في طفولتنا. لم يكن، يشك، من يرانا معاً.. أننا توأمان فقد ولدنا، في سنة واحدة. وفي حي واحد. وفي بيتين متجاورين. حتى أن اسمي، كان حسن. واسمه حسين. ومثلما، كنت الذكر الوحيد. بين عدة بنات. كان هو كذلك. ورغم فقر أهلينا، المدقع، فقد كان لي، وله، دالة في أسرتينا. استثمرناها، في أمر واحد.. وهو عدم معارضتنا، في رفقتنا المستمرة. من الصباح، وحتى وقت النوم. دون أن يكلفنا ذوونا -وكما هي العادة- في عطلة المدارس الصيفية، في عمل من الأعمال. في سوق البلدة. أدركنا. في سن مبكرة.. أننا فقراء. وأن هناك، بالمقابل، الأغنياء. كانت بلدتنا، صغيرة. وكانت مقسمة، بحدود وهمية، إلى مجتمعات، لا تلتقي، إلا على الطريق العام. الذي يمتد من الغرب. وهو مدخل البلدة، إلى الشرق، حيث المزارع والبساتين، والنهر الصغير القادم من الشمال. والذي يجف ماؤه، تقريباً في الصيف. في أمسيات الصيف. كان جميع سكان، البلدة. يخرجون إلى الطريق العام. الذي يتحول، في ظاهر البلدة، إلى درب ترابي، متعرج. بعد الجسر الصغير، القائم على النهر. في شمال البلدة. كانت ترتفع، على الهضبة، الخضراء، ثلاث قصور. تبدو لنا. من خلال واجهاتها المرتفعة، وأبوابها الكبيرة. المغلقة على الدوام، وكأنها خالية، من الحياة. في غرب البلدة. كانت تتوضع دوائر الحكومة. خلالها كانت تتوزع، بيوت الموظفين. أما بيوتنا -نحن الفقراء- فقد كانت تتميز بأسقفها الواطئة. وألوانها التي كانت تشكل، امتداداً، لأزقتها الترابية. وكانت تقع في الجهة الجنوبية. على ظاهر البلدة. في المدرسة الريفية. كنا نلتقي، جميعاً. نحن، وأولاد الأغنياء، وأولاد الموظفين. وكنا الأكثرية. وكان من المفروض. أن تذوب الأقلية.. فينا.. لكن تلك الحدود الوهمية. كانت تفصل، كل فئة، عن الأخرى، كنا نجري. ونقفز. ويدفع بعضنا، البعض الآخر. وقد يقع أحدنا، على الأرض الترابية. فتزداد ثيابه، وساخة، وقد تتمزق. لا يهم. فالرقع، سوف تزداد، واحدة أخرى. أما أولاد الأغنياء فكانوا يتفرجون علينا. وهم يقفون على أطراف الساحة. يمضغون ما تمتلئ به جيوبهم. وكان يشاركنا، أحياناً، أولاد الموظفين، لعبنا. لكن دون الدخول، في عمق الساحة. وأخذنا نكبر. أنا وحسين. وأخذت أحلامنا تكبر، معنا. واكتشفنا، فيما بعد. أن كل الناس.. يحلمون، مثلنا. وجاء اليوم. الذي تحققت فيه، أحلامنا، وأحلام الناس. وانهارت، كل الحدود، في بلدتنا الصغيرة. وأصبحت الأكثرية، الفقيرة، صاحبة الكلمة الأولى. وكانت خطوتنا، الأولى، على طريق الأحلام المتحققة. هي دخولنا المدرسة الاعدادية. ذلك الحاجز الذي كان يقف، عنده، أبناء الفقراء. وجرت مياه كثيرة. في النهر الصغير، القادم من الشمال. وأشاد الفقراء بيوتاً كثيرة، على الهضبة الخضراء. خلف قصور الأغنياء. وإن كانت البيوت الجديدة، عمادها اللبن الترابي. إلا أنها كانت مطلية بالكلس الأبيض. وأصبحت سقوفها، أكثر ارتفاعاً.. وحملنا، أنا وحسين، أهلية التعليم. وأصبحنا معلمين، في المدرسة الريفية. وانتسبنا إلى الجامعة.. من بعيد. وتسنمنا، بهذا الانجاز، قمة الأحلام.. وفي هذه المرحلة، من حياتنا.. أحببنا، وداد. لا عجب. أن نحب، سوية. فتاة واحدة. ألسنا كياناً واحداً، في