فلا حاضر ولا مستقبل إلا بإشراقة حُبِّه في حياتها، ولا معنى لسعادتها إلا معه وبه، فكيف يكون هذا الحب عندما يكون الرجل هو محمد -صلى الله عليه وسلم- المتوقَّع له النبوَّة، وحمل آخر رسالات رب العالمين للناس أجمعين، وأن تكون هذه المرأة هي خديجة سيدة قومها، وفريدة عصرها بنبلها وطهرها وعظمة خلقها؟! لم يكن حب خديجة لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وانجذابها نحوه حب امرأة لرجل أو انجذاب أنثى لذكر، فلو أرادت خديجة ذلك وحده لوجدته في أكابر رجال مكة وفتيانها الذين تنافسوا على خطب ودِّها لمالها وجمالها ونسبها، ولكن خديجة كانت في شغل عن ذلك كله، وفي غنى عنه، فقد تزوَّجتْ مرتين وأنجبتْ البنين والبنات، وأخذتْ من متع الحياة نصيباً، وليس في حياتها فراغ تملؤه برجل مثل سائر الرجال، فهي راضية بما قسم الله لها، مشغولة بتجارتها، فخورة بمكانتها وسمعتها وجلال قدرها في مكة وخارج مكة، حريصة على ذلك كل الحرص، فاحترام الناس وإنزالهم لها هذه المنزلة لا يُقدَّر عندها بثمن، وهو أغلَى ما تملك وأعظمُ ما تملك. فقد وهب الله خديجةَ من الصفات والمزايا ما لم يَهبْه لغيرها من النساء، فقد كانتْ منذ صغرها إلى جانب جمالها وحُسنها، عاقلة، فائقة الذكاء منذ صغرها، ذات شخصية مميزة، وحضور فرض احترامها على كل آل أسد بن عبدالعزّى، فلم تعاملها الأسرة معاملة الفتيات اللاتي كُنَّ في سِنّها، فكانَ يُسمَحُ لها بحضور مجالس الكبار لما تحلّت به من سمْتِ الرزانة وقلّة الكلام. وتحميص الأمور والتفكر فيها، والتروِّي عند السؤال. ولما شبَّت عن الطوق أصبح لها مهابةٌ بين النساء واحترامٌ عند الرجال؛ لقوة شخصيتها وحصافة عقلها، وكانت قوة الشخصية والحصافة في العقل وراء اشتغالها بالتجارة. فلما اشتغلتْ بالتجارة وتعاملتْ مع كافة أنواع البشر تكشَّف للناس حقيقة نُبْلِها وطيب عنصرها وفطرتها النقيّة حينما رفضتْ التعاملَ بالربا الذي كان شائعاً بين تجار مكة آنذاك، فأطلق عليها الناس لقب (الطاهرة) من كثرة حبِّها للخير وصناعة المعروف، إذ كانت تسترحم للعبيد الذين يسومهم أسيادهم سوء العذاب، وتطلب لهم الرحمة والمعاملة الإنسانية، وما أكثر الذين قضتْ خديجةُ ديونَهم وفرّجت كرباتهم، إذ كان الدَّيْنُ في مكة الجاهلية ضرباً من ضروب الربا والرِّقِ، وكان الرجلُ يستدين ليتاجر، فإذا خسر فإن الدَّيْنَ يتضاعف عليه مضاعفات ربوية، فإذا عجز عن سداده خسر حريته وأصبح عبْداً للدائن، وكان من الأعراف الدنيئة التي كانت تشمئزُّ لها خديجة أن المدين يتنازل عن أمِّه أو زوجته أو ابنته للدائن، وقد أنقذتْ خديجة بمالها وإباء نفسها الكثيرات من نساء مكة من ربقة العبودية والربا والعُهْر، إذ كان هؤلاء الدائنون يستخدمون هؤلاء النساء في بيوت البغاء المباحة في مكة الجاهلية، فإذا قضى الدائن دينه من عائداتها أعادها إلى أهلها!. كان الكثير من كبراء مكة يتفاخرون بامتلاك العبيد والمال والنساء وشرب الخمر، وكانوا يتباهون بالتكاثر في أموال الربا وظلم المساكين وعبادة الأوثان!!. أما عقيدتها فكانت أقرب للحنيفية السمحة والفطرة