غلبه النعاس، وود للحظة أن يتهالك فوق سريره الخشبي ويغمض عينيه المتعبتين. أبعد فكرة النوم عن ذهنه وحمل أربع كرات مفلطحة ووضعها فوق الأرضية، دوي صراخ الأطفال والصبيان ما يزال يرن في جمجمته الصغيرة، مسح جفني عينيه بسبابته وانداحت خصلة شعر فاحمة أمام عينيه فسحبها إلى الصدغ، نظر إلى الساعة اليدوية المعلقة ورأى عقاربها الثلاثة. لا يزال يذكر وجه أمه عندما كانت خيوط قد حيكت لتوها. قالت له: -إذا لم تذهب الآن سيجلبون غيرك. -ما زلتُ بحاجة إلى النوم، إني متعب. وعندما خرج كان والده قد ارتدى بدلته الزرقاء وجلس يتناول الجبن والخبز. في العام الماضي كان يقف في مستطيل الباب ويودعه. أبتاه، اشتر لي قماشاً لدشداشة صيفية، أنت تعرف أنني بحاجة إليها.. بابا، أنت تشتغل في معمل النسيج ومع ذلك فأنت لا تشتري لي قماشاً تصنعه أنت بيدك.. بابا ألا يعطونكم قماشاً ويقولون هذا لأولادكم؟ أربعة صبيان ورجل يقفون خلف المنضدة المغطاة بايزار ملون، يومياً تأتي الوجوه نفسها وتقف قليلاً ثم ترحل، هذه الصبية ذات العينين الواسعتين كم هي جميلة!! تأتي مساء كل يوم.. تحدق في عينيه وتبتسم.. ما أجمل ثوبها الأخضر. يحدق في كعبي قدميها ويرى الشقوق العريضة.. يدرك معنى الشقوق ومعنى الابتسامة. يود لو تبقى طويلاً كي ينسى تعبه. ولكن دورها سيأتي فتأخذ حصتها وتذهب. قبل أيام قالت له باسمةً: -أنتَ تتعب كثيراً والخيوط الحمراء تلوح واضحةً في عينيك. -لم أنمْ ظهراً. أخشى أن يمضي الوقت وأنا نائم. هؤلاء الصبيان سيمضون بعد قليل. يتناولون العشاء ويغرسون أسنانهم في قطع الرقي الهلالية. يحسون بحلاوة الثمر الأحمر وتدفع ألسنتهم حبات الرقي السود ليقلوها بعدئذ ويأكلونها في السينما، طيلة حياته لم يذهب إلى السينما. المعلم يتكلم عن بعض الأشياء قائلاً لهم: لا بد أنكم رأيتم في السينما. أغلبية الرؤوس تهتز بينما يظل رأسه ساكناً وعيناه متحجرتين. هؤلاء الصبيان يقضون أيامهم في اللعب. إنهم ينامون كثيراً ويلعبون كثيراً. وهذه الصبية لا تبدو عليها علامات الراحة، هذه الصبية تتعب كثيراً مثله، آه، ما أجمل عينيها الواسعتين. مد الرجل الذي يحمل الملقط ذراعه في داخل التنور وأداره عدة دورات وأخيراً أخرجه، أصابع كفيه محترقة ومتورمة. انتقل إلى التنور الآخر حيث النار ترسل لهيبها خارج الفوهتين لتصطدم بالوجوه السمر وبالتالي يصبح المكان ساخناً كالجمر. ضرب الصبي المنضدة بالكرات عندئذ التفت بالطحين وبعد قليل أحس بمرونتها في كفيه ووضع الكرات في نفس المكان. نظر إلى ساعد الرجل الذي يحمل الوسادة ولاحظ عروقها الناتئة فقال في سره: "كم يلزمني من العمل حتى يصبح ساعدي ضخماً مثل ساعده وتظهر عروق يدي كالحبال؟!" أغلق جفنيه مرتين متتاليتين وأحس بثقلهما. وود مرةً أخرى أن يرتقي السلم الحجري ويتهالك فوق السرير، يرتقي السلم ويعب جرعتين من الماء من إناء الفخار فيسمع فجأةً صوت أخته الصغيرة في المهد. تتحرك خطواته نحوها ويقبلها في الوجنتين والجبهة. يقول لها: كم أحبك يا سوسو!! كم أحب أن أقضي النهار معك! ربما أنت ضجرةٌ مني لأنك لا تجدين أحداً تضحكين في وجهه، كم أحبك يا سوسو لكنه العمل، العمل يا سوسو حبيبتي، يضع زجاجة الحليب بقربها. يربت على صدرها