إنه يأكل، ويشرب، وينام كالبشر العاديّين، ينهض، يرتدي ثيابه، يسأل عن الصحة والأحوال والعيال كالآخرين تماماً، يحتسي القهوة، يدخّن يضجر، يغضب، يعاتب، يحقد ويسامح كالآخرين تماماً، يتعرض لنزلات البرد، يشتاق للأصدقاء يلتقيهم، يتبادل وإيّاهم قضايا الأسعار، والدخل الشهري، مشاكل الأولاد في المدرسة وخارجها، تتشابح الوجوه بين غمامات الدخان المتصاعد وهم يدوسون بألسنتهم طيش هذا الجيل وانحرافاته، ويتناولون آفة تعاطي المخدّرات برفض ملغوم، لو أمكن القفز فوق ذواتهم الراهنة (وفشة الخلق) بهذه المخدّرات ذاتها. يتحسّر على الماضي، وسهراته المترعة بالعفوية والبساطة، وأطباق الطعام المتبادلة، ومواسم الأفراح والأحزان المتقاسمة. يفاجئه رفيق دراسة، فينعش ذاكرته بمقطع من أغنية كانا يردّدانها معاً أثناء مرور نائب المدير الغاضب باستمرار إلى أن يلتهم وجبة الفول والمكابيس وإبريق الشاي فيغدو وادعاً مرحاً، يستدرجان معاً حوادث المدرسة بخصوماتها وتحالفاتها غير الثابتة كأنهما من أقطاب الوسط السياسي، لا تغيب عن مذراة الذكرى النتائج المتفاوتة، والهروب إلى السينما في منتصف الفلم أو في ربعه الأخير ويعودان كبطلين من أبطاله أو ضحاياه. ما كان يحزُّ بنفسيهما انحياز الموجهين إلى أولاد الأغنياء والمتنفّذين والقسوة على أبناء الفقراء، وقطف ثمار هذا الانحياز في عيد المعلّم بخاصّة، والأعياد الرسمية بعامّة، هدايا، ومكافآت نقدية. تلفحه أثناء غرقه في سيل المارّة إثارة لاهبة لفتاة عابرة، يعرّيها من ثيابها بعينين نافذتين مستبقاً عدسات التصوير والمراقبة الحديثة، يعانقها بخيال متفرس، ويرتدُّ إلى رصيف الشارع مجهداً، لكنّه يصحو على صوت أجش يناديه: جلست على رفّ الخضار يا أفندي.. أين عقلك؟؟ يتظاهر بامتصاص الصدمة، لكنّه يعيد سؤال البائع على وجدانه.. أين عقلي؟؟ لم يعد يحتمل السير على قدميه في هذا الزحام الخانق بالبشر، والعربات، والأعين الثاقبة والألسن المحدّبة، وعربات الخضار التي تفترس الرصيف الضيق وتدفعك دفعاً إلى احتمالات الأخطار في الشارع والزواريب المتفرّعة عنه كأمعاء تتلوّى بعفن التخمة. يستقلُّ عربة أجرة، صرير هيكلها كفيل بتحطيم أعصاب المتبلّدين، تتقيّؤه أمام منزله.. يضع قدمه على الدرجة الأولى ويشرد.. إنّه الدرج الذي صعد وهبط وصعد، وهبط وهبط عليه كم من السنوات لا يدري.. ماذا لو تحوّل إشفاقاً عليه هذه المرّة إلى درج كهربائي سبق أن رآه في التلفزيون.. تجالد ورفع القدم الثانية وثبّتها على الدرجة الثانية وبدأت رحلة الصعود...... ستفتح زوجته أو ابنه الباب، وتذكّره أنّ المفتاح في جيبه، لن يردَّ عليها، سيقبّل ابنه الصغير قبلة أوتوماتيكيّة ثمّ يرتمي على الأريكة مقابل صورة والده المرحوم سيناجيه: يا أبي.. هل صحيح أنّ روحك خالدة؟ وإذا صحّ ذلك فهذا يعني أنك الآن بيننا وإذا صحّ ذلك فأنت أدرى بمشاكلنا... وإذا لم يصحّ ذلك فهذا يعني أن صورتك هي الشيء الوحيد المتبقّي الذي يمثّلك. يا أبي.. كنت معتدلاً في شعورك وإحساسك فلماذا لم تنصف حين تطرّفت في ليلة تكويني متواطئاً مع والدتي حتّى جئت أنا على هذه الشحنة المتوتّرة من الشعور والإحساس. يا أبي.. لو تركت لي من المال ربع ما تركت لي من البحث عن الحقيقة لكنتُ واجهتُ مصاعب الحياة بتدبير أوسع، ومرونة أطوع... تواصلت هذه المناجاة حتّى الطابق الثالث في بناية لا تتحمّل أكثر من ثلاث درجات على مقياس (ريختر) لقياس الزلازل والهزات الأرضية، وقد استوفى بانيها ثمنها سلفاً من فئة من الموظّفين تلتجئ إلى المصرف العقاري عادة فيقترض راتبها لمدة خمس عشرة سنةً يسلمه مع الفائدة الباهظة إلى صاحب العقار... قرب باب الطابق الثالث أوشك أن يقول: يا أبي.. لك الرحمة واغربْ عن ذاكرتي.. لكنّ الباب فتح فجأةً وطفرت منه فتاة في المرحلة الثانوية هبطت الدرج وأرخت خلفها لثوان غمامة عطر رقيق... تنهّد الرجل وسع رئتيه.. وشعر بدوخان سريع، لذيذ، كأنها حين جازته شوّشت جاذبيّته القلبيّة... وهزّت جملته العصبيّة بتيّار (كهر عشقي) مداهم.. عجيب.. لم يعد وهناً كما كان.. لقد امتصّت تعبه وطفت به إلى باب منزله... هذه المرّة هو الذي فتح الباب... هتف الصغير: تأخّرت يا أبي.. أضافت الأم.. قليلاً.. هذه الـ "قليلاً.. نبّهته إلى مخطّط حياته المنضبط.. القبلة كانت دافئة على خدّ ابنه.. خلاف الأيام السابقة.. ودون أن يدري ارتسمت على وجه الابن حروف الخبر الذي وقع عليه في صحيفة محليّة: ((عثر على جثة طفل خديج في حاوية القمامة)) لماذا في حاوية القمامة؟ إذا كان معوقاً فقد نجا من هذا العالم الرجيم... وإذا كان فائضاً عن الحاجة فقد قضى ثمن متعة عابرة. وإذا كان... قطعت عليه زوجته شريط تساؤلاته: أتتعشّى قبل المسلسل أم بعده.. إذاً المسلسل هو محور السهرة وملتقى عقارب الزمن.. أجاب: لا يهمّ فجوعي من النوع الذي ينتظر.. فضّل أن يشغل عينيه ورأسه بما يتحرّك أمامه على الشاشة الصغيرة... تمتم.. مدهش.. براعة بعض الممّثلين تتجاوز الحدود.. لعلّهم يمثّلون الواقع.. أو دورهم في هذا الواقع.. انفرجت شفتاه عن ابتسامة ساخرة.. وهجس.. بل لعلّهم يهربون من الواقع وأنفسهم إلى التمثيل.. همهم بتحسّر.. لماذا لم يحترف التمثيل.. ربما كانت النجاحات والحفاوات، والجوائز المالية، وتهافت المعجبين والمعجبات يخفّف عنه وطأة الحقائق.. وما أدراك فقد تزيدها حدّة.. لكنّ الشهرة في كلّ الأحوال ساحرة.. أن تسقط بين أيدي المصفّقين خير لك من السقوط تحت أقدامهم.. لكنّ التصفيق لا يلاحق المشاهير في مراحل حياتهم كلّها... ديغول العظيم منقذ فرنسا استقال ودُفن في مسقط رأسه المتواضع.. وحيداً.. مارلين مونرو التهمت يائسة ما جعلها تنام إلى الأبد.. كاتب رواية ((الشيخ والبحر)) إرنست همنجواي انتحر.. الخبر التالي: رغم مظاهرات الرفض والاحتجاج وقرارات الأمم المتّحدة إسرائيل تزرع مستعمرات جديدة في الأرض المحتلّة، والمقاومة تهدّد بالردّ المناسب.. استعاد الخبر من نهايته: هل يكفي هذا الرّد المناسب؟ وكيف يكون مناسباً إذا لم يمنع من القيام بالعمل الشائن.. ولكن.. ما الحيلة... العين بصيرة، واليد قصيرة ألا تستطيع العين أن تبصر أكثر، واليد أن تطول.. العجائز يعلّقون على عبارة (اليد طويلة) بقولهم: بلا معنى.. تذكر أنّه منذ سكن في هذه العمارة لم يشمّ رائحة التراب.. ونشرات الأخبار تقدّم هذه الرائحة مشوبةً بزنخ البلاغة الجوفاء وعطن الزيارات الرسميّة، وشواء المفاوضات المهيّج، لكنَّ مثلاً طازجاً يُخرجه من هذا التداعي: تكلّم، ودع غيرك يعمل، ولكن أنّى له أن يتقبّل مشاهد القصف المروّع، وتهشيم الأذرع والأرجل.. وجرّ الجرحى والمعتقلين على إسفلت الشوارع.. وصدم الرؤوس بالأعمدة والجدران ومجاملات المتفاوضين، وأناقات رؤساء الوفود.. لوّعه لون الدماء طفلاً وما زال يروّعه رجلاً، ولا شيء يجعله ينسى كيف انقضّ على رفيق سرق كتابه ولم يقبل حتّى اعتذاره يومئذ.. المذيع رقّق لهجته الصارمة، وتخلّى عن قصفه العبارات والمفردات حين.. دلف بنشرة الأخبار إلى عرض عالميّ للأزياء وتدفقّت طاقة منتخبة من القامات الميّادة المشيّقة والأعطاف المتثنية والأرداف الرقراقة تعرض أحدث الموديلات وأغلى الأقمشة في جوّ مخمليٍّ عابق بالموسيقى الحالمة أو الهائجة، وتنهّدات الإعجاب المطيّبة بالأنفاس العطرة، وبرق كاميرات التصوير المختصّة باللقطات المثيرة. للحظات غاب عن ذاته فنظر إلى زوجته بقامتها ذات التضاريس الجبلية، وفستانها المطبخيّ وأوشك أن يقول لها: ما رأيك لو أشركتك في معرض للأزياء التشكيليّة؟.. لكنّه خشي من ردودها اللاذعة وآثر الصمت المحتقن المرشّح لانفجار عاصف... لاحظ وهو يتابع عارضات الأزياء ميل المصممين إلى تعرية المرأة بشكل فاضح وإلى إظهار نهديها، وإلى إطلاق حريّة المقصّ حتّى في الثياب الشتوية الداكنة، من الأمام والخلف، أو من الجانبين.. وأيضاً لفت انتباهه ركبة زوجته التي بدت كجذع شجرة مقطوعة، تساءل في أعماقه: ما بالي أقسو على زوجتي في هذه الليلة؟.. ألأنَّ جسداً نسائياً أثارني... إنّها أم أولادي وراعية بيتي... وأنا أتحمّل مسؤولية الاقتران بها.. أزكى شعوره هذا مناداة ابنه الكبير: أبي أيقظني باكراً كي أراجع دروسي قبل الانطلاق إلى المدرسة ...وعده بذلك وأطلق زفرات مشتعلة: مسكين.. سيموت من الجوع والنزاهة سيكونون في أمسّ الحاجة إليه لتغطية ارتكابات حمقاء أو انتقامات متبادلة وربّما رقّعوا جروح وجدانه بعبارات التقريظ وكتب الثناء، وبعض المكافآت المادية.. وإذا تجاوز دوره أقالوه، أو دفعوه إلى الاستقالة حفظاً لماء الوجه.. هل أندم على تربيته..؟ ولات ساعة مندم.. نهض الرجلُ واندسّ قرب زوجته في السرير وعياً دون جسد، آملاً أن تساعده في استرداد هذا الجسد بحرارتها، لكنه وجدها نائمة.. إذاً.. لم يبق إلا النوم.. إذا أمكنه ذلك.. لا يا رجل إنّك معقّد أكثر من اللازم هكذا راح يؤنّب نفسه وهو مستلق على السرير وكفّاه تحت رأسه.. تعطي لنفسك أهميّة بالغة ولست في بال أحد... استأنف تأنيبه... نم هذه الليلة وفي صبيحة الغد تدير معركتك على التاريخ والأرض والبيولوجيا وعلم الأجناس، وأهل المدينة ودوائر العمل. عيب يا رجل.. نمْ رغماً عنك ربما تتعثّر بأحلام هانئة، ووجوه متفائلة. نام الرجل كما أمر نفسه وفي الصباح استيقظ على اكتشاف بالغ الخطورة وهو أنّ إرادته باشرت عملها في سلوكه منذ عشيّة اليوم المنصرم، وما دام الأمر على هذا المنوال لم لا يسلمها حياته ربّما تهوّن عليه الصعوبات، وتمنحه قوة الحَسْم في الوقت المناسب... شرب فنجان القهوة بأسرع من المعتاد ودلق جسده في الطريق المؤدية إلى عمله الوظيفيّ في مديرية البيئة.. في مسافة الطريق راودته إشاعة عزل المدير العام. كيف يُعزل وظهره حارٌّ، لكنّ ظهر المدير الجديد على الأرجح أشدُّ حرارة... ولكن.. العزل والنتيجة.. شيء محيّر... كلّ المدراء والموظفين الكبار يُعزَلون!! وتفوح من عزلهم.. الروائح الكريهة.. الجشع.. يا بني... الجشع.. وله أسماء وألوان متعددة. وأساليب ووسائل متعدّدة... والمشكلة.. أنّهم في كثير من الأحيان يعزلون ولا يحاسبون، ولا يسألون: من أين لكم هذا؟ لكأنّ المطلوب الوقوف بثرواتهم غير المشروعة عند هذا الحدّ.. ليترك المجال لآخرين بعدهم في سلوك النفق ذاته.. يا فتّاح.. يا رزّاق!! لا مساؤك مساء ولا صباحك صباح.. حياتك سلسلة متّصلة من الهموم والمنغّصات... إذا كان الهدف من ذلك كلّه الثروة... فاسع في ركابها.. وافعل ما يفعله الآخرون.. وأنزل هذه الدنيا عن ظهرك... هذا هو الصوت التي هتف في أعماقه وهو يقطع الأمتار القليلة الفاصلة عن باب الدائرة يمرُّ على مكتب الدوام فيوقّع.. وحين سيخرج، سيوقّع.. والله يعلم ما يجري بين التوقيعين هناك كثيرون يوقّعون عن سواهم فيقبضون ثمن هذا التوقيع... مكتبه في الطابق الثاني، تقاسمه غرفته موظفة في العقد الرابع من عمرها، ليست بجميلة ولا بقبيحة وهذا ما يبلبله.. فيعزف عن إطرائها إذا ما أنجزت عملاً استثنائياً.. رجته طويلاً أن يسمح لها بغلي القهوة والشاي.. ودائماً يرفض.. فتعيد الكرّة.. ويرفض.. وهي تأمل أن تتمكَّن من إقناعه ولو قبل انتهاء خدمتها بساعة واحدة.. كان يزيّن رفضه بهذه العبارة: في هذه الدائرة تسعة عشر مقهى وغرفة عمل واحدة.. يا أبا.... وتنسى اسم ابنه الأكبر فيردّها على الفور: عادل.. يا أبا عادل.. فنجان قهوة يروّق الدم، ويجلي عن البال الهمّ.. وأنت راض عن عملي فلماذا تدفعني إلى فرض نفسي على غرفة أخرى لهذا السبب؟. الإنسان ضعيف يا زميلتي... وما القوّة التي يتظاهر بها إلاّ طلاء خارجي يداريه حتى لا يفتضح الداخل.. تسكت في حوارها معه، وتستمرُّ في حوارها الذاتيِّ... يرن الهاتف.. المتحدّث على الطرف الآخر هو المدير ذاته: تريدني الآن.. هل هناك ما يستدعي العجلة... أمرٌ.. سيفرحني.. طيّب. قالت زميلته: أراك مستغرباً يا أبا عادل من هذا الهاتف... لقد شغلت بالي... أستحلفك ما الأمر. -تصورّي أنّ المدير يطلبني بأمر هام سيعود عليّ بالفائدة. -المدير ذاته!.. ويعود عليك بالنفع إنّه على كلّ شيء قدير... نهض أبو عادل على مراحل، وأغلق باب الغرفة على تمهّل... صعد الدرج إلى الطابق الثالث كمن يدوس على بيض، أينما توجّه فالأدراج تنتظره، ولكن سرعان ما يهبط إلى حيث كان... ماذا يريد منّي هذا الرجل أنا لا أرتاح لكلّ المدراء والمسؤولين الكبار فمراكزهم تجعلهم غير طبيعيّين... وهم منافقون بألف وجه وقناع... وتحت أظفارهم أوكار شياطين... يا رجل.. يا إنسان... يا قرد... كلّ الناس فاسدون.. وأنت الصالح الوحيد!! صرخ به ظلّه.. دائماً تصدر أحكاماً مسبقة.. دائماً تسيء الظن بالآخرين.. دائماً... لو كنت مديراً.. كيف ستكون شخصيّتك وسلوكك يا أبا عادل.. ما تزال الدنيا بخير.. وكثير من أهلها خيّرون.. امضِ إليه على بركات الله.. قرع الباب برفق.. فجاءه صوتٌ رقيق من الداخل تفضّل أبا عادل..(يا لطيف.. أهذا صوت أم موسيقى ترى ماذا يدور في أعماقه حتّى أسلس هذا الصوت العذب.. إنّه منهم...نعم.. دائماً هم بارعون في دسّ السّم بالعسل). - السلام عليكم: - أهلاً أبا عادل العزيز.. تفضل إلى جانبي - إلى جانبه.. !! - كيف الصحة والأحوال والعيال - لا بأس.. ما يزالون على قيد الحياة - هل هناك ما يزعجك في هذه الدائرة؟ - أنا أطرح السؤال بالمقلوب يا سيدي، هل أزعجُ أحداً في هذه الدائرة؟. - الشكاوى لا ترد في هذه الأيام إلاّ على المخلص الشريف، (رهيب هذا الرجل.. ومذهل). - ما الأمر الذي استدعيتني من أجله؟ - طوّل بالك يا رجل.. الله خلق الكون في سبعة أيّام.. - فلنشرب شيئاً يرطّب حلقنا في هذا الحرّ الشديد (يرطّب حلقه!! والمكيّف شغّال حتى في غيابه..) يرنّ الجرس.. فيطلب شراباً بارداً ثمّ يتوجّه إلى أبي عادل مناجياً: أنت رجل موثوق في هذه الدائرة ولست غريباً عما تتعرّض له البيئة من ملوّثات وسيأتي يوم.. ربّما يموت البشر اختناقاً. - هذا صحيحٌ.. ولكن ما دوري أنا في هذه القضيّة. - أنت تستعجل النتائج دوماً (الخبيث يعرفني أكثر مما أعرف نفسي) لقد كلّفتنا الجهة المسؤولة إيفاد خبير من دائرتنا ليكون عضواً في اللجنة المشكّلة للسفر إلى الخارج، ودراسة الشروط الفضلى لاستقدام أجهزة تصفية وتنقية لبعض المصانع والمصافي التي تنفث في الجو غازات مهلكة بالصّحة العامّة. (أخيراً أدركوا خطر هذه الغازات على صحة الناس بعد أن مات من مات... ومرض من مرض). - وما حجمي في هذه اللجنة؟ - ستكون واحداً من ثلاثة أعضاء.. والتوصية تُقَرّ بأغلبية صوتين. - هذا يعني.. إذا اعترضتُ.. ووافق الآخران، يضحي اعتراضي ملغى. - وتضع توقيعك على قرار التوصيّة (التوقيع مرّة أخرى....!؟). - ولا تنسَ أنّ هناك تعويض سفر وإقامة مناسبين.. وقد تكون سابقة لضمّك إلى وفود قادمة إذا أحسنت التعاون والتفهّم.. (أعرف هذا الرجل ماكراً.. لكنّ مكره الآن تجاوز المعقول) - وإذا رفضت عضوية اللجنة. - كبّر عقلك يا رجل.. رفض ورفض... وتبقى في مكانك تراوح وتنقُّ... أنا أريد مصلحتك.. ومن يعلم؟؟ إذا أثبت جدارتك قد تجلس على الكرسي التي أجلس عليها الآن (أجلس على الخازوق.. كبيرة على رأسك لن تمر هذه المكيدة مهما كان الثمن). - أجدك صامتاً وذاهلاً.. ما رأيك (حتى في صمتي يقرأني.. ما هذا الرجل الخطير).. - بلى.. إي.. نعم.. أريد وقتاً للتفكير.. وقتاً كافياً. - لا تضيع الفرصة يا أبا عادل.. أنت رب عائلة.. وأولادك لن يرحموك.. وزوجتك ليست من حجر.. والأخطر من هذا كله.. أن هذه الفرصة النادرة قد لا تتكرّر.. وربما جاء بعدي مدير يجعلك تلعن الساعة التي ولدت فيها. (أين كان هذا الرجل قبل الآن.. لعلّ أحدنا كان متوارياً عن الآخر.. بل لعلّ أحدنا حمار والثاني إنسان..) خرج الرجل من مكتب مديره كسفينة تعادلت حولها التيارات البحرية المتصارعة فراحت تدور حول ذاتها.. أيخبر زوجته بالأمر... ومتى كان لها رأي في شؤون حياته الأساسية؟.. والنساء دائماً يوافقن على المشاريع والمهمات التي تعود بالربح المادي الوافر.. (ولكنها زوجة صالحة كما أسلف.. لن تبخل عليه بالمشورة السديدة..) عاد إلى غرفة عمله دون أن يقرع الباب على غير عادته.. فوجد زميلة العمل تنتظر مهمومة.. ربّما كان تأخره لدى المدير بسببها.. ربّما نقلها إلى مكان آخر، وهي ترتاح لشريكها في الغرفة على صلابته.. ربما وشاية تناولتها بتقصير أو تأخير ويترتّب عليها عقوبة حسم من راتبها المحسوم أصلاً، أو تأخير ترفيع دون التأكد من صحة الوشاية ومنطقيتّها.. - شغلت فكري أبا عادل.. ما الأمر.. - لا تقلقي زميلتي لا تقلقي.. فلديّ من القلق ما يكفي لتموين نصف سكان هذه المدينة - لماذا.. كفانا الله الشر؟ - تصوري أن المدير اقترح اسمي عضواً في لجنة ثلاثية توفد إلى بلد أجنبي للتفاوض بشأن مصاف متطورة لأبخرة وغازات تساعد في معالجة تلوث البيئة. - اقتراح رائع... كتر الله خيره. - وأنت أيضاً.. لا تزيديها علي - بل لا تزيدها على روحك.. واسمع من زميلتك المخلصة.. واقبل المهمة واتكل على الله وعلى كفاءتك... (لا.. الآن.. أغلقت علي الدائرة لأني متيقن من موقف زوجتي سلفاً كأنهم جميعاً قد اتفقوا علي.. ويلهم من الله.. ماذا فعلت... وبقفزات سريعة واسعة كان في وسط الشارع المفتوح على الواجهة البحرية بعد أن صدم على الباب معقب المعاملات البليد... فسقطت محبرته على البلاط، وانفلش الحبر الأزرق كلوحة سوريالية.. رأى فيها إسقاطاً عفوياً لدماغه في تلك اللحظة.. أخذت تزداد سرعة الرياح فتغريه بمعاكستها في مقاومة آسرة.. متعة حقاً أن تدفع صدرك إلى الأمام فلا تقع.. ومتعة حقا أن ترى الغيوم فوقك تتزاحم على موقع من صهوة الرياح.. رفع عينيه فرأى طائراً يصارع أمواج الرياح فيزداد تحليقاً.. أحس برغبة عارمة في بكاء يتلوه غناء.. والغناء في هذه الرياح وردة كامنة للعطر.. امرأة سلمت ذاتها إلى قاطع طريق وحولته إلى عاشق، هطلت الأمطار بغزارة.. وكانت تهطل في أعماقه هذه المرة.
