الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد : فلقد كان الثبات على الحق سيما أهل الحق منذ بزوغ فجرالدعوة الإسلامية، حين جهر النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته فاستجاب له نفر قليل، فابتلوا وعذبوا وساومهم الأعداء ليرتدوا عن دينهم، فما زادهم ذلك إلا ثباتاً واستمساكاً بالحق الذي هداهم الله إليه، فكانوا مع إمامهم الأكبر صلى الله عليه وسلم أئمة يهدون بأمر الله لما صبروا وكانوا يوقنون ، كسلفهم من أئمة الهدى فيمن مضى. وأهل الدعوة من أهل الحق في كل زمان ومكان هم أعظم الناس صبرًا وأقواهم ثباتًا على مبادئهم وأهدافهم وإن أصابهم ما أصابهم.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله : أما أهل السنّة والحديث فما يعلم أحدٌ من علمائهم ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبرًا على ذلك، وإن امتحنوا بأنواع المحن، وفتنوا بأنواع الفتن .
وهذا هو حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين كأهل الأخدود ونحوهم، وكسلف هذه الأمة والصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة، حتى كان مالك رحمه الله يقول: لا تغبطوا أحدًا لم يصبه في هذا الأمر بلاء .
وإن الله لا بد أن يبتلي المؤمن، فإن صبر رفع درجته كما قال تعالى : {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [ السجدة :24].
فلابد للداعية أن يصبر على دعوته وما يدعو إليه ؛ لأن الدعوة إلى الله طريق محفوفة بالمكاره والمتاعب، والداعية معرض للإيذاء والاستهزاء والسخرية، فإذا صبر على ذلك موقنًا بموعود الله، كان إمامًا يقتدى به. والأئمة جمع إمام، والإمام هو الذي يؤتم به في الخير أو الشر، وأريد به في هذا الموضع أنه جعل منهم قادة في الخير يؤتم بهم ويهتدى بهديهم. والإمام الحق لا بد أن يجتمع فيه ثلاث صفات وهي : 1/ يهدي بأمر الله. 2/ يصبر على ما أصابه في ذلك. 3/ يوقن بالله تعالى وبوعده. 1- فالداعية يهدي بأمر الله تعالى ، أي يهدي بأمر الله وإذنه ويهدي بشريعته ودينه المنزل المحفوظ، فالركيزة الأساسية الأولى في التأهيل للإمامة في الدين هي العلم بالشرع الذي يدعو إليه، وهو الذي أُمر به محمد صلى الله عليه وسلم في أول آية نزلت عليه {اقرأ}، وعلى ضوء العلم يتم العمل والدعوة، يقول الفخر الرازي عند شرحه لقوله تعالى :{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.[ يوسف : 108] ,وهذا يدل أن الدعاء إلى الله تعالى إنما يحسن أن يكون على بصيرة مما يقول، وعلى هدى ويقين ، فإن لم يكن كذلك فهو محض الغرور.
فلا يمكن للدعوة الإسلامية أن تستقيم على أمر الله تعالى، تربيةً وبناءً، وانتصارا واستمرارا - إن شاء الله - إلا إذا قادها الربانيون أئمة الهدى الذين يمتلئون صبراً ويقيناً بالله وبآياته، فيعملون بأمر الله، ويهدون بهديه. والنبي صلى الله عليه وسلم هو القدوة الأول للداعية إلى الله في تكوين نفسه وأداء واجبه، ولكي يكون له نصيب من هذا التكوين والحفظ والنصر لا بد أن يسير سيره ويقتفي أثره، يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى : والله سبحانه قد أمر رسوله أن يبلغ ما أنزله إليه من ربه، وضمن له حفظه وعصمته من الناس، وهؤلاء المبلغون عنه من أمته لهم من حفظ الله وعصمته إياهم بحسب قيامهم بدينه وتبليغهم له . 2- أما الصبر فهو مثابرة واستمرار وتحمل وثبات على المبدأ وإصرار، أمام كل ما يحصل من الفتن، فهناك فتن الشبهات والتأويلات الفاسدة، وهناك فتن الشهوات كفتنة المال وفتنة الشهرة، وهناك فتنة حظوظ النفس ومشاكل القلوب، وهناك فتنة تسلط الظلمة والمبطلين.
