أنا وسادة، وسادة بسيطة. لستُ من ريش النعام، بل أنا وسادة من القطن. جيء بي أول مرة إلى تلك الدار العتيقة المرصوفة بالآجر. وضعوني في حجرة نوم ذات سرير نحاسي. في تلك الحجرة شممتُ أول مرةٍ عبق نسائم دجلة، وتناهتْ إليّ عبر نافذتها صيحات الصيادين إذ يجمعون شباكهم في صباحات جميلة ندية. كان الرجل الذي يريح رأسه فوقي يغادرني فجراً، فأتطلع إلى الوسادة الثانية، لصقي، وأرى شلالاً من الشعر الكستنائي اللامع يجري فوقها. كانت تلك الشابة السمراء البشرة تمد أصابعها الحانية وتتلمسني أما أصابع الرجل الخشنة فكانت تسحب، فجراً، شباكاً مثقلةً بالأسماك الفضية. تترك، فوقي، تلك المرأة، آثاراً من لمسات يديها، خصلاتٍ من شعرها الكستنائي، مسحات شفتيها المكتنزتين المصبوغتين بأحمر شفاه بنفسجي اللون. تضمني إلى صدرها. تقبلني. أتنشق عطرها الجميل. أتحسس نعومة ثيابها الهفهافة. كان الرجل يحب فستانها البنفسجي. حين ينهض من نومه فجراً تكون السماء بنفسجية اللون. يغيب عني الرجل أياماً معدودات. ينتابني قلق شديد. تضعني المرأة على وجهها الناعم. تتشمم رائحة الرجل الغائب. تقبلني. يسيل فوقي ماء أسود حار. لم يخيل لي أبداً أن البشر يمكن أن ينبجس منهم ماء حار مالح. ما كنتُ أعرف أن في أجسادهم سوائل أخرى غير ذلك السائل الأحمر اللزج الذي كنتُ أراه غالباً على ملاءة السرير. كان الماء الحار يبللني كلما يغيب عني الرجل. غالباً تحتضنني المرأة بحنان، تضغطني بقوة، فأكبتُ ألمي حياءً وأتمنى عودة الرجل. كان الرجل يحلم دوماً بالأسماك الفضية تتراقص في شباكه. أما المرأة السمراء فتحلم دوماً بطفل يحبو فوق أرض الدار الموصوفة بالآجر. كانت المرأة ترفعني عن الفراش بين حين وآخر، تزيل عني أحلام الرجل وتأخذني إلى سطح الدار. أبقى، هناك، حتى الأصيل. بعدها تنزل بي درجات السلم الحجرية المثلّمة. وتعيدني أنا والوسادة الثانية إلى الفراش الناعم في الحجرة ذات النافذة الواسعة. (2) عشتُ سنين طوال في تلك الدار. كانت سنين حلوة لا يعكر صفوها شيء.. ثم فجأةً، تغيرت الدنيا، وصرتُ أرى الوجوم بادياً على وجهي الرجل والمرأة. وصار الرجل لا يبكر في نهوضه من النوم.. بل يجلس على تلك الأريكة وسط الحوش ويدخن سكائره بشراهة. أما هي فتجلس إلى جانبه صامتةً تحدق بالجدران التي تشقق كلسها وفي السقف الذي أنهكته الرطوبة. وذات يوم أحس الرجل بألم في صدره. غادرني متعباً. جرجر ساقيه بتثاقل. غاب ساعتين ثم عاد وارتمى فوقي. شعر بالغثيان. لمحت حبيبات شفافة على جبينه. أتته المرأة بقدح ماء بارد. قربته إلى شفتيه الذابلتين. وضع قرصاً تحت لسانه. وأغمض جفنيه المتعبين. أخذ يضع علبة الأقراص الصغيرة تحتي. حين يشعر بألم في صدره، يمد يده إليّ، يرفعني قليلاً، يضع قرصاً تحت لسانه، يتقلب في فراشه. ثم يغفو. لم يغادرني طوال أسبوع. كانت