اثنين. لكن العجيب، في الأمر. أن وداد، أحبت.. كلينا. وكانت في حيرة، من أمرها.. أينا تختار. إلا أنها اعترفت لي، بعد شهور. بأنها تحبني، أكثر قليلاً، من حسين. ولكنها لا تريد أن تغضب رفيقي. وكان رد فعلي. عجيباً أيضاً. عندما أخبرت وداد.. أني أنا أيضاً. أخاف أن يغضب حسين، مني، بسببها. كان يبدو لنا. أن مشكلتنا مع وفاء، لا حل لها. وكان هذا الأمر، يتفاقم، يوماً، بعد يوم. حتى خيل إلينا. أنه سوف يقضي، على علاقتنا. التي لم يكن يخطر، على بال أي منا. أن أي أمر. يمكن أن ينال منها. وجاء الحل، من السماء. فقد تم ترشيح حسين، للتعاقد مع دولة خليجية، للتعليم.. هناك. وبقدر ما كان حزني على مفارقة حسين، كبيراً. فقد كان الشعور بالذنب كبيراً أيضاً. لأني فرحت لسفر حسين، الذي جعل وداد تصبح لي، صافية.. وظل هذا الشعور بالذنب يؤرقني.. زمناً طويلاً. وكانت الرسائل هي وسيلة حضور أحدنا، أمام الآخر. رغم البعد. فقد تعاهدنا، عند الوداع. أن نجعل، بين الرسالة والأخرى، أسبوعاً، فقط. وأن نسطر في الرسالة، حياتنا خلال الأسبوع. دون أن نغفل.. أي أمر. إلا أني -رغماً عني- كنت أخفي عليه، تطور علاقتنا، أنا ووداد. رغم أنه، وفي كل رسالة، كان يستحثني، على الحديث، عنها. بعد سنة. أخذ يحدثني، عن الفائض الكبير، من مرتبه. وكيف أنه، بإمكانه، أن يفعل، في المستقبل، أشياء كثيرة، هنا، في البلدة، بالمقابل. كنت أحدثه، عن تناقص قيمة، مرتبي، هنا يوماً بعد يوم. وكيف أني. سأجد نفسي، في المستقبل. وأنا عاجز عن أن أفعل، أي شيء. ومرت سنوات أخرى. خلال آخر سنة. كانت رسائل حسين، تتناقص باستمرار. وكذلك عدد صفحاتها. ثم انقطعت رسائله، تماماً، في نهاية العام الماضي. ومن العجيب. أني كنت، قد توقعت، هذه النهاية. لأني، لم أكن أكتب له، إلا عن اليأس، الذي استقر، داخل نفسي. وكان يتفاقم، يوماً بعد يوم. وعن هذه الأيام. التي جعلتني أتحسر، على أحلامنا التي كنا نتعاطاها، ونحن صغار. لقد كانت أحلامنا، آنذاك. طليقة. ولم يكن ادراكنا القاصر. يتصور أن تقف أمام الأحلام أية قيود أو سدود. أحلامنا اليوم تحولت إلى كوابيس. فالراتب رغم أني كنت مستقلاً به. لم يكن يتحمل أن يرفع عليه أي بناء. كان عليّ. أن أجمع مهر وداد وأن أبني لها ولو غرفة صغيرة ضمن دار الأسرة، وفيما كنت أتخبط في حيرتي المستمرة منذ سنوات محاولاً أن أحل هذه المعادلة المستحيلة. عاد حسين من الغربة فجأة. وعندما التقينا ضممته إلى صدري بقوة، وأنا أغمره بقبلاتي والدموع تجول في عيني. بينما هو كان يضحك وهو يخلص نفسه، من بين ذراعي. وجلسنا على الأرض وأنا ما زلت أمسك بيده. ثم خلص يده من يدي وهو يقول: -أول هدية ستكون من نصيبك.. ثم قام إلى إحدى الحقائب الكبيرة المرصوفة، في صدر الغرفة وأخرج علبة وقال: -هذا من مستلزمات السياسي. أنت تحب الأخبار وهذا (الراديو) له عشر موجات يعطيك الأخبار، من كل إذاعات العالم. شعرت بعد ساعة أن ذلك الحبل الذي يربطني مع حسين وكأنه قد انقطع منذ زمن بعيد، حاولت أن أعيده إلى الماضي، لكنه هز يده بشدة كأنه يطرد الماضي.. بعيداً أخذ يسأل المختار الذي كان يقلب هديته، بين يديه عن أسعار العقارات في البلدة. عرضت عليه