بلطف. نامي. نامي عزيزتي. فغداً عندي عمل كثير. أشار صبي بأربع أصابع للرجل ذي الملقط الكبير. وظل الرجل الذي يحمل الرقية يحدق في شابتين مرتاعاً وهو لا يني يهز ذراعه ويغمغم بصوت خافت. نقل الرقية إلى الذراع الأخرى وارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة، فيما ظل الصبي يتنقل بين المنضدة والجسدين المتحركين. وفجأةً سقطت من يده كرة العجين وانفرشت فوق الأرض، حدق بحزن إلى الكرة وأحنى جسده وظلت عيناه ترقب الصبية. اقتنصت أصابعه الكتلة البيضاء ورماها في برميل في الركن. وعندما عاد قال أحدهم وهو يزيل العجين عن كتفه: -يبدو عليك التعب، تستطيع أن تذهب. -لا، بقي على انتهاء العمل نصف ساعة. في داخله كان يود أن يذهب ويحمل في يده الدراهم الأربعة ولكن الرجل الذي يرتدي البيجاما سيتعب كثيراً في المدة المتبقية وربما يراوده الضجر. شعر برغبةٍ جارفة في أن يبلل جسده بالماء. يغرف الماء من الحوض الصخري ويلقي بالماء على جسده ليمحو آثار التعب ويشعر بالانتعاش. يستلقي في السطح ويحدق في النجوم والقمر المضيء. حاول مرةً أن يحسب عددها فأخطأ وحاول مرةً ثانية ففشل أيضاً وأخيراً قرر أن عد النجوم بشكل صحيح شيء محال. سيارات الفورد والايكاروس تقف قبالته، ها هم الناس يترجلون بعد أن أمضوا بعض الوقت يتجولون في المدينة ويتأملون تمثال الصياد قبالة السدة. قال له أصدقاؤه: نحن لا نراك. أين تختفي؟ لماذا لا تأتي معنا؟ سترقص الغجريات هذا اليوم. نحن لم نرَ في حياتنا الراقصات الغجريات. تعال معنا، من فضلك. لماذا لا تأتي؟ سنصنع طائرةً ورقيةً ونلصق عليها صورةً جميلة ونطلقها في الفضاء. لماذا لا تأتي؟ سنصنع لك طائرةً من هذا النوع. غادر الصبيان المكان ومن ثم الرجل وبعدها غادرت الصبية ذات الثوب الجميل وهي تشيعه بنظرات ملؤها الحنان. وظل الصبي الواقف يشير بأصابعه الأربعة. وضع الرجل الأسمر الغطاء على فوهة التنور ورمق الصبي الواقف خلف المنضدة بنظرة عابرة. نظر الرجل إلى أصابع كفيه المحترقة وأدرك قساوة العمل اليومي. رمى الرجل الأسمر رغيف الخبز فتلقفته أصابع الصبي وشعر بحرارته فسحب كفه وصفّر، ها هو آخر إنسان يرحل وسينقطع الأزيز في رأسه حتى صباح الغد، ليعاوده من جديد، رأى الصبي يضع أرغفة الخبز في حضنه وبانت ساقاه السمراوان وأخيراً غابتا في العتمة. هؤلاء الصبيان ما أجمل حياتهم!! يقضون أيامهم في اللعب.. يصعدون فوق السطوح حاملين الطائرات الملونة. يشدون بها البالونات المملوءة بالغاز. يربطون طائراتهم.. وفي الليل يظلون يحدقون فيها تحت ضوء القمر حتى يغفون. شعر الصبي بألم في رأسه. وأغمض عينيه عدة لحظات. كانت النار تبدأ بالخفوت والرجال الثلاثة كفوا عن العمل وبدأوا يغتسلون، نظروا إليه وهو يسند ظهره إلى المنضدة ورأسه يتدحرج إلى الوراء. مسح أحدهم وجه الصبي بالماء وأشار إليه بموعد انتهاء العمل. فتح عينيه المحمرتين وأحس برغبةٍ جارفة في إغماضهما ثانيةً. تناول النقود وهمّ بالخروج. -لن أحضر غداً. -حسناً هرول مسرعاً وهو يمسك بجيبه. كان فرحاً وفي سره كان يقول: "هأنذا أعود إليكم يا أصدقائي. هل ستصنعون لي طائرةً ورقية تحمل صورةً جميلة؟ أيتها الصبية ستكونين أجمل عندما أراك غداً. آه كم هو جميل ثوبك الأخضر!!"