الداعي إلى الله وهو يزاول الدعوة سيجد المشقة والعنت في الطريق، فلا بد أن يستعين على ذلك بالعبادة انطلاقاً من قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو مُقبل على مشقة الدعوة والمعاناة يقول له: { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ﴿1﴾ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿2﴾ نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ﴿3﴾ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا ﴿4﴾ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴿5﴾}[ المزمل]، وهذا القول هو القرآن، وقد أُعلم صلى الله عليه وسلم بذلك ليوطن نفسه على الصبر ويهيئها لحمل الشريعة علمًا وعملاً ، وقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة، وتحمل عنت قريش وعداوتهم وكان يصيبه من ذلك الأذى الكثير، فكانت التوجيهات القرآنية التي تتنزل عليه: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى}[ طـه : 130] ، ويضيق صدره باستهزائهم فينزل عليه قول الله تعالى :{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98)}[ الحجر ]،كلها توجيهات نحو العبادة لتخفيف وطأة هذا الحمل الثقيل الذي كلف به، وهو الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
ونحن بحاجة إلى التعرف على سنة النبي صلى الله عليه وسلم في صبره ويقينه ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتدرّج في الدعوة إبان الفترة المكيّة، وتدرّجه نوعٌ من الصبر، وكذلك عفوه وصفحه وإعراضه عن الجاهلين، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبيًا من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). البخاري ح3477، ومسلم ح1792. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: ( كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة فنظرت إلى صفحة عاتق النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفتَ إليه، فضحك ثم أمر له بعطاء) متفق عليه.
وقد جاء في وصف دعاة الحق أتباع الرسل في كتاب الله تعالى بهذه الصفة العظيمة وهي صفة الصبر والاحتمال، في قوله تعالى : {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[ آل عمران : 146]. 3- وأما اليقين فهو الإيمان بالغيب، وهو يتعلق غالباً بما هو آت وقادم، كما في قوله تعالى: {والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[ البقرة : 4].
واليقين ليس مجرد اعترافات وقناعات نظرية، إنما اليقين الحق هو حمل هم الدين والجهاد في سبيله على بصيرة، على جميع المستويات وفي مختلف الظروف. قال صلى الله عليه وسلم للصديق الوفي رضي الله عنه وهما في الغار، والأذى يلاحقهم من كل جهة :{ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [ التوبة : 40] ,وقال له : (ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) يقين بالله، وبمعيته ونصره.
فأعظم قوة لاقتحام عقبات النفس وإكراهات الواقع هي قوة الإيمان، وعندما يستقر الإيمان في القلب ويصدقه العمل الصالح بالجوارح، تتشكل قوة اليقين التي لا تهزم، وإذا أشرق نور اليقين في القلب ذهبت الحيرة وزالت المخاوف وأطمأن القلب ونشطت الأعضاء للطاعة، فأهل اليقين في فرح دائم بالله، وهم جبال في التوكل، لا يأكلون بدينهم ولا يطلبون فيما أيدي الناس؛ لذا فاليقين لا يعني التواكل والكسل والخمول، بل يعني المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إلى الأعمال الصالحة، وإنما ذكر اليقين في سياق إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ليعلم أنه علم وعمل، فهم وسعي. قال الإمام الشوكاني في تفسير الآية السابقة من سورة البقرة: ولا يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح.
واليقين ليس على مرتبة واحدة إنما هو على مراتب متفاوتة بتفاوت إيمان المؤمنين وقابليتهم وحظهم في السلوك إلى الله، وقبل ذلك ومعه وبعده توفيق الله تعالى وفضله وعطاؤه,وقد تنتهي أعمار الناس ولا تنتهي مدارج اليقين. والمؤمن الموقن يهون الله عليه مصائب الدنيا بحسب ما معه من يقين، فيحقر ما يعظمه الغافلون ويفضل ما يدوم على ما يزول، فيحيى موقنا ويموت موقنا مطمئن القلب،قال تعالى:{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ﴿27﴾ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ﴿28﴾}[ سورة الفجر].
ألم يقل علماؤنا : بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ,نعم الصبر على طول الطريق وعدم استعجال النتائج:{ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[ الأعراف : 128] ، واليقين بموعود الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: ( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام وذلاً يذل به الكفر). اللهم أعز دينك وانصر أولياءك وصدق نبيك محمد صلى الله عليه وسلم . ----------------------- المصدر موقع دعوتها