إنه يأكل، ويشرب، وينام كالبشر العاديّين، ينهض، يرتدي ثيابه، يسأل عن الصحة والأحوال والعيال كالآخرين تماماً، يحتسي القهوة، يدخّن يضجر، يغضب، يعاتب، يحقد ويسامح كالآخرين تماماً، يتعرض لنزلات البرد، يشتاق للأصدقاء يلتقيهم، يتبادل وإيّاهم قضايا الأسعار، والدخل الشهري، مشاكل الأولاد في المدرسة وخارجها، تتشابح الوجوه بين غمامات الدخان المتصاعد وهم يدوسون بألسنتهم طيش هذا الجيل وانحرافاته، ويتناولون آفة تعاطي المخدّرات برفض ملغوم، لو أمكن القفز فوق ذواتهم الراهنة (وفشة الخلق) بهذه المخدّرات ذاتها.
يتحسّر على الماضي، وسهراته المترعة بالعفوية والبساطة، وأطباق الطعام المتبادلة، ومواسم الأفراح والأحزان المتقاسمة.
يفاجئه رفيق دراسة، فينعش ذاكرته بمقطع من أغنية كانا يردّدانها معاً أثناء مرور نائب المدير الغاضب باستمرار إلى أن يلتهم وجبة الفول والمكابيس وإبريق الشاي فيغدو وادعاً مرحاً، يستدرجان معاً حوادث المدرسة بخصوماتها وتحالفاتها غير الثابتة كأنهما من أقطاب الوسط السياسي، لا تغيب عن مذراة الذكرى النتائج المتفاوتة، والهروب إلى السينما في منتصف الفلم أو في ربعه الأخير ويعودان كبطلين من أبطاله أو ضحاياه.
ما كان يحزُّ بنفسيهما انحياز الموجهين إلى أولاد الأغنياء والمتنفّذين والقسوة على أبناء الفقراء، وقطف ثمار هذا الانحياز في عيد المعلّم بخاصّة، والأعياد الرسمية بعامّة، هدايا، ومكافآت نقدية.
تلفحه أثناء غرقه في سيل المارّة إثارة لاهبة لفتاة عابرة، يعرّيها من ثيابها بعينين نافذتين مستبقاً عدسات التصوير والمراقبة الحديثة، يعانقها بخيال متفرس، ويرتدُّ إلى رصيف الشارع مجهداً، لكنّه يصحو على صوت أجش يناديه: جلست على رفّ الخضار يا أفندي.. أين عقلك؟؟ يتظاهر بامتصاص الصدمة، لكنّه يعيد سؤال البائع على وجدانه.. أين عقلي؟؟ لم يعد يحتمل السير على قدميه في هذا الزحام الخانق بالبشر، والعربات، والأعين الثاقبة والألسن المحدّبة، وعربات الخضار التي تفترس الرصيف الضيق وتدفعك دفعاً إلى احتمالات الأخطار في الشارع والزواريب المتفرّعة عنه كأمعاء تتلوّى بعفن التخمة.
يستقلُّ عربة أجرة، صرير هيكلها كفيل بتحطيم أعصاب المتبلّدين، تتقيّؤه أمام منزله.. يضع قدمه على الدرجة الأولى ويشرد.. إنّه الدرج الذي صعد وهبط وصعد، وهبط وهبط عليه كم من السنوات لا يدري.. ماذا لو تحوّل إشفاقاً عليه هذه المرّة إلى درج كهربائي سبق أن رآه في التلفزيون.. تجالد ورفع القدم الثانية وثبّتها على الدرجة الثانية وبدأت رحلة الصعود......
ستفتح زوجته أو ابنه الباب، وتذكّره أنّ المفتاح في جيبه، لن يردَّ عليها، سيقبّل ابنه الصغير قبلة أوتوماتيكيّة ثمّ يرتمي على الأريكة مقابل صورة والده المرحوم سيناجيه:
يا أبي.. هل صحيح أنّ روحك خالدة؟ وإذا صحّ ذلك فهذا يعني أنك الآن بيننا وإذا صحّ ذلك فأنت أدرى بمشاكلنا...
وإذا لم يصحّ ذلك فهذا يعني أن صورتك هي الشيء الوحيد المتبقّي الذي يمثّلك.
يا أبي.. كنت معتدلاً في شعورك وإحساسك فلماذا لم تنصف حين تطرّفت في ليلة تكويني متواطئاً مع والدتي حتّى جئت أنا على هذه الشحنة المتوتّرة من الشعور والإحساس.
يا أبي.. لو تركت لي من المال ربع ما تركت لي من البحث عن الحقيقة لكنتُ واجهتُ مصاعب الحياة بتدبير أوسع، ومرونة أطوع... تواصلت هذه المناجاة حتّى الطابق الثالث في بناية لا تتحمّل أكثر من ثلاث درجات على مقياس (ريختر) لقياس الزلازل والهزات الأرضية، وقد استوفى بانيها ثمنها سلفاً من فئة من الموظّفين تلتجئ إلى المصرف العقاري عادة فيقترض راتبها لمدة خمس عشرة سنةً يسلمه مع الفائدة الباهظة إلى صاحب العقار... قرب باب الطابق الثالث أوشك أن يقول: يا أبي.. لك الرحمة واغربْ عن ذاكرتي..
لكنّ الباب فتح فجأةً وطفرت منه فتاة في المرحلة الثانوية هبطت الدرج وأرخت خلفها لثوان غمامة عطر رقيق... تنهّد الرجل وسع رئتيه.. وشعر بدوخان سريع، لذيذ، كأنها حين جازته شوّشت جاذبيّته القلبيّة... وهزّت جملته العصبيّة بتيّار (كهر عشقي) مداهم.. عجيب.. لم يعد وهناً كما كان.. لقد امتصّت تعبه وطفت به إلى باب منزله... هذه المرّة هو الذي فتح الباب... هتف الصغير:
تأخّرت يا أبي.. أضافت الأم.. قليلاً.. هذه الـ "قليلاً.. نبّهته إلى مخطّط حياته المنضبط.. القبلة كانت دافئة على خدّ ابنه.. خلاف الأيام السابقة.. ودون أن يدري ارتسمت على وجه الابن حروف الخبر الذي وقع عليه في صحيفة محليّة:
((عثر على جثة طفل خديج في حاوية القمامة))
لماذا في حاوية القمامة؟
إذا كان معوقاً فقد نجا من هذا العالم الرجيم... وإذا كان فائضاً عن الحاجة فقد قضى ثمن متعة عابرة.