أن نذهب في جولة.. عند النهر، لكنه اعتذر بشدة عن الذهاب إلى أي مكان فقد كان يتوجب عليه من الغد أن يراجع في مركز المحافظة عدداً من الدوائر وقد تستغرق هذه المهمات أسبوعاً أو أكثر من إجازته القصيرة. نسيت هديته، على الأرض وأنا أغادر المكان لحق بي، وهو يضحك. خيل إلي أنه غير رأيه وسوف يأخذني في جولة. ولو في سيارته الفارهة. دس الهدية بين يدي الممدودتين إليه وعاد سريعاً.. إلى ضيوفه. وأنا أتوحد مع نفسي في فراشي آخر الليل وحتى وافاني النوم. عند الفجر، كنت أتعارك مع أفكاري السوداء التي أخذت تطبق علي من كل جهة. في الأيام التالية تأكد لي أن حسين كان يتهرب من لقائي بشتى الحجج ولم يعد يصلني به إلا أخباره التي كانت تتوالى محدثة في كل مرة ضجة في بلدتنا الصغيرة. في اليوم الثالث من عودته.. اشترى قصر ناظم بك على الهضبة الخضراء. في اليوم الرابع اشترى دفعة واحدة أرض محمود آغا وكراج الخواجة حنا. في اليوم السادس تزوج من وداد.. وسافر بها في اليوم السابع. في اليوم الثامن كانت الأمور قد اختلطت علي تماماً وعندما كنت أعود آخر النهار من جولتي التي كانت تبدأ عند شروق الشمس حول الحقول، وعلى مسار النهر كان يصلني الهمس حولي واضحاً.. من أني قد أصبت بالجنون. كنت أنظر حولي بذهول وكنت أريد أن أثبت لهم.. بأني ما زلت عاقلاً كما كنت دوماً إلا أني فشلت إلى هذه الساعة ولم يكن لهم أي ذنب في ظنونهم بي لأني عندما كنت أريد أن أستعيد صورة، رفيقي حسين المفقودة أجدها وقد تلبست في صورة ناظم بك ولأني كنت أردد بأني سوف أقتل ناظم بك والكل يعلم أن ناظم بك قد مات منذ زمن بعيد.
في طفولتنا. لم يكن، يشك، من يرانا معاً.. أننا توأمان فقد ولدنا، في سنة واحدة. وفي حي واحد. وفي بيتين متجاورين. حتى أن اسمي، كان حسن. واسمه حسين.
ومثلما، كنت الذكر الوحيد. بين عدة بنات. كان هو كذلك. ورغم فقر أهلينا، المدقع، فقد كان لي، وله، دالة في أسرتينا. استثمرناها، في أمر واحد.. وهو عدم معارضتنا، في رفقتنا المستمرة. من الصباح، وحتى وقت النوم. دون أن يكلفنا ذوونا -وكما هي العادة- في عطلة المدارس الصيفية، في عمل من الأعمال. في سوق البلدة. أدركنا. في سن مبكرة.. أننا فقراء. وأن هناك، بالمقابل، الأغنياء. كانت بلدتنا، صغيرة. وكانت مقسمة، بحدود وهمية، إلى مجتمعات، لا تلتقي، إلا على الطريق العام. الذي يمتد من الغرب. وهو مدخل البلدة، إلى الشرق، حيث المزارع والبساتين، والنهر الصغير القادم من الشمال. والذي يجف ماؤه، تقريباً في الصيف.
في أمسيات الصيف. كان جميع سكان، البلدة. يخرجون إلى الطريق العام. الذي يتحول، في ظاهر البلدة، إلى درب ترابي، متعرج. بعد الجسر الصغير، القائم على النهر.
في شمال البلدة. كانت ترتفع، على الهضبة، الخضراء، ثلاث قصور. تبدو لنا. من خلال واجهاتها المرتفعة، وأبوابها الكبيرة. المغلقة على الدوام، وكأنها خالية، من الحياة.
في غرب البلدة. كانت تتوضع دوائر الحكومة. خلالها كانت تتوزع، بيوت الموظفين. أما بيوتنا -نحن الفقراء- فقد كانت تتميز بأسقفها الواطئة. وألوانها التي كانت تشكل، امتداداً، لأزقتها الترابية. وكانت تقع في الجهة الجنوبية. على ظاهر البلدة.
