المداومة على العمل الصالح
الناقل :
heba
| الكاتب الأصلى :
الشيخ سعد فضل
| المصدر :
www.muslema.com
بقلم: الشيخ سعد فضل
مضت علينا مواسم ربانية بأيامها ولياليها المباركة الميمونة، شاهدةً لنا أو علينا، فطوبى لمن كانت هذه الأيام شاهدةً له وشفيعةً، وويل لمن ذهبت وهي شاهدةٌ عليه- حجةً عليه- يوم القيامة.
السعيد من كانت هذه الأيام في ميزانه يوم القيامة؛ درجات وحسنات عند الله، والسعيد حقًّا من أُعتقت رقبتُه من النار، وويلٌ لامرئ مضت هذه الأيام وهذه النفحات عليه، ولكنه لم يستفِد منها شيئًا لقلبه وروحه ولم يتزوَّد بالمعاني الربانية والأخروية، والأخلاقية التي تكون قوةً وزادًا له في طريقه إلى الآخرة وإلى رضوان الله تعالى..
علامات للمقبولين وعلامات للمردودين
هناك علامات للمقبولين وعلامات للمردودين:
علامة المقبول أن يستمر في الطاعة بعد الطاعة، وعلامة المردود أن ينتكس بعد مواسم الخير والطاعة.
المقبول عند الله من ظلَّ رباطه مع الله موصولاً، لم يغلق باب الطاعة.. موصولاً بالمصحف يتلوه، موصولاً بالمسجد حريصًا على الجُمَع والجَماعات.
أما المردود المخذول فهو الذي تراه بعد مواسم الخير والطاعات قد انقطعت صلته بربه.. بالمصحف.. بالمسجد، وأصبح في وادٍ آخر، حتى الفرائض يكاد يتكاسل عنها!!.
ومن علامات قبول الطاعات أن تجد صدرَك منشرحًا بالمواصلة بعد هذه الأيام المباركة، وهذا من ثواب الحسنة ومن عاجل بشرى المؤمن.
والثواب ليس في الآخرة فقط! هناك ثواب للحسنات والطاعات؛ أن تحفِّزَك الطاعة إلى ما بعدها, وتدفعَك الحسنة إلى حسنة بعدها, ويدفعك الاهتداء إلى مزيدٍ منه, كما قال تعالى: ﴿وَيَزِيْدُ اللهُ الَّذِيْنَ اهْتَدَوا هُدًى..﴾ (مريم: من الآية 76)، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِيْنَ اهتَدَوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ (محمد: 17).
عواقب السيئات
أما السيئة، فمِن عواقبها أنها تضيف إليها سيئةً أخرى، والعياذ بالله, وأن يظل رصيدُك من السيئات يزداد حتى تزداد الظلمة على قلبك, وتزداد نُكت السواد على القلب حتى يمتلأ سوادًا وظلامًا، والعياذ بالله، وهذا هو الران الذي ذكره الله تعالى بقوله: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوْبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُوْنَ﴾ (المطففين: 14).
مداومة العمل الصالح
إن المداومة على العمل الصالح شعار المؤمنين.. بل ومن أحب القربات إلى الله رب العالمين، كما جاء في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: اكْلفوا من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل (صحيح) وكان إذا عمل عملاً أثبته؛ أي داوم عليه وواظب عليه، وكان صلى الله عليه وسلم إذا فاته شيءٌ من صلاة الليل لنوم أو مرض صلاّه من النهار اثنتي عشرة ركعة.
فضل المداومة على الطاعات
وإليكم أحبتي الكرام أهم الثمار والفضائل للمداومة على العمل الصالح الذي يُرضي المولى عز وجل:
أولاً: تكون سببًا لطهارة القلب من النفاق واتصاله بربه
والقلب هو الأصل كما قال أبو هريرة (رضي الله عنه): القلب ملك الأعضاء, والأعضاء جنوده, فإذا طاب الملك طابت جنوده, فبعلاج القلب يصلح البدن كله، وبفساده يفسد البدن كله، كما جاء في الصحيح: ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب.
ويقول الإمام ابن القيم- رحمه الله-: الأعمال تتفاضل عند الله بتفاضل ما في القلوب لا بكثرتها وصورها..، ولذا يقول المعصوم صلى الله عليه وسلم: إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم (صحيح).
فإذا استنار القلب بنور الإيمان أقبلت وفودُ الخيرات إليه من كل جانب، فينتقل صاحبه من طاعة إلى طاعة، ومن أعظم علامات صحة القلب وطهارته مداومة صاحبه على العمل الصالح مع شعوره بالتقصير وخوفه ألا يتقبَّل الله منه، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِيْنَ يُؤتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوْبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ (المؤمنون: 60).
ثانيًا: أنها سبب لمحبة الله لعبده
من ثمار المداومة على العمل الصالح فروضه ونوافله أنها تكون سببًا لمحبة الله لعبده؛ يقول عز وجل في الحديث القدسي الجليل: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ من أداء ما افترضته عليه, ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه, فإذا أحببتُه كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها, ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته، وإن استعاذ بي أعذته.
ثالثًا: أنها سبب للنجاة من المصائب والشدائد
ومن أعظم ثمار المداومة على العمل الصالح أنها سببٌ للنجاة من المصائب والشدائد, فمن حرص على العمل الصالح في وقت الرخاء ما تخلَّى الله عنه في وقت الشدة؛ فقد جاء في وصية النبي الغالية لابن عباس رضي الله عنهما: يا غلام، ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن فقال: بلى، فقال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، أو قال: أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة, إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله؛ فإن العباد لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا على ذلك, جفت الأقلام, وطويت الصحف (حسن).
