الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، أنزله بأفصح لسان، وأودع في آيه غرر البلاغة ودرر البيان، تحدى به قوماً ملكوا ناصية الفصاحة وفنون الكلام، فبهرتهم نغماته ومداته، حركاته وسكناته، سلاسة ألفاظه، وإحكام أساليبه حتى قال قائلهم: ( والله إن للقول الذي يقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته)[1]. وحُقّ للوليد بن المغيرة أن يقول ذاك، فهو يتحدث عن ( كتاب الله الذي فيه نبأ من قبلنا، وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين، ونوره المبين، وصراطه المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأفئدة ولا تضل به الأهواء، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يخلق على كثرة الرد، لا يشبع منه العلماء ولا يملّه الأتقياء، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته إلا أن قالوا { إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً } من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم )[2] قراءته لا تزيد القارئ إلا حلاوة، وترديده لا يزيد القارئ إلا محبّة، ولا يزال غضّاً طريّاً، وغيره من الكلام – ولو بلغ في الحسن والبلاغة مبلغه – يُملّ من الترديد، ويُعادى إذا أُعيد، لأن إعادة الحديث على القلب أثقل من الحديد، كما قال السيوطي رحمه الله تعالى.[3] وسيظل كتاب الله غضّاً طريّاً، وبحراً زاخراً باللؤلؤ والدر والمرجان، رحب المدى، عميق الأغوار لكنه مشرع الأبواب مهما قرأه القارئ وأعاده فسيظفر في كل مرة منه بعجائب من عجائبه التي لا تنقضي، فهذا سهل بن عبد الله يقول: (( لو أعطي العبد بكل حرف من القرآن ألف فهم لم يبلغ نهاية ما أودع الله في آية من كتابه، وإنما يفهم كل بمقدار ما يفتح الله على قلبه )) [4] ولذلك أصبح القرآن الكريم – ومازال – يشكّل بؤرة اهتمام العلماء المسلمين، فقد شُغل به العلماء – كلٌ في مجال اهتمامه – بحثاً وتأمّلاً. فظهرت نتيجة ذلك علومٌ كثيرةٌ، ارتبطت بالقرآن الكريم كعلم الفقه، وعلم الأصول، وعلم التفسير، وعلم البلاغة، وعلم النحو، وعلم الإعجاز، وغيرها من العلوم. كل علم من هذه العلوم يركّز على جانب معيّن من جوانب هذا الكتاب العظيم، فالفقه يهتمّ ببيان الأحكام الواردة فيه، والتفسير يهتمّ ببيان معانيه، والنحو يهتمّ بإعراب كلماته وجمله للكشف عن أوجه المعاني وقراءة آياته خالية من اللحن، وهكذا دواليك. ومن هذه العلوم التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالقرآن، ووضعت لأجله، قاصرة طرفها عليه، علم التجويد، الذي يعني تجويد القراءة وتحسينها لهذا القرآن المعجز، وذلك بإعطاء كل حرف من حروفه حقّه ومستحقّه من مخرجه وصفته اللازمة له.[5] لقد مثّل علم التجويد وصفاً دقيقاً لتلك الأحكام والقواعد التي يجب اتباعها عند قراءة هذا النص القرآني. وقد اهتمّ علماء التجويد بأصوات القرآن الكريم، وما يحدث لها داخل النص القرآني، فجاءت مباحثه لتدرس: 1- أحكام النون الساكنة والتنوين. 2- أحكام الميم الساكنة. 3- أحكام المدود. 