والشخص الذي يضطلع بتعليم الناشئة علم الفقه، سواء كان ذلك على المقاعد الدراسية، أو في حلقات المساجد، ونحوها، إنما تتوقف قوة تأثير الفقه في نفوس الطلاب على نمط شخصيته وطريقة تدريسه، ومدى انتمائه وإخلاصه وإتقانه لعمله، وتحصيلهم للفوائد القيمة التي تكمن في ثنايا الفصول والأبواب، وبين أسطر المسائل والأدلة، وفيما بعد النظر والترجيح.
* * * لقد ترك لنا السلف الصالح تراثاً تراكمياً هائلاً من كتب الفقه الإسلامي، وكنزاً خالداً من العلم والنظر والأحكام، فبين أيدينا إذن الكلمة، لكنها لا تزال محتاجة إلى من يقدم للنشء جمالها، ويكشف غموضها، ويبين جوهرها، وينظم من دررها قصيدة تحكي للأجيال سمو الفقه ومكانته وأهميته في حياة أمة الإسلام.
إن المعلم بتقديمه لعلم الفقه الإسلامي، وفق أصوله السليمة ومنهجيته العلمية الرصينة، يغرس في النشء قواعد التفكير المنطقي، والتحليل والتأمل والتفكير، خاصة إذا منح طلابه فضاء منضبطاً، للبحث عن دليل لهذا الحكم، أو وجه دلالة من هذا النص، أو العلة الجامعة بين الأصل والفرع في القياس، أو المصلحة – بأنواعها الضرورية والحاجية والتحسينية – في حكم أو نازلة معاصرة؛ فبذلك تغدو الأحكام أمام نظر الطلاب نتيجة معقولة لتسلسل منسق، ويغدو للفقه لذة، وللعقل مرتعاً، وللجهد حصيلة في معرفة الأحكام وفهمها، وقد كان بعض السلف يقول: ربما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال، فأبيت ساهراً فرحاً مني بتلك الفائدة!
وحين يكلف الطالب بالنظر في صحة دليل في سنده أو في دلالته، أو منح فكره مساحة مرضية من الحكم على صحة قياس أو نظر عقلي، فإنه بذلك يكتسب إيماناً راسخاً بما يملكه الدليل من قوة وإحكام وقطع، فلا يكاد يبني بعدئذ أحكامه ومواقفه – في كافة شؤونه الدينية والحياتية كذلك - إلاّ على أساس صلب من دليل صحيح صريح، يملؤه بالرضا واليقين والاقتناع، وينأى به عن اتباع البدع أو التصديق بالشائعات أو تلقي الأخبار بلا زمام ولا خطام.
كما يكون الطالب بذلك محترماً للدليل، وقافاً عند معناه، عاملاً بما يحكم به، وفي قلبه رعشة تعظيم لله سبحانه وتعالى، ونصوص كتابه، وحكمة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ودلالة غير ذلك من الأدلة المتفق عليها.
* * * وفي المسائل الخلافية - التي يزخر بها علم الفقه الإسلامي-، يكون على المعلم واجب البيان لمعنى سام يتجلى فيها، فالخلاف في الفقه ليس صراعاً وتحدياً واتهاماً ومجافاة، بل هو تعدد فكري منضبط، واختلاف في النظر ثري، وفوق ذلك احترام لرأي الند وتقدير لوجهة نظره، واعتراض مهذب ينقض الرأي، ولا ينقض من قال به، كما علمنا ذلك أحد أئمة المدارس الفقهية الكبرى، الشافعي رحمه الله، فقد قال يونس الصًّدفيُّ: ما رأيتُ أعقل من الشافعي، ناظرتُه يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة!
وفي هذا الجانب أيضاً، ترسم المناظرات الفقهية وعرض المسائل الخلافية لطالب الفقه الناشئ، خطوطاً قويمة سليمة لأسس الحوار والمناظرة، وطرق عرض الحجة والدليل، وكيفية نقض الأدلة النقلية والعقلية، والموازنة والترجيح، في نسق رائع يسير فيه الفكر بسلاسة وهون، إلى التسليم والاقتناع.
* * * وعندما يغوص الطالب شيئاً في دقائق الفقه وجزئياته، تغمر روحه مشاعر الإعظام والإجلال لهذا الدين السامي، الذي ما ترك خيراً إلاّ دل الأمة إلى سبيله، وما ترك شراً إلاّ حذرهم منه، وقد رسم لهم خارطة حياة بديعة بتفاصيلها ودقتها ووضوحها، تأخذ بأيديهم في إيمان وتقوى إلى فلاح الدارين. وبين دقائق الأحكام أيضاً، يبهر الطالب بالجهد العلمي الجبار الذي جمعه علماء الأمة الكبار، ففصّلوا أحكامه وبيّنوا أدلته ونسّقوا مسائله، في علاقات خفية لطيفة بين مسائله، ومعانٍ دقيقة معينة لمفرداته ومصطلحاته.
