رغم أنها عاشت في بيئة فقيرة مادياً وروحياً، كانت جدتي -طيّب الله ثراها- تتمتع بغنى روحي عزّ نظيره. كانت تصلي لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، تصوم لأن الصوم يفجر في قلبها ينابيع الحنان على المعدمين والبائسين، تتعبد الله لأن العبادة طريقها إلى التمسك بالقيم الإنسانية النبيلة. وكان الناس في قريتنا، التي هجرها والدي منذ مطالع شبابه، وفي القرى المجاورة يحجون إليها طالبين البركة والدعاء. لم يجرؤ أي متنفذ على دعوتها لأعمال السخرة، فاحترامها يصل إلى حد التبجيل. ورثت عن أمها خبرة في معالجة بعض الأمراض البسيطة، وكانت تقوم بذلك لوجه الله. تُقبل على مساعدة الجميع وكأنها مكلفة بذلك، دخلها البسيط كان مشاعاً لمن هم أفقر منها. تحفظ كثيراً من الزجل وتردده بمسرة، تختزن ذاكرتها الكثير من الحكايات الشعبية الشائقة. حينما كانت تتكلم عن العلاقة بين الرجل والمرأة يزدحم حديثها الشهي بالإشارات الجنسية الصارخة دون أن ترى في ذلك تناقضاً مع مسلكها الصارم. وكنتُ إذا ناقشتها في أمر ما وفضحتني روح الشك المبكرة، لا تعنفني بل تسمع رأيي باهتمام شديد، ثم تدعو لي بالهداية بقلب مفعم بالتسامح والمحبة. وكانت آخر زيارة لي -قبل وفاتها- وأنا في الرابعة عشرة من عمري ذكرى يصعب عليّ نسيانها. كنا ننام على سطح البيت، نسهر، نتحدث، نتمتع بنسائم ليالي الصيف المنعشة. تشاركنا السطح مجموعة من العجائز، حكاية إثر حكاية ويطيب السهر. أستلقي على الفراش بجانب جدتي، أعد النجوم وأُصغي إلى نباح الكلاب وصرير الجنادب الرتيب ثم أغرق في النوم وأحلم بحكايات العجائز الغريبة. وعند بزوغ الفجر أسمع صوت جدتي وهي تصلي وصياح الديكة يؤذن بمقدم نهار جديد. لقد حان وقت الذهاب إلى الكرم، أنهض مسرعاً تصافح عيناي منظر القرية النائمة على سفح الجبل، أحتضن يد جدتي وننطلق عبر أزقة القرية، صمت محبب ونور الصباح يزحف بطيئاً كسير جدتي تماماً. نعلو الجبل، تستقبلنا نسائم الفجر الندية عبقة برائحة الأرض. الطيور الصغيرة تغرد من حولنا ومن بعيد نلمح أشخاصاً يسيرون نحو الكروم. أقفز من مكان إلى مكان ومن صخرة إلى أخرى وأحس بأن العالم ملعب فسيح. شعور عميق بالرضا أقرأه في قسمات وجه جدتي الطيب. نسير بين الكروم، نسمع صوت صبية تغني عن الحب فتبتسم جدتي وتقول: إنها عاشقة، وحين أسألها تعشق من؟ تجيبني بصوت هادئ: تعشق الحياة، لقد نضجت. أعقب بخبث طفولي: وحان وقت قطافها، تضحك من قلبها وتقول: مهلاً يا أحمد ما زلت صغيراً، فأضيف مازحاً: الصغار أيضاً يعشقون. نصل الكرم، نتسلق سياجه القصير ثم ندخل. شجيرات التين محملة بالثمار والدوالي بالعناقيد الشهية. أنتقل من شجرة إلى شجرة ومن دالية إلى أخرى كعصفور طليق حديث الطيران. جدتي تملأ سلتها الصغيرة ببطء منتج. أسمعها تدمدم أغنية عن الشباب وأفراحه، فأقترب متسائلاً بصوت جريء فيه كثير من الدلال والحب: هل أنتِ عاشقة؟ تتهلل أساريرها بفرح حقيقي وترد: -أنا عشقت وانتهيت، أحببت جدك حباً ملك عليّ قلبي -لكنه مات منذ زمن بعيد -حبه ما زال حياً. -ألا ترغبين في أن تعودي صبية وتعشقي من جديد؟ -لا أفكر في المستحيل -إذاً لماذا تعيشين؟ -لأني أحب الحياة، أحبها تتدفق في شجيرات التين، أعشقها تتدفق في شرايينك قوية جارفة، أقدسها كامنة في الأرض التي تعطي بلا انقطاع. الشمس الخجلى لم تعد خجلى والحياة تدب من حولنا، الكون يستيقظ، تتضح الرؤية ويغمر النور كل شيء. تمتلئ السلة بالتين والعنب، تضعها جدتي على رأسها، نغادر الكرم، نسير في دروب ضيقة، نعلو الجبل، نطل على القرية، ننحدر، الطيور تملأ السماء والشمس تتوسد الشرق ضاحكة مفعمة بالنور والحرارة، ندخل القرية، نحس بنبض الحياة في الناس، في البيوت، في الأزقة الضيقة، في وجوه الأطفال وهم في انتظار التين والعنب. تمد جدتي يدها إلى السلة لتعطي بعضهم. نصل إلى البيت، لم يبق في السلة إلا القليل، أسألها: -لماذا أعطيت البعض وأهملتِ الآخرين؟ ترد: أعطيت الذين لا يملكون. -وهل تعطيهم في كل مرة؟ -طبعاً الحياة بلا تعاون جحيم لا يطاق. أرى كلباً في انتظار جدتي. وماذا يريد هذا الكلب؟ -إنه ينتظر فطوره. تمد يدها إلى قطعة خبز كبيرة وترميها له، يلتقطها ويغادر. تعد طعام الفطور ثم تطلب مني أن أحمل ما تبقى في السلة لامرأة مقعدة أعرف بيتها. أحمل التين والعنب وأحمل في قلبي حباً عميقاً لجدتي.
رغم أنها عاشت في بيئة فقيرة مادياً وروحياً، كانت جدتي -طيّب الله ثراها- تتمتع بغنى روحي عزّ نظيره.
كانت تصلي لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، تصوم لأن الصوم يفجر في قلبها ينابيع الحنان على المعدمين والبائسين، تتعبد الله لأن العبادة طريقها إلى التمسك بالقيم الإنسانية النبيلة. وكان الناس في قريتنا، التي هجرها والدي منذ مطالع شبابه، وفي القرى المجاورة يحجون إليها طالبين البركة والدعاء. لم يجرؤ أي متنفذ على دعوتها لأعمال السخرة، فاحترامها يصل إلى حد التبجيل. ورثت عن أمها خبرة في معالجة بعض الأمراض البسيطة، وكانت تقوم بذلك لوجه الله. تُقبل على مساعدة الجميع وكأنها مكلفة بذلك، دخلها البسيط كان مشاعاً لمن هم أفقر منها. تحفظ كثيراً من الزجل وتردده بمسرة، تختزن ذاكرتها الكثير من الحكايات الشعبية الشائقة. حينما كانت تتكلم عن العلاقة بين الرجل والمرأة يزدحم حديثها الشهي بالإشارات الجنسية الصارخة دون أن ترى في ذلك تناقضاً مع مسلكها الصارم. وكنتُ إذا ناقشتها في أمر ما وفضحتني روح الشك المبكرة، لا تعنفني بل تسمع رأيي باهتمام شديد، ثم تدعو لي بالهداية بقلب مفعم بالتسامح والمحبة. وكانت آخر زيارة لي -قبل وفاتها- وأنا في الرابعة عشرة من عمري ذكرى يصعب عليّ نسيانها.
كنا ننام على سطح البيت، نسهر، نتحدث، نتمتع بنسائم ليالي الصيف المنعشة. تشاركنا السطح مجموعة من العجائز، حكاية إثر حكاية ويطيب السهر. أستلقي على الفراش بجانب جدتي، أعد النجوم وأُصغي إلى نباح الكلاب وصرير الجنادب الرتيب ثم أغرق في النوم وأحلم بحكايات العجائز الغريبة. وعند بزوغ الفجر أسمع صوت جدتي وهي تصلي وصياح الديكة يؤذن بمقدم نهار جديد.
لقد حان وقت الذهاب إلى الكرم، أنهض مسرعاً تصافح عيناي منظر القرية النائمة على سفح الجبل، أحتضن يد جدتي وننطلق عبر أزقة القرية، صمت محبب ونور الصباح يزحف بطيئاً كسير جدتي تماماً. نعلو الجبل، تستقبلنا نسائم الفجر الندية عبقة برائحة الأرض. الطيور الصغيرة تغرد من حولنا ومن بعيد نلمح أشخاصاً يسيرون نحو الكروم. أقفز من مكان إلى مكان ومن صخرة إلى أخرى وأحس بأن العالم ملعب فسيح. شعور عميق بالرضا أقرأه في قسمات وجه جدتي الطيب. نسير بين الكروم، نسمع صوت صبية تغني عن الحب فتبتسم جدتي وتقول: إنها عاشقة، وحين أسألها تعشق من؟ تجيبني بصوت هادئ: تعشق الحياة، لقد نضجت. أعقب بخبث طفولي: وحان وقت قطافها، تضحك من قلبها وتقول: مهلاً يا أحمد ما زلت صغيراً، فأضيف مازحاً: الصغار أيضاً يعشقون.
نصل الكرم، نتسلق سياجه القصير ثم ندخل. شجيرات التين محملة بالثمار والدوالي بالعناقيد الشهية. أنتقل من شجرة إلى شجرة ومن دالية إلى أخرى كعصفور طليق حديث الطيران. جدتي تملأ سلتها الصغيرة ببطء منتج. أسمعها تدمدم أغنية عن الشباب وأفراحه، فأقترب متسائلاً بصوت جريء فيه كثير من الدلال والحب: هل أنتِ عاشقة؟
تتهلل أساريرها بفرح حقيقي وترد:
-أنا عشقت وانتهيت، أحببت جدك حباً ملك عليّ قلبي
-لكنه مات منذ زمن بعيد
-حبه ما زال حياً.
-ألا ترغبين في أن تعودي صبية وتعشقي من جديد؟
-لا أفكر في المستحيل
-إذاً لماذا تعيشين؟
-لأني أحب الحياة، أحبها تتدفق في شجيرات التين، أعشقها تتدفق في شرايينك قوية جارفة، أقدسها كامنة في الأرض التي تعطي بلا انقطاع.
الشمس الخجلى لم تعد خجلى والحياة تدب من حولنا، الكون يستيقظ، تتضح الرؤية ويغمر النور كل شيء. تمتلئ السلة بالتين والعنب، تضعها جدتي على رأسها، نغادر الكرم، نسير في دروب ضيقة، نعلو الجبل، نطل على القرية، ننحدر، الطيور تملأ السماء والشمس تتوسد الشرق ضاحكة مفعمة بالنور والحرارة، ندخل القرية، نحس بنبض الحياة في الناس، في البيوت، في الأزقة الضيقة، في وجوه الأطفال وهم في انتظار التين والعنب. تمد جدتي يدها إلى السلة لتعطي بعضهم. نصل إلى البيت، لم يبق في السلة إلا القليل، أسألها:
-لماذا أعطيت البعض وأهملتِ الآخرين؟ ترد: أعطيت الذين لا يملكون.
-وهل تعطيهم في كل مرة؟
-طبعاً الحياة بلا تعاون جحيم لا يطاق.
أرى كلباً في انتظار جدتي.
وماذا يريد هذا الكلب؟
-إنه ينتظر فطوره.
تمد يدها إلى قطعة خبز كبيرة وترميها له، يلتقطها ويغادر. تعد طعام الفطور ثم تطلب مني أن أحمل ما تبقى في السلة لامرأة مقعدة أعرف بيتها. أحمل التين والعنب وأحمل في قلبي حباً عميقاً لجدتي.