4- مخارج الحروف وصفاتها. وغيرها من الأحكام المتعلّقة بأصوات القرآن الكريم وحروفه، هذه الأحكام والقواعد تصف لنا كيف نقرأ كتاب ربنا كما أنزله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكما قرأه صلى الله عليه وسلم على صحابته الكرام، وكما أقرأه أصحابه الكرام لتابعيهم إلى أن وصل إلينا محفوظاً بالسند الصحيح مبرّأ من كل عيب ولحن. ومن هنا يمكننا القول بأن الصوت القرآني قد وجد حظّه من الاهتمام، متمثّلاً في هذا التراث الضخم الذي بين أيدينا من مؤلّفات علم التجويد ومدوناته. لكن ما علاقة ما قدمنا بما نحن بصدده من بيان الإعجاز البياني في الصوت القرآني ؟ إن غرضي من هذا الكلام هو أن أتوصّل إلى أن هناك قواعد وضعها لنا القدماء للسير عليها والاستهداء بها في فهم النص القرآني، فما علينا إلا أن نتنبّه لها وننعم النظر فيها، لننطلق منها ونكمل المسير. وهذا هو ما سأفعله – إن شاء الله – وأنا أحاول قراءة النص القرآني، وذلك من خلال محاولة الكشف عما إذا كان هناك علاقة بين هذه الأحكام التجويدية والمعنى العام في النص. والأمر هنا من الوعورة والمشقّة بمكان، غير أننا إن أطلنا النظر ولاطفناه، وتركنا الضجر وتحاميناه، لم نكد نعدم قرب بعض من بعض. وقد تأمّلت فيه مليّاً، وأخذت نفسي بتسجيل ما يخطر لي منه، ثم هممت أن أتركه، خوفاً من أن أقول في القرآن ما ليس فيه، إذ لم أجد معيناً فيه من قول أستند عليه، إلا أن الله قوّى النية وشدّ الهمة، ويسّر الأمر. وأزعم أن هذا بحث قد يكون جديداً في موضوعه، أو أصيلاً في نتائجه ولا أدعي ذلك كوني صاحب هذا البحث، أو كاتب فصوله المتواضعة، ولمن طرافة موضوعه، وجدّة مباحثه ساقت لمثل هذا الادعاء، وهذه إشارات وتلويحات، وإنما سينجلي الأمر منها ويبين إذا تكلّم في التفاصيل، وأفرد كل مبحث بالتمثيل. وهذا ما سنراه بإذن الله الذي إليه الرغبة في أن نوفّق للبلوغ إليه والتوفّر عليه. أولاً: أحكام النون والميم الساكنتين والتنوين وعلاقتها بالمعنى: أقدّم بين يدي هذا المبحث تعريفاً بالنون والميم الساكنتين والتنوين وأحاكمهما، كما جاء ذلك في كتب التجويد[6]: فالنون الساكنة: هي النون التي تكون ساكنة في الوقف والوصل، مثل ( أنْ – أنْتم – منْكم – ينْغضون ) والميم الساكنة: هي الميم التي تكون ساكنة في الوقف والوصل مثل: ( لكمْ – عليكمْ ) والتنوين: هو نون ساكنة تلحق آخر الاسم تلفظ ولا تكتب. ويكون على ثلاثة أشكال: إما ضمتان أو فتحتان أو كسرتان، مثل: ( علمٌ، علماً، علمٍ ) وللنون الساكنة والتنوين عند التقائهما أحد حروف الهجاء أربعة أحكام هي: 1- الإظهار: ومعناه لغة: البيان والوضوح. واصطلاحاً: هو إخراج الحرف من مخرجه من غير غنّة في الحرف المظهر. وحروفه ستّة مجموعة في أول حرف من كلمات: أخي هاك علماً حازه غير خاسر، وهي: الهمزة والهاء والعين والحاء والغين والخاء. 2- الإدغام: معناه في اللغة: إدخال الشيء في الشيء وفي الاصطلاح: التقاء حرف ساكن بحرف متحرك حتى يصير الحرفان حرفاً واحداً مشدّداً من جنس الثاني. وحروفه ستة مجموعة في قولك: يرملون. 