كما يُتاح للطالب في هذا الجانب، أن يتأمل مدى التناسق والتلاحم الرائع بين الجزئيات والكليات في الفقه الإسلامي، وكيف تنتظم الأحكام لتؤلف موسوعة للفرد والأمة في كل شؤون الحياة، في عبادته وتجارته، في زواجه وطلاقه، لأبنائه وآبائه، في صحته ومرضه، وعلى مستوى الأمة والدولة في سلمها وحربها، في ازدهارها وأزمتها، فيتعلم من ذلك ألاّ قشور في حياة المسلم، بل إن كل شأن مهما صغر وندر له نصيب من البحث والنظر عند الفقهاء بتقرير حكم الشرع فيه من تحريم أو تشريع، أو الفضاء الأرحب.. الإباحة.
وحين ينظر الطالب في مدى الجهد العظيم الذي يبذله المجتهد لتقرير حكم ما، وما يجب عليه من حصر الأدلة والنظر في صحتها ودلالة ألفاظها، مع خلفية علمية قوية من علم الحديث والقرآن واللغة العربية والمنطق، إضافة إلى النظر في الواقع وظروفه وملابساته، إن هذا يجعله يكبر القول على الله عز وجل، ويصده عن التجرؤ على الفتيا بلا علم كافٍ، ويردعه عن الاقتحام إلى الشريعة والتحدث في شأنها كمادة ثقافية أو اجتماعية ثرية!
قال أبو حصين الأسدي: إن أحدهم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر. وقال ابن سيرين: لأن يموت الرجل جاهلاً خير له من أن يقول ما لا يعلم.
* * * وإن معلم الفقه لمّا يكون واسع الاطلاع ثريّ الفكر، حريصاً على النظر في أبحاث النوازل الجديدة وتحقيق المسائل الواقعة، يكسب هذا الاهتمام طلابه، فيقدرون حينئذ ما لعلم الفقه من قدرة فائقة على احتواء أي مشكلة أو أمر نازل، في الطب أو الاقتصاد أو التقنية وغيرها، ويحرصون على قراءته ودراسته وفهمه، والوقوف على أدلة الباحث في النازلة واعتراضاته وفهمه وترجيحه، مما يجعل شخصية الطالب ذات تجدّد وثراء ومعاصرة، فيزداد التراكم العلمي سمواً وعمقاً وأثراً.
كما أن فهمهم لباب المصالح والمفاسد، واحترام الأعراف، وهو جانب حيوي ضخم ومتفرّع في الفقه الإسلامي، يعلمهم درساً في المرونة والتكيّف، وفهم الواقع والحدث المعاصر، وأهمية استيعاب الفقيه لبيئته المكانية والزمانية، مما يكسب الفقه خاصية الاستمرار والصلاحية لكل زمان ومكان. ومن وراء هذا الدرس درس آخر، وهو العناية بصناعة فقه لكل عصر، فلا يأخذ الباحث ما أعطي من كتب من زمن سالف فحسب، بل يقبلها ويفهمها، ثم ينزلها على وقائع عصره وأنماط المعيشة فيه وعباراته وظروفه، وكم يعجب الناظر في الفقه من مصطلحات ووصف لحياة كانت في قرون متغيرة - لم تكن الحياة الاجتماعية فيها على ما هي عليه في صدر الإسلام -، وهذا يعني أن كل فقيه يكتب لزمنه بعبارات مجتمعه، بعدما فهم واقعه ونزّل الأحكام على عصره، ولكن الأساس يظل على الرغم من ذلك واحداً، والنور في الطريق واحداً، والحجة أمام المرء واحدة.
وبهذا يكون الفقه الإسلامي للطالب الناشئ، ملاذاً حين تدلهم الخطوب أو تستجد الوقائع، فيهرع إلى بحره يستقي منه الحكم القويم والنظرة العميقة، طالباً الحقيقة من العلماء الربانيين، الذين يبحثون ما يستجد بتأنٍ وتؤدة وتأمل، بأسلوب علمي رصين، قد بذلوا فيه الوسع والجهد في تقرير حكم الله تعالى، وبذلك يطرح الطالب سبيل أخذ الحكم ممن يتحدث فيه بدون أهلية، ومن غير طرق علمية، في مقالات ثقافية أو أحاديث لاهية عابرة. * * * وبعد.. فهذا هو الفقه الإسلامي، روح الشريعة وشريعة الحياة، فهل من مربٍّ؟!
المصدر/ موقع الإسلام اليوم.