رابعًا: أنها سبب لحسن الخاتمة والفوز بالجنة
يقول الحافظ بن كثير: لقد أجرى الكريم عادتَه بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعِثَ عليه، فلا يزال المؤمن يجاهد نفسه على طاعة الله حتى يختم له بحسن الخاتمة، قال تعالى: ﴿وَالَّذِيْنَ جَاهَدُوا فِيْنَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِيْنَ﴾ (العنكبوت: 69)، وقال سبحانه: ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِيْنَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِيْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِيْ الآخِرَةِ﴾ (إبراهيم: من الآية 27)، وفي الحديث الصحيح عن أنس أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: إذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله، قيل: وكيف يستعمله؟ قال: يوفقه إلى عمل صالح ثم يقبضه عليه (أحمد والترمذي).
أحبتي في الله : إذا وفقنا الله للعمل الصالح وداومْنا عليه قُبضنا عليه، وعلى نفس الطاعة نُبعث إن شاء الله عز وجل.
بشرى من الملائكة عند الموت
يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)﴾ (فصلت)، وهذه الآية بشرى للمؤمنين أصحاب النصح والولاء الذين قالوا ربنا الله، ثم استقاموا على الطريق إليه بالإيمان والعمل الصالح، يكلف الله بهم الملائكة، يفيضون على قلوبهم الأمن والطمأنينة، ويبشرونهم بالجنة، ويتولَّونهم في الحياة الدنيا والآخرة، والاستقامة على قول ربنا الله، والاستقامة عليها بحقوقها وحقيقتها- شعورًا في الضمير، وسلوكًا في الحياة، والصبر على تكاليفها- أمرٌ ولا شكَّ كبيرٌ وعسيرٌ، ومن ثم يستحق هذا الإنعام الكبير صحبة الملائكة، وولاءهم ومودتهم.
أسباب معينة على العمل الصالح
أولاً: الاستعانة بالله عز وجل
أن من أعانه الله فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول، فلنطلب العون من الله أن يسدِّدَنا ويوفقَنا ويعيننا على العمل الصالح الذي يُرضيه؛ عن معاذ بن جبل- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذه بيده وقال يا معاذ، إني والله لأٌحبك؛ فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك (صحيح)، فاطلبوا العون من الله أن يعينكم على العمل الصالح الذي يُرضيه.
ثانيًا: القصد والاعتدال
من الأسباب المعينة على المداومة على العمل الصالح القصد والاعتدال في الطاعات، بلا إفراط أو تفريط؛ فخير الأُمور الوسط، وقد حذَّر النبي- صلى الله عليه وسلم- من الغلوِّ والتشدُّد؛ لأن الإنسان لا يظهر عليه؛ فقد جاء عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال فيما رواه أبو هريرة إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة (صحيح).
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم دخل المسجد مرةً فرأى حبلاً ممدودًا بين ساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلَّقت به، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: لا.. حلُّوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد (صحيح).
ثالثًا: صحبة الأخيار
ومن الأسباب العظيمة أيضًا صحبة الأخيار، الذين يعينونك على الطاعة لله عز وجل؛ لأن الإنسان قد ينشط إذا رأى إخوانه من حوله على طاعة الله، فقد يشعر بالخجل من نفسه إذا رآهم في طاعة وهو مقصر، فاصطحِبوا الأخيار والأطهار وأهل الفضل والصلاح، الذين إذا رأيتموهم ذكَّرتكم رؤيتهم بالله عز وجل وبطاعته؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر (حسن).
فصاحِبوا مفاتيح الخير؛ ليفتح الله قلوبَكم لحبِّه وذكرِه، وانصرفوا عن مفاتيح الشر، الذين يغلقون قلوبكم عن طاعة الله وعن حبه وذكره.
نماذج مضيئة
تعالوا بنا أحبتي لنعيش في أسطر معدودة مع أنموذجين جليلين من أصحاب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لنتعرف كيف يبشر بعضهم بالجنة وهو لا يزال يعيش في هذه الحياة الدنيا؛ فهذا أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- فيما أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومًامن أصبح منكم اليوم صائمًا؟ قال أبو بكر: أنا، قال: مَن اتبع منكم اليوم جنازة؟ قال: أبو بكر: أنا، فقال: من عاد منكم اليوم مريضًا؟ قال أبو بكر: أنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في رجل إلا ودخل الجنة (صحيح).
وهذا بلال بن رباح، ذلكم العبد الحبشي الذي رفعه الإسلام إلى درجة عالية، حتى قال- صلى الله عليه وسلم- يومًا كما جاء في الحديث الصحيح يا بلال، حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام؛ فإني سمعت دُفَّ نعليك بين يديَّ في الجنة، فقال ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهَّر طهورًا في ساعة بالليل أو النهار إلا صليتُ بذلك الطهور، ما كُتِبَ لي أن أصلي.
فلنبذل كلَّ ما في وسعنا لنستثمر ما تقربنا به إلى الله في مواسم الطاعات الفائتة ولنجعلها بدايةً وانطلاقًا نحو الله والقرب منه والاستعانة به وليكن شعارنا: وعجلتُ إليك ربِّ لترضى.
إنها المداومة على الأعمال الصالحة التي تُرضي العليَّ الأعلى سبحانه وتعالى، جعلنا الله وإياكم من المحسنين المستقيمين على الصالحات، ومِمَّن يُبشَّرون عند الموت بجنة ورضوان ورب راضٍ غير غضبان، وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وصلى الله على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
---------
واعظ عام بالأزهر الشريف.