انتفض جسده على رنين جرس المنبه، فنهض مذعوراً وأسكت الصوت حالاً. لم يستطع تحديد المكان الذي كان فيه، أو تذكر الوقت الذي نام فيه، إلا أن حالة الذهول هذه لم تستمر طويلاً، فقد استعاد بعد لحظات وعيه بالمكان والزمان معاً. تذكر أنه في بيته، وأنه نام بعد أن غادرت زوجته والأولاد البيت عصراً، لم يرافقهم، رغم إلحاح زوجته. كان يحس بتعب ينخر كل خلية من خلايا جسده، ورغم أن عمره لم يتجاوز الخمسين، كان يشعر وخاصة في الفترة الأخيرة أنه قد تجاوز السبعين، بل والثمانين، صحيح أن صحته منذ الطفولة لم تكن على ما يرام، ولكنها الآن غاية في السوء، يطحنه إنهاك شديد، ويسيطر عليه شعور بالإحباط لا يشابههما ما كان يعانيه في ليالي المعتقل الموحشة. غادر غرفة النوم إلى الصالون، وقد عاودته آلام معدته. جلس على أحد المقاعد دون أن يضيء المصباح. تذكر بمرارة كيف رفسه المحقق بحذائه على معدته، عندما جاء دوره للتحقيق بعد اعتقاله بسنة تقريباً، وهو يصرخ في وجهه بانفعال مجنون: أنت بطل يا ابن الكلب، سأحطمك، عندها فقد الوعي ونقل إلى مستشفى المعتقل، حيث بقي هناك حوالي الشهر، ثم أفرج عنه فيما بعد لاعتبارات صحية. حدث ذلك منذ سنوات، إلا أن آلام معدته ترافقه كظله، تغيب أحياناً ثم تتفاقم فجأة وبلا مقدمات. ومما زاد في عذاباته التغيرات التي طرأت على العالم بصورة مغايرة لأحلامه وتصوراته، حتى الذين ناضلوا معه في يوم ما يلهثون هذه الأيام وراء خلاصهم الشخصي، دون أي اعتبار لأية قيمة نبيلة، لقد ضاعت كل التضحيات وتبددت كل الآمال كما كان يرى. خطر بباله فنجان من القهوة، فراقت له الفكرة، نهض وفيه بعض النشاط، أنار مصباح الصالون، واتجه إلى المطبخ. أعد القهوة ثم عاد إلى مقعده وأشعل سيكارة هي الثالثة في ذلك اليوم، لقد خفف التدخين إلى حد كبير، لم يعد مذاق التبغ مستساغاً كما كان. وقبل أن يبدأ في ارتشاف قهوته ألقى نظرة على ساعة الحائط. إنه ينتظر نشرة الأخبار المصورة، يود أن يشاهد أحداث الأراضي المحتلة. كل ما يهمه حالياً أخبار الانتفاضة وما عداها لا يستحق حتى الذكر. لقد أحيت فيه بعض الأمل، وأنعشت في روحه بقايا حلم. اشتدت آلام معدته، وأحس بأنه غير راغب في إكمال قهوته، فأطفأ السيكارة، وتمدد على الديوانة المواجهة للتلفزيون. لحظات وتبدأ نشرة الأخبار، لا بد أن يكحل عينيه بمرأى الأطفال والصبية وهم يقذفون الحجارة بعنف على جنود العدو. داهمته نوبة دوار شديد، ولكنه انتبه إلى أن موعد النشرة قد حان. فنهض بتثاقل وضغط على زر التشغيل، كاد أن يقع ولكنه وبجهد جهيد عاد إلى مكانه. كان الخبر الثاني حول الانتفاضة، استجمع قواه وأصاخ السمع "شهداء جدد ينضمون إلى القافلة، العدو يتفنن في وسائل التعذيب فيلجأ إلى تكسير الأطراف، وسنعرض عليكم الآن فيلماً قصيراً عن تلك العملية الهمجية". ركز بصره فرأى جنوداً إسرائيليين يرفسون يافعين بأبواطهم، واليافعان يتلويان من شدة الألم. وبعد ثوانٍ ينحني بعض الجنود ليلتقط كل منهم حجراً كبيراً، ويبدؤون في تكسير الأطراف، ضرب وحشي قاتل، عندها صرخ صرخة مدوية، لم يحتمل، انهار فجأة، قذف من فمه كمية كبيرة من الدم وسقط على الأرض، رفع رأسه محاولاً أن ينهض، استقرت عيناه مرة أخرى على المنظر، كان التحطيم مستمراً، هاجمته عندئذ نوبة غثيان جديدة، فقذف كمية أخرى من الدم، زاغ بصره وبدأ وعيه يتشوش، وصرخ بصوت مخنوق: لا تضربوني، إني أتألم، أطرافي، معدتي، آخ، آخ، ثم ارتمى على الأرض وسط بركة من الدماء. جاء في تقرير الطبيب الشرعي ما يلي: مات إثر نزيف حاد ناتج عن انفجار كتلة لحمية ضخمة في المعدة مجهولة السبب، ولكن التقرير لم يشر إلى سبب انفجار تلك الكتلة.