في المدرسة الريفية. كنا نلتقي، جميعاً. نحن، وأولاد الأغنياء، وأولاد الموظفين. وكنا الأكثرية. وكان من المفروض. أن تذوب الأقلية.. فينا.. لكن تلك الحدود الوهمية. كانت تفصل، كل فئة، عن الأخرى، كنا نجري. ونقفز. ويدفع بعضنا، البعض الآخر. وقد يقع أحدنا، على الأرض الترابية. فتزداد ثيابه، وساخة، وقد تتمزق. لا يهم. فالرقع، سوف تزداد، واحدة أخرى.
أما أولاد الأغنياء فكانوا يتفرجون علينا. وهم يقفون على أطراف الساحة. يمضغون ما تمتلئ به جيوبهم. وكان يشاركنا، أحياناً، أولاد الموظفين، لعبنا. لكن دون الدخول، في عمق الساحة.
وأخذنا نكبر. أنا وحسين. وأخذت أحلامنا تكبر، معنا. واكتشفنا، فيما بعد. أن كل الناس.. يحلمون، مثلنا.
وجاء اليوم. الذي تحققت فيه، أحلامنا، وأحلام الناس. وانهارت، كل الحدود، في بلدتنا الصغيرة. وأصبحت الأكثرية، الفقيرة، صاحبة الكلمة الأولى. وكانت خطوتنا، الأولى، على طريق الأحلام المتحققة. هي دخولنا المدرسة الاعدادية. ذلك الحاجز الذي كان يقف، عنده، أبناء الفقراء.
وجرت مياه كثيرة. في النهر الصغير، القادم من الشمال. وأشاد الفقراء بيوتاً كثيرة، على الهضبة الخضراء. خلف قصور الأغنياء. وإن كانت البيوت الجديدة، عمادها اللبن الترابي. إلا أنها كانت مطلية بالكلس الأبيض. وأصبحت سقوفها، أكثر ارتفاعاً.. وحملنا، أنا وحسين، أهلية التعليم. وأصبحنا معلمين، في المدرسة الريفية. وانتسبنا إلى الجامعة.. من بعيد. وتسنمنا، بهذا الانجاز، قمة الأحلام.. وفي هذه المرحلة، من حياتنا.. أحببنا، وداد.
لا عجب. أن نحب، سوية. فتاة واحدة. ألسنا كياناً واحداً، في اثنين. لكن العجيب، في الأمر. أن وداد، أحبت.. كلينا. وكانت في حيرة، من أمرها.. أينا تختار. إلا أنها اعترفت لي، بعد شهور. بأنها تحبني، أكثر قليلاً، من حسين. ولكنها لا تريد أن تغضب رفيقي. وكان رد فعلي. عجيباً أيضاً. عندما أخبرت وداد.. أني أنا أيضاً. أخاف أن يغضب حسين، مني، بسببها.
كان يبدو لنا. أن مشكلتنا مع وفاء، لا حل لها. وكان هذا الأمر، يتفاقم، يوماً، بعد يوم. حتى خيل إلينا. أنه سوف يقضي، على علاقتنا. التي لم يكن يخطر، على بال أي منا. أن أي أمر. يمكن أن ينال منها.
وجاء الحل، من السماء. فقد تم ترشيح حسين، للتعاقد مع دولة خليجية، للتعليم.. هناك. وبقدر ما كان حزني على مفارقة حسين، كبيراً. فقد كان الشعور بالذنب كبيراً أيضاً. لأني فرحت لسفر حسين، الذي جعل وداد تصبح لي، صافية.. وظل هذا الشعور بالذنب يؤرقني.. زمناً طويلاً.
وكانت الرسائل هي وسيلة حضور أحدنا، أمام الآخر. رغم البعد. فقد تعاهدنا، عند الوداع. أن نجعل، بين الرسالة والأخرى، أسبوعاً، فقط. وأن نسطر في الرسالة، حياتنا خلال الأسبوع. دون أن نغفل.. أي أمر. إلا أني -رغماً عني- كنت أخفي عليه، تطور علاقتنا، أنا ووداد. رغم أنه، وفي كل رسالة، كان يستحثني، على الحديث، عنها.
بعد سنة. أخذ يحدثني، عن الفائض الكبير، من مرتبه. وكيف أنه، بإمكانه، أن يفعل، في المستقبل، أشياء كثيرة، هنا، في البلدة، بالمقابل. كنت أحدثه، عن تناقص قيمة، مرتبي، هنا يوماً بعد يوم. وكيف أني. سأجد نفسي، في المستقبل. وأنا عاجز عن أن أفعل، أي شيء.
