أنا رجل عاطفي، أهوى ثلاثاً: الموسيقى، الآيس كريم، والنساء..
ولأنني أعشق الموسيقى فأنا أُسمع مرضاي ألحاناً عذبةً، بينما هم ينتظرون دورهم في الصالة الواسعة.
الواقع، أن أغلب مرضاي من الجنس الناعم؛ فتيات بين السادسة عشرة والخامسة والعشرين، وسيدات في سني زواجهن الأولى..
أنا، بطبيعة الحال، لا أخذل أية شابة أو سيدة، تكن لي عاطفةً حقيقية، أو إعجاباً مخلصاً. فأنا أعتقد اعتقاداً راسخاً أن من الحقارة ألا نبادل القوارير مشاعرهن الصادقة، ولو من باب الأدب واللياقة.. على أنني لا أكتفي بذلك البتة، بل ألجأ إلى ملاطفتهن كما أكتب لهن كلماتٍ رقيقةً على أوراق الوصفات الطبية.. لكنني، مع ذلك، لا أطيق أصوات الجميلات الراعشة المبللة بالدمع.. فأنا، ببساطة، بعد أن أسمعهن سونيتاتي العذبة وبعد أن أكتب لهن القصائد الجميلة على الورق الصقيل، سرعان ما أخطف نفسي من عالمهن، من غير أن أترك في أفئدتهن جروحاً بليغةً، ومن غير أن أخلف في نفوسهن ذكرياتٍ مريرةً وموجعة.. مع أن ذكرى أقداح الآيس كريم التي أتناولها معهن أسفل العيادة تظل أثيرةً إليهن، ويبقين يتذكرون طعم الشوكولاته، حتى بعد الزواج أو الرحيل.. كما أسرّتْ إليّ ثلاث منهن، أرسلن لي خطابات من ثلاث مدن عريقة: روما، دمشق، البصرة.
ولأنني رجل عاطفي، كما أسلفتُ، فقد وقعتُ، لا إرادياً، في شباك العديد منهن. لا عجب، فالحب اصطاد في شباكه أقسى الجبابرة وأغلظ الطغاة؛ غير أنني لستُ من هذا الصنف ولا ذاك. أنا، ببساطة، رجل في الخمسين، أشيب الشعر، قصير ونحيل، يحب الموسيقى ويود أن يعيش بقية عمره بسلام. هذا لا يعني أني أريد أن أعيش عيشةً عقيمةً فاترة، وأن تهز لي شريكة حياتي رأسها موافقةً، في كل مرة، وأن تبتسم لي ابتسامةً بلهاء، تنم عن حسن الطوية أو الرضا.. لا، على العكس، أريد امرأةً مشاكسةً، عنيدة نوعاً، صعبة المراس نوعاً، أريد امرأةً من زبد، أنثى تتماوج تحت قميص نوم شفاف، ذات جسد أشبه ببحر غاضب، عنيف، مضطرب، متلاطم، يكسّر كل الصواري ويغرقها بين أمواجه الصاخبة. خلاصة القول: أنثى لا تبقى ساكنةً ساهمةً بليدةً؛ بل أنثى تعزف معي لحناً مصاحباً.
الواقع، حصلت لي في خلال ربع القرن الذي زاولتُ فيه العمل، مواقف مثيرة وحكايات غريبة لا تقل غرابةً عن حكايات ألف ليلة وليلة أو قصص مورافيا أو غونتر غراس أو يوسف إدريس. فقد اتهمتني العديد منهن بالقسوة والعنف والغلظة؛ ونعتتني شابة نزقة ذات غمازتين في الخدين بأني رجل وحشي أعبث بأعصابهن وأحطم أفئدتهن. كما وصفتني أخرى، تدرس الفلسفة، تتأبط دوماً "مقدمة ابن خلدون"، كوني شيخاً متصابياً لا يخجل من نفسه.. وذهبت إلى القول بأنني وعدتُ عشرات الفتيات بالزواج دون أن أفي بوعدي مرة واحدة، لا بل أن شابة جميلة قررت الطلاق من زوجها بعد أن ظنتْ أن قدح الآيس كريم المطعم بالفستق الذي اشتريته لها أسفل العيادة ما هو إلا مصارحة بالحب أو وعداً بالزواج الأكيد.
بطبيعة الحال، أنا بريء كل البراءة، من كل الأقاويل والشائعات التي لاكتها الألسن بحقي؛ مع أنني لا أنفي كوني قد أُعجبتُ بالعديد منهن وفتحتُ فمي الواسع كي يضعن فيه ملعقةً أو ملعقتين من الآيس كريم.. كنتُ، دوماً، أنهي قدحي قبلهن.. فأنا رجل يحب الآيس كريم حباً عظيماً.. ويتمنى، دوماً، أن يلعق مخروط الآيس كريم في فراشه الوحيد.. ما أجمل أن تكون مع زوجتك في فراش وثير دافئ، تلعق البرودة المنعشة، وتستمع لموسيقى عذبة منبعثة من غرامفون قريب.
وكما ذكرت آنفاً، وقعتْ لي أحداث مثيرة. من ذلك أن فتيات كثيرات في ميعة الصبا، أو سيدات مكتملات الأنوثة، نسين عندي حاجياتهن الخاصة: محفظات جلدية أنيقة، مناديل صغيرة موّردة، أمشاط ملونة، مشابك شعر جميلة.. بطبيعة الحال، كانت تلك المشابك المرصعة باللؤلؤ والمحار والكريستال والكهرمان والشذر وما إلى ذلك تسقط في خلال حركات رؤوسهن.. على أنهن كن يرجعن ثانيةً بعد مرور أيام أو أسابيع أو حتى شهور عديدة ليسألن عنها.. والحق كان بعض تلك المشابك قطع نفيسة، أو كنوز ثمينة.. كنت، طبعاً، أسلّم المشبك الضائع إلى صاحبته. تأخذه الفتاة أو السيدة ببسمة خفيفة وهزة رأس لطيفة مصحوبتين بكلمة اعتذار أو شكر.
ذات مرة، في خلال النصف الأول من الثمانينيات، على الأرجح، جاءتني شابة سمراء نحيلة غاية النحول وقالت لي أنها أضاعتْ مشبك الشعر في عيادتي. أعلنت هي: أن مشبك الشعر الضائع جاءني كهدية من شقيقي الرسام العراقي المقيم في روما.. إنه تحفة فنية، ولابد أنك تعرف أذواق الفنانين ورهافة أحاسيسهم. أريتها مشابك الشعر التي حفظتها في درج من أدراج خزانتي الزجاجية. لا أذكر الآن، كما كان عددها يومئذ، خمسة أو ستة، في الأرجح.. نفتْ هي بانزعاج أن يكون مشبكها الفريد واحداً من تلك المشابك العادية، المبتذلة، وأصرتْ على القول أنها أسقطتْ المشبك على الكرسي في خلال المعالجة. الواقع، كانت تلك الفتاة وقحة غير أنني لم أكنْ أذكر أنني عالجتها يوماً.. وهذا ما يحصل لي، غالباً، فهنالك مرضى ما أن يغادرون عيادتي حتى أنساهم.. وهذا ما سبب لي الحرج في بعض الأحيان.. على أي حال، في ذلك الوقت، لا أدري ما هو السبب، خطر ببالي أن أغيظ تلك الفتاة السمراء. فقلتُ لها في بادئ الأمر: "عزيزتي، الذنب ذنبك، أنا لم أطلب منك أن تحلي شعرك.. كل ما نطلبه منكن هو أن تفتحن أفواهكن وتتحلين بالسكينة لأن العلاج سيكون بلا ألم.. فما ذنبي، إذاً، إن أضعتِ مشبك شعرك، أعني التحفة الفنية النادرة التي أُرسلت إليك من روما." زعقتْ بوجهي، الحق الحق أقول لكم أني استغربت تلك الوقاحة من فتاة لم تزل في ميعة الصبا.. قالت: "هل تسخر مني دكتور؟ أتظنني مغفلةً كي أخرج من هنا دون أن أحصل على مشبك الشعر؟"
ولأنني لا أحب أن أزعج مريضاتي فقد أنهيتُ النقاش، وهذه عادتي أصلاً، بعبارة واحدة: "اسمعي، خلاصة القول، اشترِ أجمل وأغلى مشبك شعر وسأدفع لك ثمنه.. وحمداً لله فأنتِ أضعتِ شيئاً يمكن تعويضه، فما بالك تفعلين إذا ما فقدتِ شيئاً قد لا يعوّض أبداً؟"
نظرتْ إليّ الفتاة نظرةً شاردة. خفضت رأسها فانسدل شعرها كالشلال وغطى نصف وجهها. استدارتْ على عقبيها وانصرفت. لم ترجعْ إليّ ثانيةً. انتظرتُ أسبوعاً وشهراً وسنة. إلا أنها لم تعدْ أبداً. لعلها أدانتْ نفسها على تلك الوقاحة والفظاظة، أو ربما اكتشفت أن لعبتها الذكية لم تجدْ معي نفعاً. ذلك أن بعض الناس يحسبون أن المشاكسة دليل ساطع على قوة الشخصية. وإن تلك الفتاة السمراء افتعلتْ تلك القصة البائسة كي تبقى ذكراها راسخةً في بالي.. وربما يتحول حديثنا القاسي بعد حل مسألة مشبك الشعر حلاً سلمياً إلى حديث رقيق وناعم.. ومن ثم.. في اعتقادي أن الفتاة ربما تكون قد جربتْ هذه اللعبة الذكية مع طبيب آخر.. أو ربما مع صاحب مخزن إكسسوارات أو تاجر ألبسة جاهزة.. أو لعلها كفتْ عن ممارسة اللعبة إلى الأبد واختارتْ بدلاً عنها لعبةً أخرى: أكثر ذكاءً وأكثر مكراً.
وأود أن أذكر في هذا السياق، أيضاً، أن العذارى الجميلات لم يتركن في عيادتي تلك الحاجات الشخصية التي ذكرتها آنفاً وحسب؛ بل تركن أيضاً عطورهن الفرنسية، شذى فساتينهن، قمصانهن القطنية، قمصانهن الحرير المزركشة. تركن حبات الهيل التي طيّبتْ أنفاسهن.. كما تركن أولاً وقبل كل شيء، على مرايا الفم، أحلى المرايا التي رأيتها في العالم كله، وأثمن المرايا التي اقتنيتها في خلال سني حياتي، تركن على تلك المرايا الصغيرة، أو لعلها أصغر المرايا في العالم، مسحات شفاههن.. شفاههن الريانة، المكتنزة، الحزينة، الصامتة؛ شفاههن اللاتي بلون شقائق النعمان، شفاههن اللاتي تعطرت بحبات الهيل، وعطرتها بدوري باليوجينول(2).
كنتُ أحتفظ بمرايا العذارى في حقيبة خاصة، حقيبة جلدية خصصتْ أصلاً لحفظ أدوات منزلية صغيرة كالملاعق والشوكات.. كنت أضع رمزاً بالقلم الماجك على كل مرآة أستخدمها في فم كل واحدة من العذراوات.
في ساعات فراغي، في العيادة، أو في شقتي التي أعيش فيها وحيداً، والتي لا تبعد سوى مئات الأمتار عن مؤسستي.. كنتُ أصف المرايا على طاولة المطبخ في الشقة أو على زجاج مكتبي الأنيق في العيادة.. من يتطلّع إليّ من نافذةٍ عبر الشارع يحسبني ألعب الورق وحدي كما يروق للبعض أن يفعل عندما لا يكون هناك ما يستحق المشاهدة في التلفاز.
أصف المرايا قبالتي.. أصفها واحدة جوار الأخرى.. افتح الحقيبة الجلدية التي ترافقني في حلي وترحالي.. لو أن لصاً سرق تلك الحقيبة مني وأنا في طريقي إلى العيادة أو الشقة، فمن المؤكد أنه كان سيلعنني ويشتمني عشرات المرات لأنني تسببتُ في هدر وقته وضياع جهده؛ فما معنى أن تصف مرايا الفم في حقيبة جلدية أنيقة، يخطر ببال أي لص ذكي في مدينتنا أنها مليئة بالدنانير لا بل آلاف الدنانير.. في حين يكتشف هو، ويا لحظه العاثر، إنها تكاد تكون خالية إلا من تلك المرايا الصغيرة ذات المقابض الفولاذية.. وكما قلتُ، أفتح الحقيبة، وأصف المرايا أمامي.. صفارة.. تعداد صباحي آنساتي الجميلات.. لا.. لا.. لا يهم.. ليس بالضرورة حسب الطول.. أرتب المرايا على مكتبي أو على طاولة المطبخ.. المقابض قريبة مني والمرايا قبالتي.. أهمس مع نفسي.. هذه هي كنوزي.. كنوزي التي لا أعادلها بكل الكنوز التي قرأتُ عنها في الصحف والمجلات الأسبوعية المصوّرة، ولا حتى تلك الكنوز التي تصفها الروايات وقصص الجان.. إنها أثمن من كنوز الملك سليمان.. إنها كنوزي أنا، ملكي وحدي، لا يشاركني فيها أحد من بين خلائق الدنيا كلها.. أنا المالك الوحيد؛ هبات سماوية، منحها لي الباري.. وها أنذا ألهو بها، أتسلى بها، أهمس لها، أناجيها، أغني لها، أتغنى بها.. أروي لها القصص والأساطير.. أداعبها بأطراف أصابعي.. أمسح على شفاه خليلاتي العذراوات.. هذه شفة وفاء، وهذه شفة شذى وتلك شفة أصيل.. أنقل مرآة شذى وأضعها في محل مرآة هيفاء.. هذا الموقع يناسب مرآة شذى.. ليس من اللائق أن أضع مرآة شذى في الحافلة.. أضع شفة شذى جنب شفة سارة.. ثم أبدل رأيي ثانيةً وأخاطب نفسي هامساً: لا، لا.. يستحسن وضع شفة شذى في هذا الموقع.. إن شفتها الرفيعة ضاربة إلى اللون البني، لذا من الأفضل أن أضعها هنا.. بين شفة بشرى وشفة بان.. أو لعل من الأفضل أن أضعها إلى جوار شفة إيمان.. فإيمان صديقة شذى من سنوات طوال.. ربما قبل عشرة أعوام.. أو حتى قبل ذلك.. إيمان كانت ترسم بالألوان المائية طواويس ملونة.. أما شذى فكانت تشارك في المعرض السنوي بلوحاتٍ من الخط الكوفي.. كانتا في صفٍ واحد في المدرسة الثانوية، ومرت السنون، وصارت كل منهما لا ترى صاحبتها ولا تسمع أخبارها.. وكما نقول نحن، عادةً، باعدت بينهما نوائب الدهر.. التقتا ذات يوم ، بمحض الصدفة، في صالة الانتظار، فتهلل وجه كل منهما وصاحتْ على صاحبتها.. وهكذا ساهمت عيادتي في التئام الشمل.. بعدها صارتا تخرجان معاً للتبضع أو النزهة وتتصل كل منهما بالأخرى عبر سلك الهاتف.. وكما نقول نحن العرب عاد الوصال القديم. أنا أيضاً آثرتُ أن أضع مرآة إيمان لصق مرآة شذى. غالباً أرى مرآة شذى تتكئ على مرآة إيمان.. أتخيل شذى تنشج على كتف إيمان.. تستفسر منها عن محنتها.. تأخذها إيمان إلى مصطبة خشب تحت شجرة صفصاف.. تجلسان.. إيمان تمسح الدمع الحار على خد شذى بأطراف أصابعها الممتلئة. اهدأي عزيزتي، هوّني عليكِ.. الفتيات في مثل سنك يعانين ما تعانين.. لا تخافي، اضطراب بسيط في الدورة الشهرية.. كلنا، عزيزتي، معرضات للمرض واليأس والكآبة؛ أفكارنا مضطربة، دورتنا الشهرية مضطربة، أسعار بضائعنا مضطربة، كل شيء في عالمنا مضطرب.
في بعض الأحيان أصف مرايا الجميلات حسب حروفهن الأبجدية العربية وغالباً حسب الأبجدية الإنكليزية. عاشتْ الأسماء.. مرآة أصيل دوماً جوار مرآة بشرى رغم أن لوني حمرتهن مختلفان تماماً، ورغم أن إحداهما لا تعرف الأخرى.. أغلب الظن أنهما تقابلتا في المصعد الكهربائي في طريقهما إلى الطابق الرابع.. أو ربما في الحافلة التي أقلتهما إلى عيادتي.. لا فرق.. أصيل طالبة جامعية تدرس الاقتصاد، أما بشرى فمعلمة روضة أطفال.. أصيل شابة متكبرة نوعاً ما مع أنها حساسة وطيبة.. أما بشرى فهي شابة في الرابعة والعشرين، أنيقة، منفرجة الأسارير، إلا أنها قليلة الكلام.
انعقدت أواصر صداقة بين عذراواتي؛ غالباً ما كنتُ أراهن يتهامسن فيما بينهن، أسرار البنات، أهمس لنفسي.. كنتُ أراهن، دوماً، يتحلّقن حول شذى، فهي للعلم أكثرهن ذكاءً وأناقةً.. ولعلها أكثرهن أنوثةً على الإطلاق.. أما تنوراتها الحريرية المتماوجة فقد أشعلت في داخلي ناراً أبدية، قاسية.. شذى رفضتْ دعوتي لتناول قدح آيس كريم، اعتذرتْ بأدب جم، لكنني مع ذلك بقيتُ أكنّ لها الاحترام والإعجاب.
يروق لي، أحياناً، أن أصف مرايا الفم بهيئة أشعة تنطلق من مركز سطح الطاولة أو المكتب، ولما كانت مقابض المرايا فولاذية لذا تبدو الأشعة فضية. في الرياضيات الشعاع له نقطة بداية وليس له نهاية.. وهكذا هي حياتي مع النساء، كانت لها بداية وليس لها نهاية.. وهذا هو الحال دوماً مع ود النساء، مع أن راسبوتين انتهى نهاية فاجعة، دسّوا له السمّ وألقوا بجثته في النهر.
في الأيام المطيرة، عندما يكون عدد المرضى قليلاً، أغمض عينيَّ وأنتقي مرآةً من المرايا -كان عددها يصل غالباً إلى عشرين مرآة- أصابعي تصل دوماً إلى مرآة بان أو هيفاء- كان يروق لي أن أمس حمرة شفاه بان على المرآة.. كانت هي تستخدم عطراً رائعاً وتصبغ شفتيها بلون أحمر قانٍ.. هي لاتبدل لون أحمر شفاهها مع أنها شابة ذات نزوات وعصبية المزاج.. ذات مرة حاولتْ أن تنتحر، كتبتْ على الحائط بقلم الحمرة: آسفة لإزعاجكم.. لكن شقيقها الأكبر أنقذها في اللحظة الأخيرة وانتزع من يدها قنينة السم. هيفاء بائعة متجر، شابة جميلة، ممشوقة القوام، إلا أن أنفها أفطس بعض الشيء.. أما فمها فجميل وشهواني.. هيفاء كانت تصبغ شفتيها بلون ضارب إلى البنفسجي، لماع، بحيث كان فمها يغري بالتقبيل؛ مع أن الأطباء يقولون أن زرقة الشفاه دليل جلي على الإصابة بأمراض القلب.. هي لم تكنْ عليلة أبداً.. اتهمتني ذات يوم بالقسوة قائلةً.. "أنتَ جزار!!" فما كان مني إلا أن صفعتها على خدها.. وبعد ثوانٍ، ثوانٍ معدودات، لا غير، قبلتها قبلةً طويلة؛ مازلت أشك حتى الآن ما إذا صحتْ من قبلتي، أو ربما يجدر بي القول من صفعتي. بعد ذلك بدأتُ أكرهها كرهاً شديداً، ونصحتها بعد زيارتين أن تراجع زميلاً لي أقل مني قسوةً، فأخذت حقيبتها السوداء ولم تعدْ لي ثانيةً.. وأنا كذلك، هشمتُ مرآتها بمقبض رافعة الجذور.
مرآة وفاء كانت دوماً بعيدة عن أصابعي.. وفاء كانت تزورني كثيراً. شابة في الثامنة والعشرين أو الثلاثين، هزيلة هزالاً ملفتاً للنظر، فوق شفتها العليا شامة سوداء تضفي على وجهها مسحة من الرقة.. وفاء لم تكنْ طموحة، هي دوماً على شفير اليأس والكآبة.. حاولتُ، مراراً، أن أنتشلها من قنوطها.. لاطفتها، كتبتُ لها القصائد، كانت تبتسم ابتسامة طفولية، غير أن الحزن مايلبث أن يرتسم على وجهها الأبيض المنمش. عندئذ لم يكن بمقدوري سوى أن أوصلها إلى محطة الباص وأودعها.
أما ياسمين فهي الوحيدة التي لم أتكلم عنها حتى الآن. شابة عسلية العينين، قد متناسق، نهدان صغيران، شفتان شبيهتان بشفتي مارلين مونرو.. ياسمين لم تكن ترتدي حمالات الصدر، لابل كانت تنفر منها نفوراً شديداً.. كانت تأتي بالقميص الأسود، سروال (الجينز) الأزرق وحذاءي التنس. فمها واسع وجميل ومحلّى.. أراها عادةً تمرر لسانها الوردي على شفتيها الدبقتين. كان يروق لها أن تصعد درجات السلالم مهرولة دوماً، تحاذر من أن يسقط من يدها مخروط الآيس كريم.. وعندما تفرغ من تناول مخروطها، تنتزع طرف قميصها الأسود من تحت سروال (الجينز)، تمسح أطراف أصابعها بذيل القميص، ثم تعقد ذيل القميص في عقدة، كانت تسميها دوماً "عقدة غورديوس". ذات يوم أغوتني. قالت: "دكتور، مسحتُ أصابعي اللزجة بأطراف قميصي، فعل تعتقد أن اللزوجة تنتقل إلى بطني؟ أحس أن ثمة شيئاً يدغدغني.." صارحتني بشبقها بصوت خفيض. قالت لي: "سأسجل كل ماروثته من أبي لزوجي بعد شهر العسل مباشرةً.. ماذا ينفع أن تكون لديك الثروة بينما تعيش أنتَ على هامش الحياة، لاتعرف شيئاً اسمه النشوة.".
ياسمين تصل متأخرة دوماً، هي آخر المرضى، أو آخر الملائكة، ملاك جميل وشهواني.. عندما يكون الطقس معتدلاً ودرجة الحرارة أقل من الثلاثين مئوي يكون بمقدورها أن تصل العيادة من غير أن يذوب الآيس كريم في المخروط.. اتصلتْ مرةً هاتفياً من كازينو المرطبات في الأسفل وسألت ممرضتي إن كان لي مرضى.. وعندما أجابتها ممرضتي بالنفي أخبرتها بأنها آتية إلى العيادة بثلاثة مخاريط مرطبات.. الأول للطبيب، الثاني للممرضة، الثالث لها هي. كانت تلح عليَّ دوماً أن تأتيني بمخروط مرطبات كلما وجدتني بلا عمل.. كان يطيب لها أن تقول باسمةً: ذق مخروطي. إنه أشهى.. الآيس كريم يصبح لذيذاً عندما يبدأ بالذوبان.. زارتني في شقتي مرتين وسببت لي الضيق والحرج. وقفتْ ذات مرة أمام مرآة الزينة.. كانت قد لعقتْ مرطباتها، باعدتْ بين ساقيها ورفعتْ ذراعها اليمنى إلى أعلى، في يدها مخروط الآيس كريم الفارغ: قل لي، دكتور، ألا أصلح أن أكون موديل رسام أو نحات؟ إحزر أنا أقلّد من؟ أجبتها: تمثال الحرية طبعاً.. فسألتني واحداً من أسئلتها التي كررتها كثيراً: هل تعتقد أن أميركا هي بلد الحرية فعلاً؟
عندما كنتُ أجري القرعة في فصل الصيف، كانت أصابعي تصل دوماً إلى مرآة شذى، فكنتُ أفرح فرحاً عظيماً، ويخفق قلبي باضطراب، وكأنني على موعد قريب معها في "متنزه المتبني"، أو في كازينو المرطبات أسفل العمارة.
لايذهبن بكم الظن أنني كنت أحتفظ بالمرايا ردحاً طويلاً من الزمن.. لا.. فالألوان الجميلة لشفاه خليلاتي سرعان ماتبهت وتزول نهائياً.. لكنني كنتُ أحتفظ دوماً بمسحات شفاه جديدة على مرايا الفم. هناك دوماً مسحات قديمة زائلة ومسحات جديدة طازجة. ثمة عذارى يخرجن من عالمي وأخريات يستللن إليه أو يدخلن من أوسع الأبواب. غالباً تطلب مني إحداهن أن أطبع قبلةً على شفتيها، لأنها سترحل عما قريب، أو ستتزوج في غضون أسابيع قلائل.
كنتُ ألبي الطلب طبعاً.. لكنني في اليوم نفسه، ربما بعد ساعة أو حتى أقل من ذلك، أتخاصم مع إحداهن وأهشم قدح الآيس كريم.. "قبلة في الشفة وطعنة في القلب"3-.
انعقدتْ بيني وبين المرايا صلاة حميمة سرية. كنتُ أضع المرآة على راحة يدي وأحدّق بها. وفي بعض الأحيان، حين يسكنني الحنين، أضم المرآة إلى صدري، وأهمس لها لواعج قلبي، أبوح للمرآة ماتعذر عليّ أن أبوح به لصاحبتها.. كنتُ أقول دوماً لمرآة شذى: يطيب لي أن أتحدث إليكِ حديثاً خاصاً، لأن صاحبتك تتمتع بعقل راجح وأنوثة طاغية.. وأقول لمرآة بان: اسمعي، عزيزتي، أنتِ خفيفة الظل، رقيقة الروح، ناعمة شأنكِ شأن بشرة بان.. لكنك للأسف، تنفجرين غضباً، من غير سبب، وتتهشمين بسرعة.
وأخيراً جاءت سوزان.
كانت تلك أول زيارة لها. الوقت مطلع تشرين الأول (أكتوبر)، الطقس معتدل، الرياح شمالية شرقية خفيفة.. يروق لي دوماً أن ألتقي بأناس جدد وفتيات جميلات في خلال هذا الشهر من السنة؛ فمزاجي أنا شخصياً، في الأقل، يكون حينئذ رائقاً صافياً لايعكره شيء، البتة، بحيث أن خليلاتي يلححن كثيراً على المعالجة في خلال هذا الشهر الجميل.
سوزان لم تكن ترتدي فستاناً، بل قميصاً قطنياً أبيض اللون وتنورة رمادية واسعة جداً. كانت تنورتها قد انسدلت على الجانبين، حتى كادت تمس رقعة الداما لا أدري لماذا شغف معماريونا ومهندسونا حباً بنقش رقعة الداما بحيث يندر أن تجد عمارة أو قاعة من قاعات مدينتنا تخلو من هذا النقش.
قلتُ لها بأدب: "آنستي، هلا تفضلتِ ورفعتِ ذيل تنورتك، أقصد ذيل الدانتيلا؟".
ندتْ منها ضحكةٌ قصيرةٌ: "عفواً.. تنورتي ليس لها ذيل دكتور.. إنها حاشية التنورة.. تصوّر، دكتور، ذات يوم سحبتُ حاشية تنورتي، فتزحلق الكرسي وهوى الطبيب على قفاه.."
قلتُ: "أتيتِ للمعالجة فأوقعتِ الطبيب على البلاط. من منكما عالج الآخر؟"
قالت: "لا فرق.. اعتذرتُ من الطبيب اعتذاراً رقيقاً.. كان وجهه قد اكفهر.. فنصحته أن يستلقي على الكرسي الذي كنتُ قد جلستُ عليه.. لاح الشحوب على وجهه.. لم يكن هو شاباً بالطبع.. كان قد تجاوز الخامسة والأربعين، في الأغلب... أخشى أن أكون قد تسببتُ في كسر فقرة من فقراته.. بقيتُ جالسةً إلى جواره نصف ساعة.. أمسح حبات العرق واطمئنه..".
قلتُ: "حسناً.. لنرَ ماذا يمكننا أن نفعل اليوم؟".
أخذتُ مرآتي.. أصغر مرآة في العالم.. وما أن وضعتها في ذلك الفم الجميل حتى عضت سوزان إصبعيّ.
صحتُ بها: "مابالك آنستي.. ألم تعرفي ان إصبعيّ في فمك؟ أم أنك تتباهين بجودة أسنانك الاصطناعية؟ ماذا كنتِ ستفعلين لو كانت أسنانك طبيعية، ربما كنتِ ستقطعين إصبعيّ؟".
أجابت: "ربما كنتُ سأقطعهما فعلاً."
الواقع، ما أن عضتني سوزان حتى بدأتُ أحبها.
رفعتُ يدي وعاينتُ إصبعيّ.. رأيت آثار الأسنان التي نبتت في جلدي داكن السمرة، بين مفاصل الإصبعين.. تغاضيتُ عن الألم الذي بدأت أشعر به.
قلتُ لها: "سوزان أنتِ شابة مشاكسة.. وعلى أي حال، فأنا أتقبل مزحتك الصغيرة هذه، مع إنها آلمتني فعلاً." ثم صمتُ قليلاً وقلتُ لها: "اليوم، أنا غير قادر على معالجتك. حبذا لو أتيتِ في خلال الأسبوع القادم.."
أزاحت خصلة شعر سوداء انسدلتْ على حاجبها الأيمن الرفيع.. نهضتْ على قدميها وهمتْ بالانصراف.. وقبل أن تغادر الحجرة قالت: "سآتي حتماً".
زارتني ثانيةً، بعد مرور حوالي أسبوعين.. كانت قد غيّرت تسريحة شعرها، فبدتْ أصغر من عمرها الحقيقي بحوالي أربع إلى ست سنوات..
في بادئ الأمر لم أتعرف إليها.. ذلك أن تسريحة الشعر غيّرت شكل وجهها تماماً.. صار الآن أكثر استدارة، وبدتْ هي أكثر نضارةً وعنفواناً.. هذه المرة جاءت بفستان حريري قصير ذي طيات؛ كان في مشيتها شيء من التثني والغنج. ياه، أهذه هي الفتاة التي عضتْ إصبعيّ قبل مدة قصيرة؟ لم أكدْ أصدق عيني ولا عقلي..
كدتُ أسألها: "أأنتِ التي.." لكنني أحجمتُ عن الكلام، فقد حسبتُ أنها قد لاتكون تلك الفتاة الطويلة القامة التي مستْ حاشية تنورتها الدانتيلا بلاط غرفتي.. فكرت أن ذيل التنورة ماهو إلا حبل غواية ودتْ أن تسحبني به.. وطالما أنها أوقعتْ زميلاً لي على الأرض في وقتٍ سابق فإنها تروم أن توقعني في غرامها.. وتحقق لها ما أرادت، على مايبدو.
لعلها حدستْ سؤالي في نظرات عينيّ السوادوين. لفتْ ساقاً على ساق فانشمر فستانها فوق الركبتين ورأيت فخذيها الأبيضين الطريين.
وعندما وضعتُ إصبعيّ في فمها، ضغطت عليهما بقوة.. الآن، طفح الكيل، هكذا قلتُ في قرارة نفسي.. يبدو أنني بدأت أغضب.
قلتُ لها: "أنتِ امرأة قاسية فعلاً."
كانت هي آخر مريضاتي، ولعلها آخر خليلاتي.. لذا نزلنا درجات السلالم معاً. مع أنها عضتني إلا أنها في الواقع خمنتْ ماكنتُ أشعر به نحوها.. قلتُ لها كلاماً رقيقاً أقرب إلى الهمس.. قدتها، بالطبع، إلى كازينو المرطبات وهناك تناولنا كأسينا مثل عاشقين.
حكيتُ لها عن قسوة أبي.. قلتُ لها أن أبي كان يضرب أمي ضرباً مبرحاً إن هي تباطأتْ في تلبية طلباته.. وظلتْ تحمل اثر الجرح البليغ في ذقنها. أمي لم تذهب إلى المستشفى.. بل وضعت قطعة قماش متفحمة على الجرح.. هكذا كنا نداوي جروحنا في منتصف القرن..
قالتْ: "إنسَ مسألة العض.. نحن الآن تربطنا علاقة صادقة."
كانت سوزان طالبة موسيقى.. في الثانية والعشرين تقريباً.. مديدة القامة.. ترتدي دوماً تنورات أو فساتين مفرطة الاتساع؛ تفضل دوماً القمصان الفاتحة الألوان والقمصان القطنية ذات الكتابات الشاعرية مثل: "اغتنم فرصتك معي" أو "ليكن حبك سرمدياً".. كنتُ أرى بيدها، دوماً، دفتر النوتات الموسيقية كانت تزورني في يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع.. بعد انصرافها من منزل عازفة بيانو مسيحية، تعرفتْ إليها في خلال حفلة موسيقية.. قالتْ لي سوزان: تصوّر، دكتور، عازفة بيانو في الستين من العمر، تضرب بأصابعها الطويلة النحيلة على مفاتيح البيانو، وتئن أنيناً خفيضاً.. لا أدري.. هل كانت تشكو من مرض مزمن؟ أم أنها، ببساطة، ترثي عزيزاً، أو حبيباً هجرها إلى الأبد. لم أشأ أن أسألها.. هي سيدة محترمة، نقية الأسارير.. ناهيك عن كونها رفيعة الثقافة.. قيل لي إنها أرمنية الأصل.
ذات يوم، في العاشرة مساءً، ذهبنا أنا وسوزان إلى منزل عازفة البيانو. عجوز هرمة، لما تزل تحتفظ ببقايا جمال ذابل، ذات تسريحة شعر قصيرة.. استقبلتنا بحفاوة.. وأشارتْ بسباتها الرقيقة إلى صالة الاستقبال: "تفضلا.. تفضلا.. ياهلا ومية هلا.."
جلسنا على أريكة منجدة بقطيفة حمراء سادة.. وجعلنا نتطلع إلى الجدران المزينة بلوحات مائية أو لوحات قماش لفنانين عراقيين، ميزت بين لوحات القماش لوحةً لـ فائق حسن وأخرى لـ فرح عبد وثالثةً لـ حسن عبد علوان..
أشارت سوزان: "انظر إلى تلك اللوحة."
سألتها: "أيهما تقصدين؟"
قالت: "تلك.. الكبيرة.."
أنا: "آ.. تقصدين تلك اللوحة ذات الشرفات الخشبية الخضر.."
هي: "قصة حب أليفة.. عاشقان في شرفتين متقابلتين."
أتتنا الخادمة بكوبين من القهوة.. ثم انصرفتْ.. جلستْ عازفة البيانو الأرمنية على كرسي ذي مسندين. جلستْ قبالتنا وكررت ترحيبها.
قالت: "أعيش وحيدة.. ليس لي أولاد.. أحيا مع الموسيقى."
قادتنا معاً إلى غرفة واسعة، مغلفة بألوان من الخشب الساج، في آخرها بيان أسود اللون، على سفحه حامل النوتات الموسيقية.. "أقضي معظم وقتي في هذه الحجرة.. أعزف وأطالع الكتب.. غالباً يروق لي أن أنام فيها ظهراً."
صرنا نلتقي كل خميس في منزل عازفة البيانو.. نبقى هناك، حتى الحادية عشرة ليلاً.. ثم نستقل سيارة اجرة ويعود كل منا إلى منزله..
كنا، أنا وسوزان، نبقى صامتين برهةً من الوقت.. ثم آخذ ذراع سوزان الرشيقة ونبدأ بالرقص.. الغرفة واسعة ملائمة تماماً لأن تكون حلبة رقص.. كان شعر سوزان الأسود يتطاير حين تلف جسدها الرشيق.. تنورتها العريضة الرمادية اللون تنبرم على خصرها النحيل.. عازفة البيانو تتطلع إلينا بفرح غامر، وتواصل عزف لحنها الطروب؛ أنا وسوزان نطير في الفضاء، في السماء السابعة، بعيداً عن المباني الكونكريتية التي كانت تحاصر مدينتنا من كل الجهات.. غالباً، كنا أنا وسوزان، نرقص نشوانين على أنغام فالسات شتراوس.. نسترخي بعدها على أريكتين متقابلتين.
بقينا على هذه الحال شهوراً عدة.. بعدها انقطعتْ سوزان عن المجيء إلى العيادة أو إلى منزل عازفة البيانو.. لم تتصلْ بي هاتفياً.. كما لم ترسلْ خطاباً للسيدة عازفة البيانو.. لكنني ذات يوم تلقيتُ برقيةً أُرسلت إليّ من المطار.
"آسفة لإزعاجك.. سأقلع بالطائرة بعد دقائق.. اعذرني على تلك المزحة الموجعة."
الكوت / 1997
1-الهولندي الطائر: اوبرا من تأليف فاجنر، عن بحار تطارده لعنة الحب، فلا يظفر بالمرأة التي يتعلق بها فؤاده. في الأصل أسطورة ألمانية قديمة.
2-اليوجينول: محلول ذو نكهة طيبة يستخدم في حقل طب الأسنان.
3-"قبلة في الشفة وطعنة في القلب": عبارة وردت في مسرحية "قطاع الطرق" لـ شيللر.