3- الإخفاء: معناه في اللغة الستر وفي الاصطلاح: هو النطق بالحرف على حالة متوسّطة ما بين الإظهار والإدغام خالياً من التشديد مع مراعاة الغنة في الحرف الأول. وحروفه خمسة عشر حرفاً، مجموعة في أول حروف كلمات بيت الشعر: صف ذا ثنا كم جاد شخص قد سما دم طيباً زد في تقى ضع ظالماً 4- الإقلاب: معناه في اللغة: تحويل الشيء عن وجهه. وفي الاصطلاح: قلب النون الساكنة أو التنوين ميماً مصحوبة بغنّة عند الباء، وحرفه واحد هو الباء. أما الميم الساكنة فلها عند التقائها بحروف الهجاء، ثلاثة أحكام: 1- الإظهار الشفوي: ويكون مع جميع حروف الهجاء عدا الميم والباء، لكنه يكون أشد إظهاراً عند الواو والفاء، وذلك خشية الالتباس، أو سقوط حرف منها، لأنها من مخرج واحد هو الشفتان. 2- الإدغام الشفوي: ويطلق عليه إدغام متماثل بغنّة، وهو إذا جاءت الميم الساكنة وبعدها ميم أخرى متحرّكة، فعند ذلك يكون الإدغام بين الميم الأولى والثانية. 3- الإخفاء الشفوي: ويكون الإخفاء عند حرف الباء فقط، ويكون مع غنّة. إذاً هذا أمر قدّمناه ليُرى منه الأحكام والقواعد التي ننطلق منها لمعرفة وجه العلاقة بين هذه الأحكام من جهة والمعنى من جهة أخرى وهذا أوانه إن شاء الله. علاقة الإظهار بالمعنى: لبيان علاقة الإظهار – الذي يعني البيان والوضوح – بالمعنى، سنحتاج لسرد الآيات التي ورد فيها حكم الإظهار، ثم ننظر في معنى هذه الآية معتمدين في ذلك على كتب التفاسير – في حال توافر دلالة تشير إلى ذلك – أو الفهم العام لمعنى الآية بما لا يمثل ليّاً لعنق الآية، أو تعسّفاً في التأويل، أو تقوّلاً على القرآن بما ليس فيه، فإننا نعوذ بالله أن نقول في القرآن ما ليس فيه، بل نجتهد في إبراز سر من أسراره الدائمة والمستمرّة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، فإن أسراره ومعجزاته ما تزال تتكشف لنا يوماً بعد يوم. آيات الإظهار: 1- قال الله تعالى حاكياً ما قاله رسله لأقوامهم كل على حده: { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره }[7] لاحظ الإظهار في موضعين: أ- نون ساكنة بعدها همز في: منْ إله ب-تنوين بعده غين في: إلهٍ غيره معنى الآية ( ما لكم من إله غيره ) أي ليس لكم رب سواه [8] والجملة بيان للعبادة التي أمرهم بها، أي أفردوه بالعبادة دون غيره، إذ ليس غيره لكم بإله[9]. ألا ترى أن معنى الآية واضح كل الوضوح، بيّن كل البيان، شواهده أكثر من أن تعدّ وتحصى، فكل ما في الكون يدلّ بجلاء على أنه ليس لنا من إله غيره سبحانه. فإن له في كل شيء آية تدلّ على أنه واحد { ولو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا } فظهور المعنى تناسب مع الإظهار كما ترى. 2- ومنها قول الله سبحانه على لسان نوح عليه السلام لقومه: { إنّي أخاف عليكم عذاب يوم عظيم }[10] الإظهار في موضعين: أ- ميم ساكنة بعدها عين في عليكمْ عذاب ب-تنوين بعده عين في يومٍ عظيم معنى الآية إعلان نوح عليه السلام لقومه أنه يخاف عليهم عذاب يوم القيامة، أو يوم الطوفان كما ذكر المفسّرون[11]. وهذا الأمر واضح ظاهر، فلأنه يخاف عليهم عذاب يوم عظيم فقد قام بإنذارهم وتبليغهم، ثم الأمر واضح وظاهر أيضاً أنه كان يوماً عظيماً هو يوم الطوفان، فإن كان المقصود يوم القيامة فعظم ذلك اليوم أشد وضوحاً. ونحو ذلك قول هود عليه السلام لقومه: { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم }[12] ومثله قول نوح عليه السلام: { إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم }[13] وكذا قول صالح عليه السلام: { فيأخذكم عذاب أليم }[14] وقوله عليه السلام في الشعراء: { فيأخذكم عذاب يوم عظيم }[15] فكل ما سبق ورد فيه إظهارات، والمعنى ظاهر بيّن ما ترى. يقول الزمخشري: ( وصف اليوم بأليم من الإسناد المجازي لوقوع الألم فيه، فإن قلت: فإذا وصف به العذاب ؟ قلت: مجازي مثله لأن الأليم في الحقيقة هو المعذب )[16] ويقول ابن عاشور: ( وصف اليوم بالأليم مجاز عقلي، وهو أبلغ من أن يوصف العذاب بالأليم، لأن شدة العذاب لما بلغت الغاية جعل زمانه أليماً أي مؤلماً ) [17] ألا ترى أنه جاء بوصف أليم لزيادة إيضاح شدة الألم، فالأصل أن يكون السياق ( يوم مؤلم ) لكن هذا التناسب العجيب بحاجة إلى فضل تأمل. ومن شواهد العلاقة: 3- ومنها قوله تعالى: { وسع ربنا كل شيء علماً } [18] الإظهار في تنوين بعده عين في ( شيءٍ علماً ) قال الزمخشري: ( أي هو عالم بكل شيء مما كان وما يكون ) [19] وقال الشوكاني: ( أي أحاط علمه بكل المعلومات فلا يخرج عنه منها شيء )[20] فمعنى إحاطة الله بكل شيء علماً ظاهر، وسعة علم الله واضحة بيّنة لكل من تأمل ذلك. ثم ألا ترى تضافر القرائن المتعددة لإظهار هذا المعنى وزيادة بيانه. يقول ابن عاشور: ( وإعادة وصف الربوبية إظهار في مقام الإضمار لزيادة إظهار وصفه بالربوبية )[21] فإظهار وصف الربوبية في مقام حقّه الإضمار، ثم استخدام لفظ ( وسع ) الذي يفيد الإحاطة بكل شي، ثم تنكير لفظ ( شيء ) ليفيد العموم. هذه لطائف متعددة بسط الحديث عنها في بابه إن شاء الله، لكن تضافرها مع الإظهار لجعل الأمر ظاهراً للعيان مما لا شك فيه، فالإظهار ناسب ظهور المعنى، ومثلها آية سورة الأنعام. 4- ومنها قوله سبحانه وتعالى على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام: { ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله }[22]. ونظيره قول بقية الأنبياء لأقوامهم [23]. والإظهار في: أ- ميم ساكنة بعدها عين في أسألكمْ عليه ب-تنوين بعده همز في مالاً إن ت-نون ساكنة بعدها همز في إنْ أجري وهنا نلحظ تضافر الإظهار بأنواعه الثلاث: الميم الساكنة والتنوين والنون الساكنة، في هذه الآية الظاهر معناها ظهور الشمس في رابعة النهار. فالأنبياء جميعاً يظهرون ويوضّحون ويبيّنون لأقوامهم أنهم صادقون فيما يدعونهم إليه، وأنهم لا يبغون من وراء دعوتهم نفعاً قريباً أو مصلحة دنيوية، ولذلك جاؤوا بدليل ظاهر على ذلك، هو أنهم لا يسألون على دعوتهم هذه أجراً، وإنما ينتظرون الأجر والمثوبة من الله عز وجل. فالمعنى ظاهر جاء الإظهار بأنواعه الثلاثة ليظهره من جميع جوانبه فلا تبقى هناك أي مسألة خفيّة، أو تداخل في المفاهيم. والله أعلى وأعلم. 5- ومنها كذلك قول الحق سبحانه: { ما من دابّة إلّا هو آخذ بناصيتها }[24] الإظهار عند التنوين بعده همز في دابةٍ إلا. والمعنى هو بيان أن الله هو المالك القاهر لجميع ما يدبّ في الأرض، فكونه مالكاً للكل يقتضي أن لا يفوته أحد منهم، وكونه قاهراً لهم يقتضي أن يعجزه أحد منهم، فما من دابّة إلا هو متصرّف فيها وهو مالكها وقاهرها فلا نفع ولا ضرر إلا بإذنه.