انتفض جسده على رنين جرس المنبه، فنهض مذعوراً وأسكت الصوت حالاً. لم يستطع تحديد المكان الذي كان فيه، أو تذكر الوقت الذي نام فيه، إلا أن حالة الذهول هذه لم تستمر طويلاً، فقد استعاد بعد لحظات وعيه بالمكان والزمان معاً. تذكر أنه في بيته، وأنه نام بعد أن غادرت زوجته والأولاد البيت عصراً، لم يرافقهم، رغم إلحاح زوجته. كان يحس بتعب ينخر كل خلية من خلايا جسده، ورغم أن عمره لم يتجاوز الخمسين، كان يشعر وخاصة في الفترة الأخيرة أنه قد تجاوز السبعين، بل والثمانين، صحيح أن صحته منذ الطفولة لم تكن على ما يرام، ولكنها الآن غاية في السوء، يطحنه إنهاك شديد، ويسيطر عليه شعور بالإحباط لا يشابههما ما كان يعانيه في ليالي المعتقل الموحشة. غادر غرفة النوم إلى الصالون، وقد عاودته آلام معدته. جلس على أحد المقاعد دون أن يضيء المصباح. تذكر بمرارة كيف رفسه المحقق بحذائه على معدته، عندما جاء دوره للتحقيق بعد اعتقاله بسنة تقريباً، وهو يصرخ في وجهه بانفعال مجنون: أنت بطل يا ابن الكلب، سأحطمك، عندها فقد الوعي ونقل إلى مستشفى المعتقل، حيث بقي هناك حوالي الشهر، ثم أفرج عنه فيما بعد لاعتبارات صحية. حدث ذلك منذ سنوات، إلا أن آلام معدته ترافقه كظله، تغيب أحياناً ثم تتفاقم فجأة وبلا مقدمات. ومما زاد في عذاباته التغيرات التي طرأت على العالم بصورة مغايرة لأحلامه وتصوراته، حتى الذين ناضلوا معه في يوم ما يلهثون هذه الأيام وراء خلاصهم الشخصي، دون أي اعتبار لأية قيمة نبيلة، لقد ضاعت كل التضحيات وتبددت كل الآمال كما كان يرى.
خطر بباله فنجان من القهوة، فراقت له الفكرة، نهض وفيه بعض النشاط، أنار مصباح الصالون، واتجه إلى المطبخ. أعد القهوة ثم عاد إلى مقعده وأشعل سيكارة هي الثالثة في ذلك اليوم، لقد خفف التدخين إلى حد كبير، لم يعد مذاق التبغ مستساغاً كما كان. وقبل أن يبدأ في ارتشاف قهوته ألقى نظرة على ساعة الحائط. إنه ينتظر نشرة الأخبار المصورة، يود أن يشاهد أحداث الأراضي المحتلة. كل ما يهمه حالياً أخبار الانتفاضة وما عداها لا يستحق حتى الذكر. لقد أحيت فيه بعض الأمل، وأنعشت في روحه بقايا حلم. اشتدت آلام معدته، وأحس بأنه غير راغب في إكمال قهوته، فأطفأ السيكارة، وتمدد على الديوانة المواجهة للتلفزيون. لحظات وتبدأ نشرة الأخبار، لا بد أن يكحل عينيه بمرأى الأطفال والصبية وهم يقذفون الحجارة بعنف على جنود العدو. داهمته نوبة دوار شديد، ولكنه انتبه إلى أن موعد النشرة قد حان. فنهض بتثاقل وضغط على زر التشغيل، كاد أن يقع ولكنه وبجهد جهيد عاد إلى مكانه. كان الخبر الثاني حول الانتفاضة، استجمع قواه وأصاخ السمع "شهداء جدد ينضمون إلى القافلة، العدو يتفنن في وسائل التعذيب فيلجأ إلى تكسير الأطراف، وسنعرض عليكم الآن فيلماً قصيراً عن تلك العملية الهمجية". ركز بصره فرأى جنوداً إسرائيليين يرفسون يافعين بأبواطهم، واليافعان يتلويان من شدة الألم. وبعد ثوانٍ ينحني بعض الجنود ليلتقط كل منهم حجراً كبيراً، ويبدؤون في تكسير الأطراف، ضرب وحشي قاتل، عندها صرخ صرخة مدوية، لم يحتمل، انهار فجأة، قذف من فمه كمية كبيرة من الدم وسقط على الأرض، رفع رأسه محاولاً أن ينهض، استقرت عيناه مرة أخرى على المنظر، كان التحطيم مستمراً، هاجمته عندئذ نوبة غثيان جديدة، فقذف كمية أخرى من الدم، زاغ بصره وبدأ وعيه يتشوش، وصرخ بصوت مخنوق: لا تضربوني، إني أتألم، أطرافي، معدتي، آخ، آخ، ثم ارتمى على الأرض وسط بركة من الدماء.
جاء في تقرير الطبيب الشرعي ما يلي: مات إثر نزيف حاد ناتج عن انفجار كتلة لحمية ضخمة في المعدة مجهولة السبب، ولكن التقرير لم يشر إلى سبب انفجار تلك الكتلة.