السليمة، فلم تذكر كتب التاريخ أن خديجة بنت خويلد طافت بصنم أو امتلكته في منزلها، أو اعتقدت في وثنٍ من الأوثان التي يتقرَّب بها قومُها لله ويعبدونها. كانت منذ صباها من أكثر بنات جنسها تعلّقاً بالكعبة، وليس ذلك بعجيب من فتاة مثلها عاشت في بيت يلقي بظله على الكعبة في العشي، وتعلُقُ أغصانُ أشجاره بأثواب الطائفين لشدة قربه منها، وكانت خديجة منذ تلك السن الصغيرة من أكثر الناس جلوساً واستماعاً لابن عمها ورقة بن نوفل بن عبدالعزى المتبحِّر في علوم الديانات الذي كان يؤكد أن قريشاً والعرب جميعاً انحرفوا عن ديانة إبراهيم وإسماعيل. كانت قد سمعت منه قصة عمرو بن لحي، زعيم خزاعة الذي أدخل عبادة الأوثان لأول مرة إلى الحجاز بعدما زار الشام، ورأى القوم هناك يعبدون الأوثان ويعظمونها، ويطلبون منها، فأعطوه صنم (هبل)، فجاء به إلى مكة وأمر الناس بعبادته، فكان أول من بدَّل دين إبراهيم، وأصبح الناس كلما خرجوا من مكة يأخذون معهم من حجارة الحرم فيطوفون بها حتى أصبح لكل قبيلة أو جماعة صنمٌ، وأصبح لأهل كل دار في مكة صنمٌ يعبدونه، وحفظت خديجة في صباها أبياتاً من ورقة بن نوفل لشاعر عاقل فيستهجن مافعله عمرو بن لحي، يقول فيها: يا عمرو إنك قد أحدثتَ آلهةً شتَّى حول البيتِ أنصاباً وكان للبيت ربٌّ واحدٌ أبداً فقد جعلتَ له في الناسِ أرباباً لتعرفن بأن الله في مَهلٍ سيصطفي دونكم للبيتِ حُجَّابا ولم تنسَ خديجة أبداً أنها ضحكت كثيراً عندما روى لها ورقة بن نوفل في صباها قصة الرجل الذي رأى الثعلب يبول على إلهه، ولم يستطع الإله أن يمسَّه بسوء، فأنشد فيه: أربٌّ يبول الثّعلبان برأسه لقد ذلّ من بالتْ عليه الثعالبُ! وحفظتْ خديجة في ذاكرة الصبا قصة قبيلة بني حنيفة التي كانت تصنع آلهتها من التمر والسمن، ثم تأكلها إذا ألمَّت بها مجاعة، فكانت كلما سمعت بذلك يحدث من آخرين في مكة ضحكت ساخرة، وأنشدت بيتين لشاعر عيَّر بني حنيفة بفعلتهم، يقول فيهما: أكلت حنيفة ربَّها عام التقحُّمِ والمجاعة لم يحذروا من ربهم سوءَ العواقبِ والتباعة؟! وكانت خديجة من أوائل من عرف بقصة الاتفاق السري الذي انعقد بين ورقة بن نوفل وثلاثة من الرافضين لوثنية قريش، الباحثين عن حقيقة التوحيد، وهم: عبيدالله بن جحش بن رئاب، وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبدالعزى، وزيد بن عمرو بن نفيل على أن يضربوا في الأرض بحثاً عن عقيدة إبراهيم عليه السلام. وكانت خديجة أكثر إعجاباً وتقديراً لزيد بن عمرو بن نفيل الذي كان أكثر الأربعة جرأة في مواجهة قريش، فقد أسند ظهره إلى الكعبة بعد ذلك الاتفاق، وقال بأعلى صوته: ( يا معشر قريش، والذي نفس زيد بن عمرو بيده ما أصبح أحد على دين إبراهيم غيري)، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: (اللهم لو أني أعلم أيَّ الوجوه أحبّ إليك عبدتك به ولكني لا أعلمه) ثم سجد على راحتيه. تاركاً الناس من حوله ينظرون إليه مبهورين (ابن كثير). البداية 2 - 258 . على أن أكثر ما كانت تذكره خديجة وغيرها من نساء مكة لزيد بن عمرو بن نفيل رفضه لعادة وأد البنات، فكان كلما علم أن رجلاً