم".
فتردّ مشدوهاً:
- تشرفنا.
القطار العابر وحدهُ كان يجمع دونَ تمييز. يُلملم شتات الناس ويؤلّف بين القلوب.
من عشرينَ سنةً كنتُ في التاسعة، وفي طفولةٍ كهذه لابُدَّ أن تتبلور خبرتي بأقراني، فأنتمي لُعصبة من الرفاق أختارُها أو تختارُني أو أثبت معها في غربال السنين.
وكانَ القطار سلاّك دروب، وحلاّل قلوب، تهرع إليهِ الأجساد الصغيرة بأشواق كبيرة، فما أن يُشير العقرب إلى الواحدة إلا ربعاً حتى تنفرط حلقات اللعب، وتنفضّ التجمّعات فلا سباقات الجري، ولا استعراض العضلات، ولا النطّ بالحبل، أو قذف الكرات أو ركوب الدراجة مسموحاً في وقتٍ كهذا. ومن كانَ نائماً أفاق، أو غائباً حَضرَ، أو مكلّفاً بعملٍ أدّاهُ بسرعةٍ أو أَجّلَهُ أو اعتذرَ عنهُ، ومن جاعَ أكلَ كمجنون أو تناسى جوعَهُ، ومن مرض جرَّ نفسهُ من السرير أو أطلَّ من الشّباك.. المهم أن يتلاقى الكل عند الواحدة على ضفاف السكّة الحديدية. فما أن يتناهى الهدير إلى آذاننا ويصل القطار حتى نرفع أنا و"شوشو" و"هديل" و"ليليان"، و"ميشو" مناديلاً ورقيّة نُطوّح بها فيحذو حّذْوَنا أولاد حارتنا، فمن أضاعً منديلهُ لَوّحَ بيده أو قُبّعتهِ أو ربطةِ عُنقهِ... ثم يدوّي صفيرَ وتصفيق، وقد يُحضر أحدٌ طبلاً فيقرع، أو مزماراً فينفخ، أو مُكّبر صوت فيهتف ونهتف بعدهُ بمقاطع ممطوطة:
ياقِطار.. يا َحبّوب
يا سلاّك دروب دروب
ياساكن جُوّا القلوب
ويُلوّح لنا المسافرون بتعاطف وامتنان. أحياناً ينفتح شبّاك فترمينا يدٌ بحفنة من السكاكر أو قطع النقود، أو نُقذَفَ بطابة أو بالونة أو صاروخ ورقي خُطّت في حواشيهِ رسالة. ونسرع إلى غنائمنا فيما يتابع القطار نُواحَهُ عابراً السّكة:
ـ آووووو.... شك شك شك شك
شك شك شك شك
نُشيِّع القطار بأنظارنا وأفكارنا حتى يغدو نقطة سوداء يمتصُّها الأفق مُبقياً على شريط دُخان يعلق برهة في الفضاء ثم يتبدد ـ كالسحر ـ متماهياً في الغيم. ونعود أعقابنا إلى ولدناتِنا وشقاواتنا فلا نُبارح السكة ـ التي تنغل كخلية نحل ـ قبل ساعة أو اثنتَيْن حيثُ تتبارى البنات في الوثب بين العوارض الخشبية كما في (العفريدة)، ويتسابق الصبيان مشياً على جسرَيّ السكة اللّذين يعلوان عن الأرض في محاذاة المدرسة فيشكلان وضعاً حَرِجاً تدق عندهُ نواقيس الخطر ويتعالى هتافٌ وزعيق تحسُّباً من مجهول قد يترّبص بأرعن فتزلّ قدمُهُ وينطرح أرضاً، وتنفر الدماء من منخرَيهْ أو تنبجس كخيط من أُذنهِ وفمه.
ويصعب ـ واللعب في أَتونْهِ ـ أن نُبالي ببيت أو غداء أو فرض مدرسي ينتظرُنا دون أن تُرسل أمهاتُنا في طَلَبنا، أو يأتينَ بأنفسهن مُغضبات فيسحبننا من شعرنا أو قمصاننا، فمن انصاعَ لأمهِ مضى معها خَجِلاً أو محزوناً أو ناقماً. ومن عصاها لازمَ السكّة بعضَ وقت حتى إذا لمح أباه عائداً إلى البيت سبقه إليه ملتمساً كتمان السر، وإلاّ عادَ من تلقاء نفسه متضوّراً جوعاً.