المرأة تعتني به. تجلب له طبق الحساء، وترفع الملعقة إلى فمه. يبتلع الحساء صامتاً واجماً. حين يفرغ نصف الطبق، يرفع رأسه ناظراً إلى سقف الحجرة. يمسح شفتيه بمنديل حائل اللون. ثم يرتمي فوقي ثانيةً. صار الرجل لا يغادرني إلا سويعات قلائل. يجرجر قدميه إلى مقهى الصيادين يحتسي شاياً مراً. يستذكر مع صديق قديم أيام الطفولة والشباب. صديقه يردد بأسى أغنيته الأثيرة: "يا صياد السمك صد لي بنية". يطفئ عقب سيكارته.. يضرب كفاً بكف.. يطلق حسرةً عميقةً ويهتف قائلاً: "ضاع كل شيء.. جف النهر وتحول إلى ساقية صغيرة." يعود للبيت. يحكي للمرأة عما جرى له في المقهى.. أرهف السمع لكلماته الطافحة بالألم والمرارة. أخذت المرأة تغيب عن الدار وتعود عصراً منهكةً، في ثيابها القديمة البالية رائحة قمح. يكسو منديل رأسها الحائل اللون مسحوق أبيض ناعم. أصيل كل يوم تصنع أقراصاً سمر خشنة. يأكلها الإثنان مع صحني الحساء في الحجرة ذات السرير النحاسي. حين أخذتني المرأة، ذات يوم، إلى السطح، فوجئتُ بأن الدار تكاد تكون خالية. فقد اختفت الدراجة الهوائية الحمراء ذات العجلات الثلاث التي تمنت أن يعتليها طفل ضاحك الوجه. واختفى ذلك الجهاز الموضوع على الرف الذي كان يصدح بالأغاني ذات يوم.. أغاني الفلاحين في خلال موسم الحصاد، أغاني العشاق في ليالي السهر والانتظار، أغاني الصيادين المسرورين بصيدهم الوفير.. اختفت أشياء أخرى.. لا أدري ربما هي مثلي معروضة للبيع في أحد أسواق المدينة. أنا مجرد وسادة. وسادة بسيطة رقد فوقها رجل امتلأت شباكه فيما مضى بالأسماك الفضية. هو الآن طريح الفراش، ينهشه الجوع. يمكث في غرفة لم يعد يسمع عبر نافذتها الواسعة صيحات الصيادين، ولم يعد يشم منها عبق نسائم دجلة. أحدق بوجوهكم يومياً، وأنتم تمرون بي، كل صباح، ذاهبين إلى مدارسكم، دكاكينكم، دوائركم؛ دوختكم الدنيا.. وجوهكم شاحبة، متعبة، ناشفة. الشيب شرع يغزو شعوركم. الغضون تلوح على جباهكم وحول شفاهكم المزمومة باستياء. معظمكم يرتدي أَسمال رثة، نفر قليل منكم في ألبسةٍ أنيقةٍ زاهية الألوان. مع أنكم جميعاً تمرون بي، إلا أن أحداً منكم لم يكترث بي يوماً، ولم يخطر بباله قط كم قاسيتُ، كم سهرتُ، كم بللني الماء المالح، وكم عانيتُ من الأحلام المزعجة والذكريات المريرة. عتبي عليكم، أنكم لا ترونني، مع أنكم تحدقون بي يومياً. لعلي سأبقى هنا في هذا السوق، حتى يأتي رجل أو سيدة، فيأخذني تحت ذراعه، لأبدأ حياةً أخرى. (3) لم يأتِ إليّ رجل محترم أو امرأة محترمة، بل شحاذ أشعث الشعر، يرتدي دشداشةً رثةً حائلة اللون، ذات جيب صدر ممزق إلى النصف. وقف قبالتي. رفعني وشرع يتأملني بإمعان. قال الشاب الذي يلبس النظارة الشمسية: "ضع البضاعة، أيها الخروف الأجرب." ذهل الشحاذ. لم يقل شيئاً. انتزعني الشاب من بين يديّ الشحاذ بقوة هاتفاً بسخرية: "اتركها أيها القذر.. اجعل من نعليك وسادةً لك. هذا إذا لم تكن حافي القدمين!!". لم يردْ الشحاذ بشيء. أعادني الشاب إلى مكاني فوق عدد من البطانيات السمكية التي نقشت عليها نمور ملونة. فتح الشحاذ كفه اليمنى القذرة، الرطبة. كان فيها بضع أوراق مالية. قال الشحاذ: "لم انتزعتها مني؟ خذ ثمنها. كم ثمنها؟" رد الشاب ذو النظارة الشمسية: "مائة دينار لا غير." ضحك الشحاذ ضحكةً بلهاء. فتح فمه المتسخ على وسعه، بانتْ أسنانه الصفر الكبيرة. قال بنبرة ألم: "خذ مائة دينار إذاً. وأعد لي الباقي." استل الشاب ورقة مالية فئة مائة دينار. رفعني الشاب ورماني إلى صدر الشحاذ قائلاً بارتياح: "خذ البضاعة إذاً. أحلاماً سعيدة. Sweet dreams." أخذني الشحاذ تحت ذراعه. صدمتني رائحته. كانت نتنة ومقززة. سار بي مسافةً. توقف قرب عربة خشب يلتم حولها صبيان يمدون أيديهم ويأخذون مخاريط فيها ثلج أحمر قان.. مرت من هناك فتاة ترتدي قميصاً أخضر فاتحاً، يطوّق كتفيها شاب أنيق الملبس، يعتمر قبعة من القش. اصطدمتْ الفتاة بي. فصرخت مذعورةً: "يا للتعاسة!! شحاذون يحلمون!!" ضحك الشاب الأنيق ضحكةً صافيةً، أنزل ذراعه من حول كتفيها. قادها من يدها متحاشيين الشحاذين، الباعة الصغار، أصحاب عربات الخشب. أخذني الرجل النتن إلى رصيف ترامت عليه الظلال. كان المكان بارداً بعض الشيء. طرحني أرضاً قريباً من جدار مطلي بالأبيض. ثم تمدد على الرصيف وأراح رأسه الأشعث فوقي. أحسستُ بالقرف. ضقتُ ذرعاً برائحته الزنخة. مر رجل في الأربعين، في ذقنه شامة كبيرة، يحمل بيده اليمنى كتاباً سميكاً. حدق بالرجل المستلقي على الرصيف الذي سرعان ما أغفى في ذلك الظل البارد، وانكشفت ساقاه القذرتان، النحيلتان، الناتئتا العظام، وسرواله الداخلي الأبيض. هز رأسه عدة مرات وهو يتحدث بصوت أقرب إلى الهمس: "نامي جياع الشعب نامي.." بعد قليل أقبل رجل يرتدي قميصاً أبيض، متسخاً وربطة عنق زرقاء متسخة أيضاً. نظر إلى الرجل النائم شزراً، قلب شفتيه بامتعاض. أشار على سائق سيارة كبيرة، غريبة الشكل، بالتوقف. أوقف السائق سيارته الصفراء قرب الرصيف.. انحنى الرجل ذو القميص الأبيض، شد الشحاذ من شعره، انتزعني كمن ينتزع جذراً، أعاد الرأس إلى الأرض. كان الرجل ما يزال يغط في النوم. مشى خطوات قلائل ورماني في الجزء الخلفي من السيارة الصفراء. وفي لحظات شرعت السيارة تتحرك. حاولتُ النظر إلى الشحاذ لكنني كنتُ في جوف السيارة ولم أرَ شيئاً. بعدها، يا ويلي، يا لحظي العاثر، شعرتُ أن شيئاً ما ينزل عليّ ويكبسني بقوة، وبلا رحمة. وفي الحال، شعرتُ أن ستاراً أسود ينسدل عليّ إلى الأبد
أنا وسادة، وسادة بسيطة. لستُ من ريش النعام، بل أنا وسادة من القطن. جيء بي أول مرة إلى تلك الدار العتيقة المرصوفة بالآجر. وضعوني في حجرة نوم ذات سرير نحاسي.
في تلك الحجرة شممتُ أول مرةٍ عبق نسائم دجلة، وتناهتْ إليّ عبر نافذتها صيحات الصيادين إذ يجمعون شباكهم في صباحات جميلة ندية.
كان الرجل الذي يريح رأسه فوقي يغادرني فجراً، فأتطلع إلى الوسادة الثانية، لصقي، وأرى شلالاً من الشعر الكستنائي اللامع يجري فوقها.
كانت تلك الشابة السمراء البشرة تمد أصابعها الحانية وتتلمسني أما أصابع الرجل الخشنة فكانت تسحب، فجراً، شباكاً مثقلةً بالأسماك الفضية.
تترك، فوقي، تلك المرأة، آثاراً من لمسات يديها، خصلاتٍ من شعرها الكستنائي، مسحات شفتيها المكتنزتين المصبوغتين بأحمر شفاه بنفسجي اللون. تضمني إلى صدرها. تقبلني. أتنشق عطرها الجميل. أتحسس نعومة ثيابها الهفهافة. كان الرجل يحب فستانها البنفسجي. حين ينهض من نومه فجراً تكون السماء بنفسجية اللون.
يغيب عني الرجل أياماً معدودات. ينتابني قلق شديد. تضعني المرأة على وجهها الناعم. تتشمم رائحة الرجل الغائب. تقبلني. يسيل فوقي ماء أسود حار. لم يخيل لي أبداً أن البشر يمكن أن ينبجس منهم ماء حار مالح. ما كنتُ أعرف أن في أجسادهم سوائل أخرى غير ذلك السائل الأحمر اللزج الذي كنتُ أراه غالباً على ملاءة السرير. كان الماء الحار يبللني كلما يغيب عني الرجل. غالباً تحتضنني المرأة بحنان، تضغطني بقوة، فأكبتُ ألمي حياءً وأتمنى عودة الرجل.
كان الرجل يحلم دوماً بالأسماك الفضية تتراقص في شباكه. أما المرأة السمراء فتحلم دوماً بطفل يحبو فوق أرض الدار الموصوفة بالآجر.
كانت المرأة ترفعني عن الفراش بين حين وآخر، تزيل عني أحلام الرجل وتأخذني إلى سطح الدار. أبقى، هناك، حتى الأصيل. بعدها تنزل بي درجات السلم الحجرية المثلّمة. وتعيدني أنا والوسادة الثانية إلى الفراش الناعم في الحجرة ذات النافذة الواسعة.
(2)
عشتُ سنين طوال في تلك الدار. كانت سنين حلوة لا يعكر صفوها شيء.. ثم فجأةً، تغيرت الدنيا، وصرتُ أرى الوجوم بادياً على وجهي الرجل والمرأة. وصار الرجل لا يبكر في نهوضه من النوم.. بل يجلس على تلك الأريكة وسط الحوش ويدخن سكائره بشراهة. أما هي فتجلس إلى جانبه صامتةً تحدق بالجدران التي تشقق كلسها وفي السقف الذي أنهكته الرطوبة.
وذات يوم أحس الرجل بألم في صدره. غادرني متعباً. جرجر ساقيه بتثاقل. غاب ساعتين ثم عاد وارتمى فوقي. شعر بالغثيان. لمحت حبيبات شفافة على جبينه. أتته المرأة بقدح ماء بارد. قربته إلى شفتيه الذابلتين. وضع قرصاً تحت لسانه. وأغمض جفنيه المتعبين.
أخذ يضع علبة الأقراص الصغيرة تحتي. حين يشعر بألم في صدره، يمد يده إليّ، يرفعني قليلاً، يضع قرصاً تحت لسانه، يتقلب في فراشه. ثم يغفو.