غلبه النعاس، وود للحظة أن يتهالك فوق سريره الخشبي ويغمض عينيه المتعبتين. أبعد فكرة النوم عن ذهنه وحمل أربع كرات مفلطحة ووضعها فوق الأرضية، دوي صراخ الأطفال والصبيان ما يزال يرن في جمجمته الصغيرة، مسح جفني عينيه بسبابته وانداحت خصلة شعر فاحمة أمام عينيه فسحبها إلى الصدغ، نظر إلى الساعة اليدوية المعلقة ورأى عقاربها الثلاثة. لا يزال يذكر وجه أمه عندما كانت خيوط قد حيكت لتوها. قالت له:
-إذا لم تذهب الآن سيجلبون غيرك.
-ما زلتُ بحاجة إلى النوم، إني متعب.
وعندما خرج كان والده قد ارتدى بدلته الزرقاء وجلس يتناول الجبن والخبز. في العام الماضي كان يقف في مستطيل الباب ويودعه. أبتاه، اشتر لي قماشاً لدشداشة صيفية، أنت تعرف أنني بحاجة إليها.. بابا، أنت تشتغل في معمل النسيج ومع ذلك فأنت لا تشتري لي قماشاً تصنعه أنت بيدك.. بابا ألا يعطونكم قماشاً ويقولون هذا لأولادكم؟
أربعة صبيان ورجل يقفون خلف المنضدة المغطاة بايزار ملون، يومياً تأتي الوجوه نفسها وتقف قليلاً ثم ترحل، هذه الصبية ذات العينين الواسعتين كم هي جميلة!! تأتي مساء كل يوم.. تحدق في عينيه وتبتسم.. ما أجمل ثوبها الأخضر. يحدق في كعبي قدميها ويرى الشقوق العريضة.. يدرك معنى الشقوق ومعنى الابتسامة. يود لو تبقى طويلاً كي ينسى تعبه. ولكن دورها سيأتي فتأخذ حصتها وتذهب. قبل أيام قالت له باسمةً:
-أنتَ تتعب كثيراً والخيوط الحمراء تلوح واضحةً في عينيك.
-لم أنمْ ظهراً. أخشى أن يمضي الوقت وأنا نائم.
هؤلاء الصبيان سيمضون بعد قليل. يتناولون العشاء ويغرسون أسنانهم في قطع الرقي الهلالية. يحسون بحلاوة الثمر الأحمر وتدفع ألسنتهم حبات الرقي السود ليقلوها بعدئذ ويأكلونها في السينما، طيلة حياته لم يذهب إلى السينما.
المعلم يتكلم عن بعض الأشياء قائلاً لهم: لا بد أنكم رأيتم في السينما. أغلبية الرؤوس تهتز بينما يظل رأسه ساكناً وعيناه متحجرتين. هؤلاء الصبيان يقضون أيامهم في اللعب. إنهم ينامون كثيراً ويلعبون كثيراً. وهذه الصبية لا تبدو عليها علامات الراحة، هذه الصبية تتعب كثيراً مثله، آه، ما أجمل عينيها الواسعتين.
مد الرجل الذي يحمل الملقط ذراعه في داخل التنور وأداره عدة دورات وأخيراً أخرجه، أصابع كفيه محترقة ومتورمة. انتقل إلى التنور الآخر حيث النار ترسل لهيبها خارج الفوهتين لتصطدم بالوجوه السمر وبالتالي يصبح المكان ساخناً كالجمر.
ضرب الصبي المنضدة بالكرات عندئذ التفت بالطحين وبعد قليل أحس بمرونتها في كفيه ووضع الكرات في نفس المكان. نظر إلى ساعد الرجل الذي يحمل الوسادة ولاحظ عروقها الناتئة فقال في سره: "كم يلزمني من العمل حتى يصبح ساعدي ضخماً مثل ساعده وتظهر عروق يدي كالحبال؟!"
أغلق جفنيه مرتين متتاليتين وأحس بثقلهما. وود مرةً أخرى أن يرتقي السلم الحجري ويتهالك فوق السرير، يرتقي السلم ويعب جرعتين من الماء من إناء الفخار فيسمع فجأةً صوت أخته الصغيرة في المهد. تتحرك خطواته نحوها ويقبلها في الوجنتين والجبهة. يقول لها: كم أحبك يا سوسو!! كم أحب أن أقضي النهار معك! ربما أنت ضجرةٌ مني لأنك لا تجدين أحداً تضحكين في وجهه، كم أحبك يا سوسو لكنه العمل، العمل يا سوسو حبيبتي، يضع زجاجة الحليب بقربها. يربت على صدرها بلطف. نامي. نامي عزيزتي. فغداً عندي عمل كثير.
