ما حكم من يمنعه والداه من القيام بالجهاد؟ وما الحكم فيمن يكلفه والداه بالزيادة عن حاجتهما وبما لا يطيقه من التكاليف المالية مع أنه يقوم بحاجتهما وهو ذو عيال؟ وما الحكم فيمن يأمره والداه بتطليق زوجته والإساءة إليها مع أنها تحسن إليه وإليهما؟ الشيخ الدكتور مصطفى الزرقا _ رحمه الله بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.. فإذا كان الله تعالى قد أمر بطاعة الوالدين فإن هذه الطاعة ليست طاعة عمياء ولكنها طاعة مبصرة فطاعتهما لا تكون إلا في المعروف، وعلى هذا فإذا لم يتعين الجهاد فلا يجوز الخروج دون إذنهما، وكذلك لا يجوز للزوج أن يطلق زوجته تلبية لرغبة الأبوين إذا لم يكن هناك مسوغ شرعي للطلاق، والواجب في النفقة عليهما هو سد حاجتهما وما عدا ذلك من النفقة فليس بواجب، بل إن شاء الولد أنفق وإن شاء أمسك، وهذا ما أفتى به فضيلة الدكتور مصطفى الزرقا -رحمه الله- أستاذ الشريعة بالجامعات السورية وإليك نص فتواه: قرر الإسلام للوالدين حقوقًا مادية ومعنوية وأوجب على الولد رعايتها واحترامها وحُسْن أدائها، وفي رأس حقوقهما المادية الإنفاق عليهما إذا احتاجا، وفي رأس حقوقهما المعنوية بره بهما في كل وجوه البر، واجتناب عقوقهما في كل وجوه العقوق. وإن بر الوالدين يتجلى في فعل ما يرضيهما ويسرهما، من طاعة لأوامرهما وتحقيق لرغائبهما في المعروف، وإن عقوقهما يتجلى فيما يؤذيهما أو ينغصهما من قول أو عمل، ويقول الفقهاء: إن الفعل السيئ يعتبر عقوقًا إذا كان من شأنه أن يؤلم الوالدين (كسوء الأدب معهما مثلاً)، وإن لم يؤلم الوالد الذي أساء ابنه الأدب معه لفرط محبته له وولوعه به، والإخلال ببر الوالدين درجات تبدأ من المخالفة اليسيرة إلى العقوق والإيذاء الذي هو أيضًا درجات متفاوتة. هذا.. ولكن الشريعة الإسلامية من أبرز مزاياها: أن تعاليمها تحفظ التوازن بين جميع الجهات الواجبة الاعتبار؛ فهي لا تقبل أن تطغى رعاية نوع من الحقوق والواجبات على رعاية نوع آخر منها، وميزان هذا قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحادثة المشهورة: إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولزوجك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه إلى نصوص أخرى كثيرة في الكتاب والسنة الثابتة؛ ففي ظل ذلك تُقيد طاعة الوالدين شرعًا بألا تكون في معصية لله تعالى؛ لقوله تعالى: (وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا) وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (رواه أحمد، وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح). فهناك نصوص عامة ينبسط سلطانها على جميع آفاق الحقوق والواجبات فتضع لها حدودًا ملحوظة تحفظ التوازن، والشرع حقوق وواجبات متقابلة، فكما أوجب على الولد بر والديه أوجب عليهما تسهيل هذا البر عليه وعدم إرهاقه فيه. بعد هذا الإيضاح للأصول أقول: 1 - في الخروج إلى الجهاد: إذا أراد الولد الخروج، وكان هناك من سواه من يغني عنه ويسد مسده، ووالداه أو أحدهما في حاجة إليه لا ينبغي له أن يخرج ويتركهما، فبقاؤه معهما من الجهاد؛ لأن الجهاد يستدعي تخليف بعض المكلفين في البلد والأهل، وعلى هذا يحمل قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ففيهما فجاهد رواه البخاري ومسلم والنسائي، أما إذا أصبح الجهاد في بعض الأحوال واجبًا عينيًا عليه لعدم وجود من يسدُّ مسدَّه، فليس خروجه عندئذ عقوقًا ولا منافياً للبر وإن لم يأذنا له. 2- والذي يعطي أبويه كفايتهما من النفقة ومتطلبات الحياة فقد أدى واجبه شرعًا، وإن تطلبا شططًا وإسرافًا فوق الحاجة المعروفة فليس ذلك واجبًا عليه، وإن أراد أن يتطوع بالزيادة فذلك إليه ما لم يكن ذلك على حساب واجبات مالية أخرى عليه. أما قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: أنت ومالك لأبيك (رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه) فليس معناه التمليك في نظر الفقهاء، بل هو للتنبيه إلى مبلغ حقوقهما، وأن ما جناه من مال إنما هو بفضل تربيتهما له حتى أصبح كبيرًا قادرًا مكتسبًا، فعليه أن يمتعهما بماله بسخاء. 3- إذا كانت الزوجة تعامل والدَيْ زوجها معاملة حسنة، وهما يكرهانها ويطلبان إليه تطليقها دون ذنب منها أو إساءة فليس عليه طاعتهما، لأن هذا منهما شطط وإساءة وعدوان، فلا تجب عليه طاعتهما فيه، وما روي من بعض حوادث تاريخية في صدر الإسلام بخلاف ذلك له تأويل آخر. هذا.. وفي كل موطن لا يكلف الولد فيه بطاعة والديه في معصية لا يجوز له إلا الرفض برفق وحكمة دون إساءة لهما بالقول، لأن المقصود يتحقق بعدم المجاراة لهما في معصية وعدوان، ولقول الله سبحانه في تتمة الآية السالفة الذكر: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. والله أعلم. نقلا عن إسلام أون لاين.