وفي طريقنا إلى المدرسة تعترُضنا السّكة الحبيبة ذهاباً وإياباً. فنتفنن في عبورها، فَـ /جانو/ مثلاً يُحلّق كرمح عابراً الجسرَينْ بوثبة جريئة يُعينهُ طول ساقيه. ويعتمد /شحّود/ على طول جذعهِ وخفّتِهِ فيندفع راكضاً على مسافة من الجسر الأول، يلقي بثقلهِ على كفيه ليحطّ على قدميه ويستقيم واقفاً وراء الجسر الثاني، فتنفلت (الآه) من شفاهنا إعجاباً رغمَ علمنا أنه يتلقّى دروساً في (الجمباز). أما أنا وأمثالي ممن قلّت حيلتُهم فنقطع السكة قفزاً على رجل واحدة أو بالمصالبة بين الساقين، أو نمشي على ركبنا كأسرى حرب، وقد نقتدي بالبنات فنُدير ظهورنا ونمشي إلى خلف متراً أو مترين. المهم أن نجتاز سكة القطار بطريقة فريدة، فهي معبر عزيز على الكبار أيضاً وإلا ما اختارها العاشقون والمسنّون ومرضى القلب وأنصار النّحافة (لطقّ) المشاوير مساءً كلٌ لغايةٍ خاصة.
سألتُ نفسي مراراً عن موقف أصحاب الأحياء الأخرى من القطار: أيحبُّونه مثلنا؟ أم يتضجّرون من هديره الصمّام وهباب أسود يباغت الشرفات والسطوح (فيعقّم) لهم الغسيل؟ ربما لا يتأثّرون لأنّ مسار الخط الحديدي يبدأ في تباعد تدريجي عن المدينة قبل مغادرة حيّنا متابعاً مرحلة موحشة من السير عبر أنفاق جبلية مهجورة، ولا يُعلم إن كانَ يعاودَ الاقتراب من البلد...
قبيل العبور الليلي للقطار، أستيقظ عفوياً لأصغي لنواحه الحزين، فأتصوره يزرع الكون كله حضوراً. وأتساءل إلى أي مكان في العالم يمضي؟ وفي أي المحطات يمر؟ وأي ناسٍ يحمل؟ فيما يغدو صوتُهُ أشد وضوحاً ونغمته أعمق حزناً عنها نهاراً. وعلى بحة ناي أثيرة، ومرثية ساحرة أغمض أجفاني فيردد الصدى:
ـ آوووو.... شك شك شك شك
ثم نشبت حرب داخلية... فتوقفت أسئلتي.
***
بدأت الحرب باضطرابات وإضرابات متفرقة استهلكت شهوراً قبل أن تعمّ البلاد. وحُكيَ عن إصلاحات ومصالحة يلتمّ بها الشّتات. وكنت صغيراً على فهم مايجري، لكن الفهم وعدمه سيّان في هكذا أحوال. فقد استحكم الخوف على الجميع، وجرت اشتباكات جماعية وفوضى ولصوصية. وخزّنت السّلعَ وغلت الأسعار، وكان طبيعياً أن تغلق المدارس وتتحول إلى ثكنات عسكرية، ومنها مدرستي (ديمانش) مما أغبطني، فقد ارتحتُ من نصوص القراءة الفرنسية التي لا أفقه منها حرفاً. ومع خروج أول طلقة غضب، أعلن استنفار، وقسمت الأحياء بالمتاريس، وهرع الناس إلى الملاجئ مفزوعين.
بدأت المعارك بالعصي والسكاكين والحراب وتطورت إلى مسدسات وبنادق ورشاشات وقنابل... وكانت القذائف تثقب حيطان البيوت، وتُطوّح بالفراندات، وتبقر واجهات المحالّ،... ويعلو الصراخ مع كل قنبلة تسقط قريباً من الملجأ أو رصاصة تصيب منه جداراً أو تخترق نافذة. وتعلّمنا ـ نحنُ الأولاد ـ أن نفتح فمنا، ونسد آذاننا كي لا نهلع..، ولم يمنعنا هذا من الإحساس بارتجاج الأرض، أو تقوّض أركان المكان، أو التماع السماء كلما حدث انفجار.وخلال أيام تحولت الحارة ـ كغيرها ـ إلى مقر لثلّة من المسلّحين لا نعلم سوى أنهم طرف في حرب دائرة.
وكنتُ أواجه أهوال الحرب بالبكاء، والالتصاق بحضن أمّي، وتعودّتُ على التبول باللاشعور، والإقياء لمرأى فئران تسرح في الزوايا، وصراصير تدبّ على الحيطان نتيجة حفظ بقايا الطعام في الملجأ، إذ يصعب أحياناً المجازفة بالخروج وإلقائها في الشارع. وكان يحدث لـ/جانو/ و/ميشو/ وسائر رفاقي عوارضي نفسَها. وبالنسبة للكبار فالجزع والصراخ وحضن الأولاد ينتقل بالعدوى والغريزة، ويستمر الحال على مد وجزر حتى تُعلن الهدنة، فيخرج الكل لتفقّد المنازل والأرزاق، وللتبضّع السريع.