وإذا كان... قطعت عليه زوجته شريط تساؤلاته: أتتعشّى قبل المسلسل أم بعده.. إذاً المسلسل هو محور السهرة وملتقى عقارب الزمن.. أجاب: لا يهمّ فجوعي من النوع الذي ينتظر.. فضّل أن يشغل عينيه ورأسه بما يتحرّك أمامه على الشاشة الصغيرة... تمتم.. مدهش.. براعة بعض الممّثلين تتجاوز الحدود.. لعلّهم يمثّلون الواقع.. أو دورهم في هذا الواقع.. انفرجت شفتاه عن ابتسامة ساخرة.. وهجس.. بل لعلّهم يهربون من الواقع وأنفسهم إلى التمثيل.. همهم بتحسّر..
لماذا لم يحترف التمثيل.. ربما كانت النجاحات والحفاوات، والجوائز المالية، وتهافت المعجبين والمعجبات يخفّف عنه وطأة الحقائق.. وما أدراك فقد تزيدها حدّة.. لكنّ الشهرة في كلّ الأحوال ساحرة.. أن تسقط بين أيدي المصفّقين خير لك من السقوط تحت أقدامهم.. لكنّ التصفيق لا يلاحق المشاهير في مراحل حياتهم كلّها...
ديغول العظيم منقذ فرنسا استقال ودُفن في مسقط رأسه المتواضع.. وحيداً..
مارلين مونرو التهمت يائسة ما جعلها تنام إلى الأبد.. كاتب رواية ((الشيخ والبحر)) إرنست همنجواي انتحر..
الخبر التالي: رغم مظاهرات الرفض والاحتجاج وقرارات الأمم المتّحدة إسرائيل تزرع مستعمرات جديدة في الأرض المحتلّة، والمقاومة تهدّد بالردّ المناسب.. استعاد الخبر من نهايته:
هل يكفي هذا الرّد المناسب؟ وكيف يكون مناسباً إذا لم يمنع من القيام بالعمل الشائن.. ولكن.. ما الحيلة... العين بصيرة، واليد قصيرة ألا تستطيع العين أن تبصر أكثر، واليد أن تطول.. العجائز يعلّقون على عبارة (اليد طويلة) بقولهم:
بلا معنى.. تذكر أنّه منذ سكن في هذه العمارة لم يشمّ رائحة التراب.. ونشرات الأخبار تقدّم هذه الرائحة مشوبةً بزنخ البلاغة الجوفاء وعطن الزيارات الرسميّة، وشواء المفاوضات المهيّج، لكنَّ مثلاً طازجاً يُخرجه من هذا التداعي: تكلّم، ودع غيرك يعمل، ولكن أنّى له أن يتقبّل مشاهد القصف المروّع، وتهشيم الأذرع والأرجل.. وجرّ الجرحى والمعتقلين على إسفلت الشوارع.. وصدم الرؤوس بالأعمدة والجدران ومجاملات المتفاوضين، وأناقات رؤساء الوفود.. لوّعه لون الدماء طفلاً وما زال يروّعه رجلاً، ولا شيء يجعله ينسى كيف انقضّ على رفيق سرق كتابه ولم يقبل حتّى اعتذاره يومئذ..
المذيع رقّق لهجته الصارمة، وتخلّى عن قصفه العبارات والمفردات حين.. دلف بنشرة الأخبار إلى عرض عالميّ للأزياء وتدفقّت طاقة منتخبة من القامات الميّادة المشيّقة والأعطاف المتثنية والأرداف الرقراقة تعرض أحدث الموديلات وأغلى الأقمشة في جوّ مخمليٍّ عابق بالموسيقى الحالمة أو الهائجة، وتنهّدات الإعجاب المطيّبة بالأنفاس العطرة، وبرق كاميرات التصوير المختصّة باللقطات المثيرة.
للحظات غاب عن ذاته فنظر إلى زوجته بقامتها ذات التضاريس الجبلية، وفستانها المطبخيّ وأوشك أن يقول لها:
ما رأيك لو أشركتك في معرض للأزياء التشكيليّة؟.. لكنّه خشي من ردودها اللاذعة وآثر الصمت المحتقن المرشّح لانفجار عاصف... لاحظ وهو يتابع عارضات الأزياء ميل المصممين إلى تعرية المرأة بشكل فاضح وإلى إظهار نهديها، وإلى إطلاق حريّة المقصّ حتّى في الثياب الشتوية الداكنة، من الأمام والخلف، أو من الجانبين.. وأيضاً لفت انتباهه ركبة زوجته التي بدت كجذع شجرة مقطوعة، تساءل في أعماقه: ما بالي أقسو على زوجتي في هذه الليلة؟.. ألأنَّ جسداً نسائياً أثارني... إنّها أم أولادي وراعية بيتي... وأنا أتحمّل مسؤولية الاقتران بها.. أزكى شعوره هذا مناداة ابنه الكبير: أبي أيقظني باكراً كي أراجع دروسي قبل الانطلاق إلى المدرسة ...وعده بذلك وأطلق زفرات مشتعلة:
مسكين.. سيموت من الجوع والنزاهة سيكونون في أمسّ الحاجة إليه لتغطية ارتكابات حمقاء أو انتقامات متبادلة وربّما رقّعوا جروح وجدانه بعبارات التقريظ وكتب الثناء، وبعض المكافآت المادية.. وإذا تجاوز دوره أقالوه، أو دفعوه إلى الاستقالة حفظاً لماء الوجه.. هل أندم على تربيته..؟ ولات ساعة مندم..
نهض الرجلُ واندسّ قرب زوجته في السرير وعياً دون جسد، آملاً أن تساعده في استرداد هذا الجسد بحرارتها، لكنه وجدها نائمة.. إذاً.. لم يبق إلا النوم.. إذا أمكنه ذلك..
لا يا رجل إنّك معقّد أكثر من اللازم هكذا راح يؤنّب نفسه وهو مستلق على السرير وكفّاه تحت رأسه.. تعطي لنفسك أهميّة بالغة ولست في بال أحد... استأنف تأنيبه... نم هذه الليلة وفي صبيحة الغد تدير معركتك على التاريخ والأرض والبيولوجيا وعلم الأجناس، وأهل المدينة ودوائر العمل.
عيب يا رجل.. نمْ رغماً عنك ربما تتعثّر بأحلام هانئة، ووجوه متفائلة.
نام الرجل كما أمر نفسه وفي الصباح استيقظ على اكتشاف بالغ الخطورة وهو أنّ إرادته باشرت عملها في سلوكه منذ عشيّة اليوم المنصرم، وما دام الأمر على هذا المنوال لم لا يسلمها حياته ربّما تهوّن عليه الصعوبات، وتمنحه قوة الحَسْم في الوقت المناسب... شرب فنجان القهوة بأسرع من المعتاد ودلق جسده في الطريق المؤدية إلى عمله الوظيفيّ في مديرية البيئة.. في مسافة الطريق راودته إشاعة عزل المدير العام.
كيف يُعزل وظهره حارٌّ، لكنّ ظهر المدير الجديد على الأرجح أشدُّ حرارة...
ولكن.. العزل والنتيجة.. شيء محيّر... كلّ المدراء والموظفين الكبار يُعزَلون!! وتفوح من عزلهم.. الروائح الكريهة.. الجشع.. يا بني... الجشع.. وله أسماء وألوان متعددة. وأساليب ووسائل متعدّدة... والمشكلة.. أنّهم في كثير من الأحيان يعزلون ولا يحاسبون، ولا يسألون: من أين لكم هذا؟ لكأنّ المطلوب الوقوف بثرواتهم غير المشروعة عند هذا الحدّ.. ليترك المجال لآخرين بعدهم في سلوك النفق ذاته..
يا فتّاح.. يا رزّاق!! لا مساؤك مساء ولا صباحك صباح.. حياتك سلسلة متّصلة من الهموم والمنغّصات... إذا كان الهدف من ذلك كلّه الثروة... فاسع في ركابها.. وافعل ما يفعله الآخرون.. وأنزل هذه الدنيا عن ظهرك... هذا هو الصوت التي هتف في أعماقه وهو يقطع الأمتار القليلة الفاصلة عن باب الدائرة يمرُّ على مكتب الدوام فيوقّع.. وحين سيخرج، سيوقّع.. والله يعلم ما يجري بين التوقيعين هناك كثيرون يوقّعون عن سواهم فيقبضون ثمن هذا التوقيع... مكتبه في الطابق الثاني، تقاسمه غرفته موظفة في العقد الرابع من عمرها، ليست بجميلة ولا بقبيحة وهذا ما يبلبله.. فيعزف عن إطرائها إذا ما أنجزت عملاً استثنائياً.. رجته طويلاً أن يسمح لها بغلي القهوة والشاي.. ودائماً يرفض.. فتعيد الكرّة.. ويرفض.. وهي تأمل أن تتمكَّن من إقناعه ولو قبل انتهاء خدمتها بساعة واحدة.. كان يزيّن رفضه بهذه العبارة: في هذه الدائرة تسعة عشر مقهى وغرفة عمل واحدة.. يا أبا.... وتنسى اسم ابنه الأكبر فيردّها على الفور: عادل.. يا أبا عادل.. فنجان قهوة يروّق الدم، ويجلي عن البال الهمّ.. وأنت راض عن عملي فلماذا تدفعني إلى فرض نفسي على غرفة أخرى لهذا السبب؟.
الإنسان ضعيف يا زميلتي... وما القوّة التي يتظاهر بها إلاّ طلاء خارجي يداريه حتى لا يفتضح الداخل.. تسكت في حوارها معه، وتستمرُّ في حوارها الذاتيِّ... يرن الهاتف.. المتحدّث على الطرف الآخر هو المدير ذاته: تريدني الآن.. هل هناك ما يستدعي العجلة... أمرٌ.. سيفرحني.. طيّب.
قالت زميلته: أراك مستغرباً يا أبا عادل من هذا الهاتف... لقد شغلت بالي... أستحلفك ما الأمر.
-تصورّي أنّ المدير يطلبني بأمر هام سيعود عليّ بالفائدة.
-المدير ذاته!.. ويعود عليك بالنفع إنّه على كلّ شيء قدير... نهض أبو عادل على مراحل، وأغلق باب الغرفة على تمهّل... صعد الدرج إلى الطابق الثالث كمن يدوس على بيض، أينما توجّه فالأدراج تنتظره، ولكن سرعان ما يهبط إلى حيث كان... ماذا يريد منّي هذا الرجل أنا لا أرتاح لكلّ المدراء والمسؤولين الكبار فمراكزهم تجعلهم غير طبيعيّين... وهم منافقون بألف وجه وقناع... وتحت أظفارهم أوكار شياطين...
يا رجل.. يا إنسان... يا قرد... كلّ الناس فاسدون.. وأنت الصالح الوحيد!! صرخ به ظلّه.. دائماً تصدر أحكاماً مسبقة.. دائماً تسيء الظن بالآخرين.. دائماً... لو كنت مديراً.. كيف ستكون شخصيّتك وسلوكك يا أبا عادل.. ما تزال الدنيا بخير.. وكثير من أهلها خيّرون.. امضِ إليه على بركات الله..
قرع الباب برفق.. فجاءه صوتٌ رقيق من الداخل تفضّل أبا عادل..(يا لطيف.. أهذا صوت أم موسيقى ترى ماذا يدور في أعماقه حتّى أسلس هذا الصوت العذب.. إنّه منهم...نعم.. دائماً هم بارعون في دسّ السّم بالعسل).
- السلام عليكم:
- أهلاً أبا عادل العزيز.. تفضل إلى جانبي
- إلى جانبه.. !!
- كيف الصحة والأحوال والعيال
- لا بأس.. ما يزالون على قيد الحياة
- هل هناك ما يزعجك في هذه الدائرة؟
- أنا أطرح السؤال بالمقلوب يا سيدي، هل أزعجُ أحداً في هذه الدائرة؟.
- الشكاوى لا ترد في هذه الأيام إلاّ على المخلص الشريف، (رهيب هذا الرجل.. ومذهل).
- ما الأمر الذي استدعيتني من أجله؟
- طوّل بالك يا رجل.. الله خلق الكون في سبعة أيّام..
- فلنشرب شيئاً يرطّب حلقنا في هذا الحرّ الشديد (يرطّب حلقه!! والمكيّف شغّال حتى في غيابه..)
يرنّ الجرس.. فيطلب شراباً بارداً ثمّ يتوجّه إلى أبي عادل مناجياً: أنت رجل موثوق في هذه الدائرة ولست غريباً عما تتعرّض له البيئة من ملوّثات وسيأتي يوم.. ربّما يموت البشر اختناقاً.
- هذا صحيحٌ.. ولكن ما دوري أنا في هذه القضيّة.
- أنت تستعجل النتائج دوماً (الخبيث يعرفني أكثر مما أعرف نفسي) لقد كلّفتنا الجهة المسؤولة إيفاد خبير من دائرتنا ليكون عضواً في اللجنة المشكّلة للسفر إلى الخارج، ودراسة الشروط الفضلى لاستقدام أجهزة تصفية وتنقية لبعض المصانع والمصافي التي تنفث في الجو غازات مهلكة بالصّحة العامّة.
(أخيراً أدركوا خطر هذه الغازات على صحة الناس بعد أن مات من مات... ومرض من مرض).
- وما حجمي في هذه اللجنة؟
- ستكون واحداً من ثلاثة أعضاء.. والتوصية تُقَرّ بأغلبية صوتين.
- هذا يعني.. إذا اعترضتُ.. ووافق الآخران، يضحي اعتراضي ملغى.
- وتضع توقيعك على قرار التوصيّة (التوقيع مرّة أخرى....!؟).
- ولا تنسَ أنّ هناك تعويض سفر وإقامة مناسبين.. وقد تكون سابقة لضمّك إلى وفود قادمة إذا أحسنت التعاون والتفهّم..
(أعرف هذا الرجل ماكراً.. لكنّ مكره الآن تجاوز المعقول)
- وإذا رفضت عضوية اللجنة.
- كبّر عقلك يا رجل.. رفض ورفض... وتبقى في مكانك تراوح وتنقُّ... أنا أريد مصلحتك.. ومن يعلم؟؟ إذا أثبت جدارتك قد تجلس على الكرسي التي أجلس عليها الآن (أجلس على الخازوق.. كبيرة على رأسك لن تمر هذه المكيدة مهما كان الثمن).
- أجدك صامتاً وذاهلاً.. ما رأيك (حتى في صمتي يقرأني.. ما هذا الرجل الخطير)..
- بلى.. إي.. نعم.. أريد وقتاً للتفكير.. وقتاً كافياً.
- لا تضيع الفرصة يا أبا عادل.. أنت رب عائلة.. وأولادك لن يرحموك.. وزوجتك ليست من حجر.. والأخطر من هذا كله.. أن هذه الفرصة النادرة قد لا تتكرّر.. وربما جاء بعدي مدير يجعلك تلعن الساعة التي ولدت فيها.
(أين كان هذا الرجل قبل الآن.. لعلّ أحدنا كان متوارياً عن الآخر.. بل لعلّ أحدنا حمار والثاني إنسان..)
خرج الرجل من مكتب مديره كسفينة تعادلت حولها التيارات البحرية المتصارعة فراحت تدور حول ذاتها.. أيخبر زوجته بالأمر... ومتى كان لها رأي في شؤون حياته الأساسية؟.. والنساء دائماً يوافقن على المشاريع والمهمات التي تعود بالربح المادي الوافر.. (ولكنها زوجة صالحة كما أسلف.. لن تبخل عليه بالمشورة السديدة..)
عاد إلى غرفة عمله دون أن يقرع الباب على غير عادته.. فوجد زميلة العمل تنتظر مهمومة.. ربّما كان تأخره لدى المدير بسببها.. ربّما نقلها إلى مكان آخر، وهي ترتاح لشريكها في الغرفة على صلابته.. ربما وشاية تناولتها بتقصير أو تأخير ويترتّب عليها عقوبة حسم من راتبها المحسوم أصلاً، أو تأخير ترفيع دون التأكد من صحة الوشاية ومنطقيتّها..
- شغلت فكري أبا عادل.. ما الأمر..
- لا تقلقي زميلتي لا تقلقي.. فلديّ من القلق ما يكفي لتموين نصف سكان هذه المدينة
- لماذا.. كفانا الله الشر؟
- تصوري أن المدير اقترح اسمي عضواً في لجنة ثلاثية توفد إلى بلد أجنبي للتفاوض بشأن مصاف متطورة لأبخرة وغازات تساعد في معالجة تلوث البيئة.
- اقتراح رائع... كتر الله خيره.
- وأنت أيضاً.. لا تزيديها علي
- بل لا تزيدها على روحك.. واسمع من زميلتك المخلصة.. واقبل المهمة واتكل على الله وعلى كفاءتك... (لا.. الآن.. أغلقت علي الدائرة لأني متيقن من موقف زوجتي سلفاً كأنهم جميعاً قد اتفقوا علي.. ويلهم من الله.. ماذا فعلت... وبقفزات سريعة واسعة كان في وسط الشارع المفتوح على الواجهة البحرية بعد أن صدم على الباب معقب المعاملات البليد... فسقطت محبرته على البلاط، وانفلش الحبر الأزرق كلوحة سوريالية.. رأى فيها إسقاطاً عفوياً لدماغه في تلك اللحظة..
أخذت تزداد سرعة الرياح فتغريه بمعاكستها في مقاومة آسرة.. متعة حقاً أن تدفع صدرك إلى الأمام فلا تقع.. ومتعة حقا أن ترى الغيوم فوقك تتزاحم على موقع من صهوة الرياح.. رفع عينيه فرأى طائراً يصارع أمواج الرياح فيزداد تحليقاً.. أحس برغبة عارمة في بكاء يتلوه غناء.. والغناء في هذه الرياح وردة كامنة للعطر.. امرأة سلمت ذاتها إلى قاطع طريق وحولته إلى عاشق، هطلت الأمطار بغزارة.. وكانت تهطل في أعماقه هذه المرة.