لم يغادرني طوال أسبوع. كانت المرأة تعتني به. تجلب له طبق الحساء، وترفع الملعقة إلى فمه. يبتلع الحساء صامتاً واجماً. حين يفرغ نصف الطبق، يرفع رأسه ناظراً إلى سقف الحجرة. يمسح شفتيه بمنديل حائل اللون. ثم يرتمي فوقي ثانيةً.
صار الرجل لا يغادرني إلا سويعات قلائل. يجرجر قدميه إلى مقهى الصيادين يحتسي شاياً مراً. يستذكر مع صديق قديم أيام الطفولة والشباب. صديقه يردد بأسى أغنيته الأثيرة: "يا صياد السمك صد لي بنية". يطفئ عقب سيكارته.. يضرب كفاً بكف.. يطلق حسرةً عميقةً ويهتف قائلاً: "ضاع كل شيء.. جف النهر وتحول إلى ساقية صغيرة." يعود للبيت. يحكي للمرأة عما جرى له في المقهى.. أرهف السمع لكلماته الطافحة بالألم والمرارة.
أخذت المرأة تغيب عن الدار وتعود عصراً منهكةً، في ثيابها القديمة البالية رائحة قمح. يكسو منديل رأسها الحائل اللون مسحوق أبيض ناعم.
أصيل كل يوم تصنع أقراصاً سمر خشنة. يأكلها الإثنان مع صحني الحساء في الحجرة ذات السرير النحاسي.
حين أخذتني المرأة، ذات يوم، إلى السطح، فوجئتُ بأن الدار تكاد تكون خالية. فقد اختفت الدراجة الهوائية الحمراء ذات العجلات الثلاث التي تمنت أن يعتليها طفل ضاحك الوجه. واختفى ذلك الجهاز الموضوع على الرف الذي كان يصدح بالأغاني ذات يوم.. أغاني الفلاحين في خلال موسم الحصاد، أغاني العشاق في ليالي السهر والانتظار، أغاني الصيادين المسرورين بصيدهم الوفير.. اختفت أشياء أخرى.. لا أدري ربما هي مثلي معروضة للبيع في أحد أسواق المدينة.
أنا مجرد وسادة. وسادة بسيطة رقد فوقها رجل امتلأت شباكه فيما مضى بالأسماك الفضية. هو الآن طريح الفراش، ينهشه الجوع. يمكث في غرفة لم يعد يسمع عبر نافذتها الواسعة صيحات الصيادين، ولم يعد يشم منها عبق نسائم دجلة.
أحدق بوجوهكم يومياً، وأنتم تمرون بي، كل صباح، ذاهبين إلى مدارسكم، دكاكينكم، دوائركم؛ دوختكم الدنيا.. وجوهكم شاحبة، متعبة، ناشفة.
الشيب شرع يغزو شعوركم. الغضون تلوح على جباهكم وحول شفاهكم المزمومة باستياء. معظمكم يرتدي أَسمال رثة، نفر قليل منكم في ألبسةٍ أنيقةٍ زاهية الألوان.
مع أنكم جميعاً تمرون بي، إلا أن أحداً منكم لم يكترث بي يوماً، ولم يخطر بباله قط كم قاسيتُ، كم سهرتُ، كم بللني الماء المالح، وكم عانيتُ من الأحلام المزعجة والذكريات المريرة.
عتبي عليكم، أنكم لا ترونني، مع أنكم تحدقون بي يومياً. لعلي سأبقى هنا في هذا السوق، حتى يأتي رجل أو سيدة، فيأخذني تحت ذراعه، لأبدأ حياةً أخرى.
(3)
لم يأتِ إليّ رجل محترم أو امرأة محترمة، بل شحاذ أشعث الشعر، يرتدي دشداشةً رثةً حائلة اللون، ذات جيب صدر ممزق إلى النصف. وقف قبالتي. رفعني وشرع يتأملني بإمعان.
قال الشاب الذي يلبس النظارة الشمسية: "ضع البضاعة، أيها الخروف الأجرب."