في الهدنات الأولى التي عشناها انحصرَ همّنا في الأكل والشرب وتأمين وسائل الإسعاف الأوّلي. وخفَّ الحذر مع الأيام، فرحنا نقضي تلك الفترات في تفقد الحي والجيران مع الاحتراز من إثارة غضب المسلحين الذين يجوبون الشوارع مكشّرين، أو يسترخون للراحة على الأرصفة، وفي مداخل البنايات. ولا ننسى دائماً أن نرشق المدرسة وسكة القطار بنظرات حنين، ونعانقهما عن بعد، فكم طال اشتياقُنا لهما. وكان يثُيرنا منظر عبوات الرصاص الفارغة فنتسابق لجمعها لنلعب بها في الملجأ لعبة الجنود الذين يصطفون أرتالاً لمقارعة الأعداء وقتلهم. ومن حالفهُ حظ عثر على بندقية بين اللعب فمثّل مع الرفاق مسرحية البطل في الحرب وسط دهشة الأهل الذين تُبدّد شقاواتنا قلقهم ومثلها دعاء الخوري (الياس) كي يحل السلام ويرحم الرب العباد. ومثلها ابتهالات جار لنا إيراني نصغي لتواشيحه وتنغيماته فتهدأ سرائرنا دون أن نفقه مما يقول: سوى (اللاّه).
أنستنا الحرب عادات أساسية وطقوساً عزيزة، لكنْ ولعنا بالقطار واللعب عند السكّة بقي خالداً، وكثيراً ما رددنا من ملاجئنا أغنية الترحيب بالقطار. ولطالما حاولنا التقاط أنينه المبحوح الذي تعذّرَ سماعهُ خلال القصف وسَهُل أثناء الهدنة... ثمّ قل مرور القطار في الحارة، وانحصرَ على عبور ليلي غير منتظم، ثم انقطعَ بالمرة إلى أن عاد فاقتربَ من الحي للمرة الأخيرة حين حدث انفجار بين سلسلة انفجارات، كان القطار الحبيب أحد ضحاياها.
وأذكر أننا انتظرنا ـ ذاهلين مروّعين ـ أول وقف لإطلاق النار قبل أن يتوجّه العشرات إلى الخط الحديدي... بدا القطار مهشماً، وألسنة النار تندلع من مقصورات تطايرت أغلب سقوفها. أمّا السكة فدعائمها مشوّهة، وقضبانها متباعدة، وقد انحرف مسارُها بشكل رهيب... هنا، فارت العيون بالدمع، وتقافز منها الحزن كحمامات جريحة. وشرعت أشهق بالبكاء جاثياً مع الصبيان والبنات فوق التراب، حين افتتح الكبار طقساً تأبينياً مهيباً:
وأنشدوا فأنشدنا معهم:
يا قطار...........يا حبّوب
يا ساكن جوّا القلوب
وطال غناؤنا...... وهطلَ مطرَ، ثمّ أُغمِيَ عليَّ.
بمصرع القطار احتدّت الحرب، وبدأت تحصد بآلتها العمياء الأقارب والأعزّاء، فقُتلَ والد /جانو/ واستشهد أخو /شحّود/ وعمّ /هديل/، وانفجرت صناديق الـ(ت.ن.ت)، المخزونة تحت بيت الخوري (الياس) أثناء وجوده فيه، فشبّت حرائق هائلة أبادت الحي بمساكنهِ وناسه، فمن بقي مات، ومن فرَّ عاش عمراً جديداً.
نحن كنا من الفارّين، (وحدس) أمّي أنقذنا من موت محقق. فقبل الحريق بوقت، حزم أبي أمتعةً خفيفة، وأكياس مؤونة تسلّل بها مع أُجراءَ إلى معبر جبلي وراء المدرسة، وخلال الهُدنة، غافلنا مخبري الحيّ، وتبعنا أبي، فركبنا (البوسطة)، التي تنتظرنا هناك، ومضينا في رحلة ليليّة شاقة طويلة عائدين.. إلى بلدنا الأول.
وكانت (ديمانش) منارة بأضواء خفيفة، وفي باحتها استلقى حراس وتوزع جنود... وحين تحركت البوسطة بعيداً عن بلد الخرائب، كان القطار الصريع وأشلاء السّكة... آخر ما ودّعت عيناي.
أنا الآن في التاسعة والعشرين.
أحيا حياةً مستقرّة في بلدي الأول، أنعم براتب كبير ومنصب رفيع.. متزوّج، ولي أولادٌ أذكياء، وامرأةٌ رائعةً....، كذلك إخوتي.
أبي وأمي يحظيان بشيخوخة هادئة.
ربما أنساني الزمن وزحمة العمل فظائع جرت من عشرين عاماً. فجزءٌ من ذاكرتي مات. وجزء ضاع، ولا أعلم إن كان سيعود مع أني لا أُرحب بذلك.
شيئان لم تخطئِهما ذاكرتي.... فلا هُما ماتا، ولا هُما ضاعا.
حيَّان في أعصابي، يُدغدِغانها فتتنبّه فجراً، ثمَّ تتراخى وتلين، على رجع نوح حزين، يقطع مشوارَ السنين صارخاً:
ـ آوووو......
ويجلجلُ الكون هديرُ عجلات تُخبخبِ فوق ذلك الخط الحديدي: