يقول عصفور لصديقه: ألا تلاحظ حزن تلك الشجرة، إن قلبي يكاد يتمزق لوعة وأسى عليها. يجيبه الصديق: ألن يعود النهر؟ إنه العلاج الوحيد في رأيي، فلقد كانت مغرمة به مفتونة بهواه، تشاركهما فراشة كانت بالقرب منهما وتقول: لا أحد يعلم متى يعود النهر، ولا أحد يعلم لماذا رحل. يسترعي انتباههم صوت خافت صادر عن أغصان الشجرة الحزينة، لقد كانت الأغصان تبكي بحرقة. تمر غيمة تعرف قصة الشجرة وترى دموع الأغصان فتسكب كل غيثها بكرم عفوي، تغسل دموع الأغصان وتروي ظمأ الأم للنهر الذي غاب فجأة. تنتشر الأخبار بين الأشجار عن حزن الشجرة حبيبة النهر المسافر، ويعلم الجميع أن مخاض الشجرة الجديد محفوف بالمخاطر، فالحزن العميق والكآبة المسيطرة وراء عسر المخاض. بكت الشجرات، بكت السروة في السر، بكى النرجس في الساحات، بكت الشجرات. جرت الأمطار ساقية، ولكن الشجرة الحزينة كانت تعلم أن الساقية ليست النهر، وأن النهر المسافر لم يعد بعد. كان فيما مضى ينساب وسط الحقول الخضر هداراً بحب الحياة، يمنح العطاء للجميع بلا ثمن، ويبحث عن حبيبة، كانت الشجرة آنذاك شجيرة صغيرة تضج حيوية، ويمور في جذعها الفتي شوق طاغٍ لحب يروي ظمأ شبابها ويناعة صباها، وحينما رأته أحبته، أحبها، تعانقا طويلاً، تعاهدا على الحياة معاً، كانت سعيدة به وكان سعيداً بها، خلف لها أغصاناً قوية تحميها هوج العواصف وزمهرير الشتاء. -2- الطيور المهاجرة بحثاً عن الدفء والحب تراه في بلاد بعيدة، ترى النهر ينساب صامتاً في أرض قفراء، تحوم حول ضفافه تسأله عن سبب هجرته، يبكي بصمت وغزارة، تتحول مياهه الباردة إلى مياه دافئة، تخبره عن مخاض شجرته العسير، يُصعق، يهدر، يزمجر، ينوح، تبكي الطيور والزهور البرية وآلاف الشجيرات التي نمت على ضفافه من جديد، لا بد من العودة، يقولها بصوت واضح، يجتمع الكل لوداعه، يحول مجراه ويسرع عائداً إلى بلاده وينشد في طريق العودة بصوت شجي دافئ: من أجلك أعود ومن أجل أغصانكِ أعبر القفار والسدود، فمتى ألقاكِ يا سيدة الأشجار؟ يا ضوء النهار؟ على المحيط وحيداً أمتطي شراعي، شوقي وحبك قاربي وأغصانك مرافئي فمتى نلتقي؟ يا سيدة الأشجار يا ضوء النهار؟ قطع الفيافي والقفار، محيطات وبحار، سمع أغاني العاشقين البائسين تتردد في الغابات البكر وعند شروق الشمس وانبلاج النهار، حنينه كالسيل، كشلالات أسطورية في جبال شاهقة لا تسكنها إلا الأسرار، تسأله الجبال والسهول عن سر حنينه، تسأله الأشجار والغابات عن سر عودته، تسأله الأرض والسماء عن سر حبه، ولكنه لا يجيب، لا وقت للكلام، لا وقت للكلام. -3- يبدأ المخاض، يزحف الألم على الشجرة، تحيطها أغصانها بكل محبة، تحلم بالنهر يعانقها، يلامس جذورها، ترتاح على ضفافه كما كانت في أيام اللقاء الأول، تحلم به باسماً عبر السهول الملونة، تعانقه الأرض وتباركه السماء، تحلم به ضاحكاً من القلب الذي ما عرفت أرق منه ولا أنبل، تبكي بصمت ولكنها تحس في قرارة نفسها أن الغصن الجديد لن ينبثق بسهولة، تغني لها الطيور أحلى الأشعار، وتنشد لها الأشجار أجمل الكلمات، وتلقي لها الأرض عند جذعها أطواقاً من أزهار فاتنة ساحرة، ولكنها حزينة. يشتد الألم وتروح في غيبوبة، تبكي أغصانها، وتنوح الريح، وتتحسر الزنابق والفراشات. -4- تسمع الأغصان صوت أبيها النهر قادماً من بعيد، تهتز، تتمايل، ترقص، تزغرد: لقد عدت إلينا في الوقت المناسب. يسمعهم، يحفر مجراه مسرعاً كالبرق، صاخباً كالرعد، هائجاً كالمحيط، حزيناً حتى الثمالة، تستقبله الغابات بأشجارها، والطيور بتغريدها، والأزهار بأريجها، والأعشاب برقصاتها، ولكنه يندفع نحو الشجرة، لا يرى أمامه سواها ، يعانقها عناقاً لاهباً، ينخلع قلبه لاصفرارها، تفتح عيونها، تراه، تدب الحياة فيها من جديد، تضع جذعها على ضفته، تشرب، ترتوي، تسيل دموع الفرح على أوراقها، ترشقه الأغصان بالزهور والقبلات، تضحك الشجرة، وفجأة ينبثق الغصن الجديد بيسر وسهولة، فتضحك الغابات ويدفق الفرح كمطر غزير، فرحت الشجرات، فرحت السروة في العلن، رقص النرجس في الساحات، فرحت الشجرات
يقول عصفور لصديقه: ألا تلاحظ حزن تلك الشجرة، إن قلبي يكاد يتمزق لوعة وأسى عليها.
يجيبه الصديق: ألن يعود النهر؟ إنه العلاج الوحيد في رأيي، فلقد كانت مغرمة به مفتونة بهواه، تشاركهما فراشة كانت بالقرب منهما وتقول: لا أحد يعلم متى يعود النهر، ولا أحد يعلم لماذا رحل. يسترعي انتباههم صوت خافت صادر عن أغصان الشجرة الحزينة، لقد كانت الأغصان تبكي بحرقة. تمر غيمة تعرف قصة الشجرة وترى دموع الأغصان فتسكب كل غيثها بكرم عفوي، تغسل دموع الأغصان وتروي ظمأ الأم للنهر الذي غاب فجأة. تنتشر الأخبار بين الأشجار عن حزن الشجرة حبيبة النهر المسافر، ويعلم الجميع أن مخاض الشجرة الجديد محفوف بالمخاطر، فالحزن العميق والكآبة المسيطرة وراء عسر المخاض. بكت الشجرات، بكت السروة في السر، بكى النرجس في الساحات، بكت الشجرات. جرت الأمطار ساقية، ولكن الشجرة الحزينة كانت تعلم أن الساقية ليست النهر، وأن النهر المسافر لم يعد بعد. كان فيما مضى ينساب وسط الحقول الخضر هداراً بحب الحياة، يمنح العطاء للجميع بلا ثمن، ويبحث عن حبيبة، كانت الشجرة آنذاك شجيرة صغيرة تضج حيوية، ويمور في جذعها الفتي شوق طاغٍ لحب يروي ظمأ شبابها ويناعة صباها، وحينما رأته أحبته، أحبها، تعانقا طويلاً، تعاهدا على الحياة معاً، كانت سعيدة به وكان سعيداً بها، خلف لها أغصاناً قوية تحميها هوج العواصف وزمهرير الشتاء.
-2-
الطيور المهاجرة بحثاً عن الدفء والحب تراه في بلاد بعيدة، ترى النهر ينساب صامتاً في أرض قفراء، تحوم حول ضفافه تسأله عن سبب هجرته، يبكي بصمت وغزارة، تتحول مياهه الباردة إلى مياه دافئة، تخبره عن مخاض شجرته العسير، يُصعق، يهدر، يزمجر، ينوح، تبكي الطيور والزهور البرية وآلاف الشجيرات التي نمت على ضفافه من جديد، لا بد من العودة، يقولها بصوت واضح، يجتمع الكل لوداعه، يحول مجراه ويسرع عائداً إلى بلاده وينشد في طريق العودة بصوت شجي دافئ:
من أجلك أعود
ومن أجل أغصانكِ
أعبر القفار والسدود، فمتى ألقاكِ
يا سيدة الأشجار؟ يا ضوء النهار؟
على المحيط وحيداً أمتطي
شراعي، شوقي وحبك قاربي
وأغصانك مرافئي
فمتى نلتقي؟
يا سيدة الأشجار
يا ضوء النهار؟
قطع الفيافي والقفار، محيطات وبحار، سمع أغاني العاشقين البائسين تتردد في الغابات البكر وعند شروق الشمس وانبلاج النهار، حنينه كالسيل، كشلالات أسطورية في جبال شاهقة لا تسكنها إلا الأسرار، تسأله الجبال والسهول عن سر حنينه، تسأله الأشجار والغابات عن سر عودته، تسأله الأرض والسماء عن سر حبه، ولكنه لا يجيب، لا وقت للكلام، لا وقت للكلام.
-3-
يبدأ المخاض، يزحف الألم على الشجرة، تحيطها أغصانها بكل محبة، تحلم بالنهر يعانقها، يلامس جذورها، ترتاح على ضفافه كما كانت في أيام اللقاء الأول، تحلم به باسماً عبر السهول الملونة، تعانقه الأرض وتباركه السماء، تحلم به ضاحكاً من القلب الذي ما عرفت أرق منه ولا أنبل، تبكي بصمت ولكنها تحس في قرارة نفسها أن الغصن الجديد لن ينبثق بسهولة، تغني لها الطيور أحلى الأشعار، وتنشد لها الأشجار أجمل الكلمات، وتلقي لها الأرض عند جذعها أطواقاً من أزهار فاتنة ساحرة، ولكنها حزينة. يشتد الألم وتروح في غيبوبة، تبكي أغصانها، وتنوح الريح، وتتحسر الزنابق والفراشات.
-4-
تسمع الأغصان صوت أبيها النهر قادماً من بعيد، تهتز، تتمايل، ترقص، تزغرد: لقد عدت إلينا في الوقت المناسب. يسمعهم، يحفر مجراه مسرعاً كالبرق، صاخباً كالرعد، هائجاً كالمحيط، حزيناً حتى الثمالة، تستقبله الغابات بأشجارها، والطيور بتغريدها، والأزهار بأريجها، والأعشاب برقصاتها، ولكنه يندفع نحو الشجرة، لا يرى أمامه سواها ، يعانقها عناقاً لاهباً، ينخلع قلبه لاصفرارها، تفتح عيونها، تراه، تدب الحياة فيها من جديد، تضع جذعها على ضفته، تشرب، ترتوي، تسيل دموع الفرح على أوراقها، ترشقه الأغصان بالزهور والقبلات، تضحك الشجرة، وفجأة ينبثق الغصن الجديد بيسر وسهولة، فتضحك الغابات ويدفق الفرح كمطر غزير، فرحت الشجرات، فرحت السروة في العلن، رقص النرجس في الساحات، فرحت الشجرات