ذهل الشحاذ. لم يقل شيئاً. انتزعني الشاب من بين يديّ الشحاذ بقوة هاتفاً بسخرية: "اتركها أيها القذر.. اجعل من نعليك وسادةً لك. هذا إذا لم تكن حافي القدمين!!".
لم يردْ الشحاذ بشيء. أعادني الشاب إلى مكاني فوق عدد من البطانيات السمكية التي نقشت عليها نمور ملونة.
فتح الشحاذ كفه اليمنى القذرة، الرطبة. كان فيها بضع أوراق مالية.
قال الشحاذ: "لم انتزعتها مني؟ خذ ثمنها. كم ثمنها؟"
رد الشاب ذو النظارة الشمسية: "مائة دينار لا غير."
ضحك الشحاذ ضحكةً بلهاء. فتح فمه المتسخ على وسعه، بانتْ أسنانه الصفر الكبيرة. قال بنبرة ألم: "خذ مائة دينار إذاً. وأعد لي الباقي."
استل الشاب ورقة مالية فئة مائة دينار. رفعني الشاب ورماني إلى صدر الشحاذ قائلاً بارتياح: "خذ البضاعة إذاً. أحلاماً سعيدة. Sweet dreams."
أخذني الشحاذ تحت ذراعه. صدمتني رائحته. كانت نتنة ومقززة.
سار بي مسافةً. توقف قرب عربة خشب يلتم حولها صبيان يمدون أيديهم ويأخذون مخاريط فيها ثلج أحمر قان.. مرت من هناك فتاة ترتدي قميصاً أخضر فاتحاً، يطوّق كتفيها شاب أنيق الملبس، يعتمر قبعة من القش.
اصطدمتْ الفتاة بي. فصرخت مذعورةً: "يا للتعاسة!! شحاذون يحلمون!!"
ضحك الشاب الأنيق ضحكةً صافيةً، أنزل ذراعه من حول كتفيها. قادها من يدها متحاشيين الشحاذين، الباعة الصغار، أصحاب عربات الخشب. أخذني الرجل النتن إلى رصيف ترامت عليه الظلال. كان المكان بارداً بعض الشيء. طرحني أرضاً قريباً من جدار مطلي بالأبيض. ثم تمدد على الرصيف وأراح رأسه الأشعث فوقي. أحسستُ بالقرف. ضقتُ ذرعاً برائحته الزنخة.
مر رجل في الأربعين، في ذقنه شامة كبيرة، يحمل بيده اليمنى كتاباً سميكاً. حدق بالرجل المستلقي على الرصيف الذي سرعان ما أغفى في ذلك الظل البارد، وانكشفت ساقاه القذرتان، النحيلتان، الناتئتا العظام، وسرواله الداخلي الأبيض. هز رأسه عدة مرات وهو يتحدث بصوت أقرب إلى الهمس: "نامي جياع الشعب نامي.."
بعد قليل أقبل رجل يرتدي قميصاً أبيض، متسخاً وربطة عنق زرقاء متسخة أيضاً. نظر إلى الرجل النائم شزراً، قلب شفتيه بامتعاض.
أشار على سائق سيارة كبيرة، غريبة الشكل، بالتوقف. أوقف السائق سيارته الصفراء قرب الرصيف.. انحنى الرجل ذو القميص الأبيض، شد الشحاذ من شعره، انتزعني كمن ينتزع جذراً، أعاد الرأس إلى الأرض.
كان الرجل ما يزال يغط في النوم. مشى خطوات قلائل ورماني في الجزء الخلفي من السيارة الصفراء. وفي لحظات شرعت السيارة تتحرك. حاولتُ النظر إلى الشحاذ لكنني كنتُ في جوف السيارة ولم أرَ شيئاً. بعدها، يا ويلي، يا لحظي العاثر، شعرتُ أن شيئاً ما ينزل عليّ ويكبسني بقوة، وبلا رحمة. وفي الحال، شعرتُ أن ستاراً أسود ينسدل عليّ إلى الأبد