أشار صبي بأربع أصابع للرجل ذي الملقط الكبير. وظل الرجل الذي يحمل الرقية يحدق في شابتين مرتاعاً وهو لا يني يهز ذراعه ويغمغم بصوت خافت. نقل الرقية إلى الذراع الأخرى وارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة، فيما ظل الصبي يتنقل بين المنضدة والجسدين المتحركين.
وفجأةً سقطت من يده كرة العجين وانفرشت فوق الأرض، حدق بحزن إلى الكرة وأحنى جسده وظلت عيناه ترقب الصبية. اقتنصت أصابعه الكتلة البيضاء ورماها في برميل في الركن. وعندما عاد قال أحدهم وهو يزيل العجين عن كتفه:
-يبدو عليك التعب، تستطيع أن تذهب.
-لا، بقي على انتهاء العمل نصف ساعة.
في داخله كان يود أن يذهب ويحمل في يده الدراهم الأربعة ولكن الرجل الذي يرتدي البيجاما سيتعب كثيراً في المدة المتبقية وربما يراوده الضجر. شعر برغبةٍ جارفة في أن يبلل جسده بالماء. يغرف الماء من الحوض الصخري ويلقي بالماء على جسده ليمحو آثار التعب ويشعر بالانتعاش. يستلقي في السطح ويحدق في النجوم والقمر المضيء. حاول مرةً أن يحسب عددها فأخطأ وحاول مرةً ثانية ففشل أيضاً وأخيراً قرر أن عد النجوم بشكل صحيح شيء محال.
سيارات الفورد والايكاروس تقف قبالته، ها هم الناس يترجلون بعد أن أمضوا بعض الوقت يتجولون في المدينة ويتأملون تمثال الصياد قبالة السدة.
قال له أصدقاؤه: نحن لا نراك. أين تختفي؟ لماذا لا تأتي معنا؟ سترقص الغجريات هذا اليوم. نحن لم نرَ في حياتنا الراقصات الغجريات. تعال معنا، من فضلك.
لماذا لا تأتي؟ سنصنع طائرةً ورقيةً ونلصق عليها صورةً جميلة ونطلقها في الفضاء. لماذا لا تأتي؟ سنصنع لك طائرةً من هذا النوع.
غادر الصبيان المكان ومن ثم الرجل وبعدها غادرت الصبية ذات الثوب الجميل وهي تشيعه بنظرات ملؤها الحنان. وظل الصبي الواقف يشير بأصابعه الأربعة.
وضع الرجل الأسمر الغطاء على فوهة التنور ورمق الصبي الواقف خلف المنضدة بنظرة عابرة. نظر الرجل إلى أصابع كفيه المحترقة وأدرك قساوة العمل اليومي.
رمى الرجل الأسمر رغيف الخبز فتلقفته أصابع الصبي وشعر بحرارته فسحب كفه وصفّر، ها هو آخر إنسان يرحل وسينقطع الأزيز في رأسه حتى صباح الغد، ليعاوده من جديد، رأى الصبي يضع أرغفة الخبز في حضنه وبانت ساقاه السمراوان وأخيراً غابتا في العتمة. هؤلاء الصبيان ما أجمل حياتهم!!
يقضون أيامهم في اللعب.. يصعدون فوق السطوح حاملين الطائرات الملونة. يشدون بها البالونات المملوءة بالغاز. يربطون طائراتهم.. وفي الليل يظلون يحدقون فيها تحت ضوء القمر حتى يغفون.
شعر الصبي بألم في رأسه. وأغمض عينيه عدة لحظات. كانت النار تبدأ بالخفوت والرجال الثلاثة كفوا عن العمل وبدأوا يغتسلون، نظروا إليه وهو يسند ظهره إلى المنضدة ورأسه يتدحرج إلى الوراء. مسح أحدهم وجه الصبي بالماء وأشار إليه بموعد انتهاء العمل. فتح عينيه المحمرتين وأحس برغبةٍ جارفة في إغماضهما ثانيةً. تناول النقود وهمّ بالخروج.
-لن أحضر غداً.
-حسناً
هرول مسرعاً وهو يمسك بجيبه. كان فرحاً وفي سره كان يقول: "هأنذا أعود إليكم يا أصدقائي. هل ستصنعون لي طائرةً ورقية تحمل صورةً جميلة؟ أيتها الصبية ستكونين أجمل عندما أراك غداً. آه كم هو جميل ثوبك الأخضر!!"