ذاهب لوأد ابنته تبعه واسترحمه، وعرض عليه أن يأخذها منه ويجنبه عارها كما كانوا يعتقدون - إن كان غنياً -، وإن كان فقيراً يقول له:(لا تقتلها أنا أكفيك مؤونتها)، وقد أفنى ماله في إنقاذ وكفالة الطفلات الصغيرات من هذا الظلم والجهل. وقد طاف زيد بن عمرو بن نفيل طويلاً بحثاً عن حقيقة دين إبراهيم، وعندما قُتِل في غربته حزن عليه صديقه ورقة بن نوفل حزناً عميقاً، وقال: لقد خسرت بموته عقيدة إبراهيم مؤمناً شجاعاً، وبكت خديجة متأثرة، وقالت: كان لموؤودات مكة نعم المنقذ ونعم النصير، وما أكثر ما ردَّد ورقة بن نوفل بحضورها الأبيات الشهيرة التي حفظها الناس لزيد بن عمرو بن نفيل ودموعه تلمع في عينيه: أرباً واحداً أم ألفَ رب أدين إذا تقسمت الأمورُ عزلت (اللات) و(العزى) جميعاً ولا (صنمي بني عمرو) أدور ولا (غنما) أدين وكان ربَّاً لنا في الدهر إذ حلمي يسير عجبتُ، وفي الليالي معجبات وفي الأيام يعرفها البصير وقد بكت خديجة مراراً بعد ذلك وهي تسمع عن بنات وأدهن آباؤهن الذين كانوا في سفر بعد أن كبرن وعقلن، وظل مجتمع النساء في مكة يردد الكلمات التي قلنها لآبائهن أثناء دفنهن وهن على قيد الحياة. وقد حاولت خديجة بكل ما وسعتها مكانتها وحيلتها ومالها أن تفعل شيئاً لبنات جنسها، وتفعل شيئاً للمرأة في المجتمع المكي الجاهلي التي كانت تعاني صنوف الذل والخسف والهوان، بدءاً بدفنها حيَّة وهي طفلة، مروراً باستباحتها جسداً وروحاً؛ حيث يباح البغاء والتعدد الذي ليس له حدود، والجمع بين الأخوات وانتهاءً بالاستعباد والاغتصاب والإذلال الذي يعامل فيه الرجل المرأة وكأنها سقط متاع (بلوغ الأرب في أخبار العرب.. الألوسي 237). لم يكن عجباً إذن أن تكون خديجة حنيفية بالفطرة، وأن تكون مع الباحثين عن دين إبراهيم، ومن المنتظرين لرسالة رب العالمين، ولم يكن عجباً أن تزهد في الزواج وبعد أن مرت بتجربته مرتين في مجتمع ينظر إلى المرأة هذه النظرة.. ولم يكن عجباً أن تتطلع خديجة وهي في سن الأربعين - قمة النضج والعقل والوعي - إلى أشواق روحها للحقيقة المنتظرة قريباً التي حدثها عنها ابن عمها ورقة بن نوفل، ولتكون هذه الحقيقة الحب الأعظم والأغلى في حياتها، وحين لاحت بوادر هذه الحقيقة. ورأت بشاراتها بين يديها، وأمام ناظريها، وقد تجسدت في رجل طاهر صادق أمين لم يعكف على وثن قط، اسمه محمد - صلى الله عليه وسلم-، تمسكت به، وحرصت على الزواج منه وطلبته صراحة وأحبته حباً لم تحبه امرأة قبلها لرجل قط.. وقد توسمت في حبها له الحقيقة كاملة، وعاشت معه على يقين يزداد كل يوم بأنه مبعوث رب العالمين برسالته، وأنه آخر الأنبياء. ولم يخيِّبِ الله رجاها، وصدقت الرؤيا، وأحست بعد زواجها منه أنها تحتضن نوراً يشعُّ من بيتها فيضيء الكونَ كله، وكان ذلك فضل الله عليها، وكان ذلك أعظم ما أنعم الله به على امرأة لم تسبقها إليه أنثى غيرها، رضي الله عنها وأرضاها. *** أتيت والناس فوضى لا تمرُّ بهم إلا على صنمٍ قد هام في صنمِ والأرض مملوءة جوراً مسخرةً لكل طاغيةٍ في الخَلقِ محتكمِ
كاتب المقال: د. محمد أبو بكر حميد المصدر: جريدة الجزيرة