ومرت سنوات أخرى. خلال آخر سنة. كانت رسائل حسين، تتناقص باستمرار. وكذلك عدد صفحاتها. ثم انقطعت رسائله، تماماً، في نهاية العام الماضي. ومن العجيب. أني كنت، قد توقعت، هذه النهاية. لأني، لم أكن أكتب له، إلا عن اليأس، الذي استقر، داخل نفسي. وكان يتفاقم، يوماً بعد يوم. وعن هذه الأيام. التي جعلتني أتحسر، على أحلامنا التي كنا نتعاطاها، ونحن صغار. لقد كانت أحلامنا، آنذاك. طليقة. ولم يكن ادراكنا القاصر. يتصور أن تقف أمام الأحلام أية قيود أو سدود. أحلامنا اليوم تحولت إلى كوابيس. فالراتب رغم أني كنت مستقلاً به. لم يكن يتحمل أن يرفع عليه أي بناء.
كان عليّ. أن أجمع مهر وداد وأن أبني لها ولو غرفة صغيرة ضمن دار الأسرة، وفيما كنت أتخبط في حيرتي المستمرة منذ سنوات محاولاً أن أحل هذه المعادلة المستحيلة. عاد حسين من الغربة فجأة. وعندما التقينا ضممته إلى صدري بقوة، وأنا أغمره بقبلاتي والدموع تجول في عيني. بينما هو كان يضحك وهو يخلص نفسه، من بين ذراعي. وجلسنا على الأرض وأنا ما زلت أمسك بيده. ثم خلص يده من يدي وهو يقول:
-أول هدية ستكون من نصيبك..
ثم قام إلى إحدى الحقائب الكبيرة المرصوفة، في صدر الغرفة وأخرج علبة وقال:
-هذا من مستلزمات السياسي. أنت تحب الأخبار وهذا (الراديو) له عشر موجات يعطيك الأخبار، من كل إذاعات العالم.
شعرت بعد ساعة أن ذلك الحبل الذي يربطني مع حسين وكأنه قد انقطع منذ زمن بعيد، حاولت أن أعيده إلى الماضي، لكنه هز يده بشدة كأنه يطرد الماضي.. بعيداً أخذ يسأل المختار الذي كان يقلب هديته، بين يديه عن أسعار العقارات في البلدة. عرضت عليه أن نذهب في جولة.. عند النهر، لكنه اعتذر بشدة عن الذهاب إلى أي مكان فقد كان يتوجب عليه من الغد أن يراجع في مركز المحافظة عدداً من الدوائر وقد تستغرق هذه المهمات أسبوعاً أو أكثر من إجازته القصيرة.
نسيت هديته، على الأرض وأنا أغادر المكان لحق بي، وهو يضحك. خيل إلي أنه غير رأيه وسوف يأخذني في جولة. ولو في سيارته الفارهة. دس الهدية بين يدي الممدودتين إليه وعاد سريعاً.. إلى ضيوفه.
وأنا أتوحد مع نفسي في فراشي آخر الليل وحتى وافاني النوم. عند الفجر، كنت أتعارك مع أفكاري السوداء التي أخذت تطبق علي من كل جهة.
في الأيام التالية تأكد لي أن حسين كان يتهرب من لقائي بشتى الحجج ولم يعد يصلني به إلا أخباره التي كانت تتوالى محدثة في كل مرة ضجة في بلدتنا الصغيرة.
في اليوم الثالث من عودته.. اشترى قصر ناظم بك على الهضبة الخضراء.
في اليوم الرابع اشترى دفعة واحدة أرض محمود آغا وكراج الخواجة حنا.
في اليوم السادس تزوج من وداد.. وسافر بها في اليوم السابع.
في اليوم الثامن كانت الأمور قد اختلطت علي تماماً وعندما كنت أعود آخر النهار من جولتي التي كانت تبدأ عند شروق الشمس حول الحقول، وعلى مسار النهر كان يصلني الهمس حولي واضحاً.. من أني قد أصبت بالجنون. كنت أنظر حولي بذهول وكنت أريد أن أثبت لهم.. بأني ما زلت عاقلاً كما كنت دوماً إلا أني فشلت إلى هذه الساعة ولم يكن لهم أي ذنب في ظنونهم بي لأني عندما كنت أريد أن أستعيد صورة، رفيقي حسين المفقودة أجدها وقد تلبست في صورة ناظم بك ولأني كنت أردد بأني سوف أقتل ناظم بك والكل يعلم أن ناظم بك قد مات منذ زمن بعيد.