[25] 6- ومنها قوله سبحانه: { ويستخلف ربي قوماً غيركم ولا تضرّونه شيئاً }[26] الإظهار في: أ- تنوين بعده غين في ( قوماً غيركم ) ب-أشد إظهاراً عند الميم الساكنة بعدها واو ( غيركم ولا تضرّونه ) والمعنى الذي يريد هود عليه السلام إيصاله لقومه هو أنكم إن تولّيتم فإن ربي سوف يستخلف قوماً غيركم وأنتم مع ذلك لا تضرّونه في شيء مهما صغر هذا الشيء. وهذه مسألة واضحة فهم يعلمون ما حصل لقوم نوح، وأن الله استخلفهم في الأرض من بعدهم. ثم إن المخاطبين بهذا القرآن – ونحن منهم – نعلم أن القوم الذين يتولّون يستبدل الله قوماً غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم. أما المسألة الأشد ظهوراً والتي تتناسب مع الإظهار الأشد فهي أن هؤلاء القوم ومن بعدهم ومن في الكون جميعاً لا يملكون ضر الله عز وجل ولا منفعته [27]. وهذا بيّن واضح. 7- ومن الشواهد أيضاً قوله سبحانه وتعالى: { يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربي ورزقني منه رزقاً حسناً وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت }[28] الإظهار في هذه الآية في غير ما موضع: أ- نون ساكنة بعدها هاء في: منْه ب-تنوين بعده حاء في: رزقاً حسناً ت-نون ساكنة بعدها همز في: أنْ أخالفكم ث-ميم ساكنة بعده همز في: أخالفكمْ إلى ج- نون ساكنة بعدها هاء في: أنْهاكم ح- ميم ساكنة بعدها عين في: أنهاكمْ عنه خ- نون ساكنة بعدها هاء في: عنْه د- نون ساكنة بعدها همز في: إنْ أريد إظهارات متوالية لمعانٍ ظاهراتٍ. فالرزق من الله ليس من غيره، وهو حسن فالنبوة بلا شك رزق حسن، وواضح أن شعيباً لا يريد أن يخالف قومه في الأشياء التي نهاهم عنها، وما نهاهم عنه أشياء ظاهرة للعيان من بخس وتطفيف، فالظاهر أنه يردي الإصلاح قدر استطاعته. إنها معان ظاهرة جليّة تناسب معها هذه الإظهارات كما ترى. فدلّ هذا وغيره مما يطول تعداده على أن هنالك علاقة بين الإظهار بوصفه حكماً تجويدياً من جهة، والمعنى العام للآية من جهة أخرى. والموضوع مما يسترسل فيه، ولكن الباب واحد والمسائل كثيرة، ولو التزمت الاستكثار لطال المبحث، والإيجاز أولى وأجدر. علاقة الإدغام بالمعنى: نذكر بدءاً بأن معنى الإدغام هو: إدخال الشيء في الشيء. وآيات الإدغام هي: 1- قول قوم نوح لنوح عليه السلام: { إنا لنراك في ضلال مبين }[29] الإدغام في موضع واحد: التنوين بعده ميم في ضلالٍ مبين. ومعنى الآية: أنهم أدخلوا نوحاً عليه السلام في الضلال، وأن هذا الضلال متمكّن منه، وزاد حرف ( في ) الذي يفيد الظرفية المعنى إحاطة. يقول ابن عاشور: ( وظرفية [ في ضلال ] مجازية تعبيراً عن تمكّن وصف الضلال منه حتى كأنّه محيط به من جوانبه إحاطة الظرف بالمظروف ) [30] فإدخال نوح في الضلال كإدخال الظرف في المظروف، وهل الإدغام إلا إدخال الشيء في الشيء. 2- قول نوح عليه السلام راداً على قومه: { يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين }[31] الإدغام في: أ- تنوين بعده واو في: ضلالةٌ ولكنّي ب-تنوين بعده ميم في: رسولٌ من ت-نون ساكنة بعدها راء في: منْ رب معنى الآية: نفى عن نفسه الضلالة وإثبات أنه رسول من رب العالمين، فهل هناك علاقة للإدغام ؟ يقول النسفي: ( الاستدراك لتأكيد نفي الضلالة لأن كونه رسولاً من الله مبلّغاً لرسالاته في معنى كونه على الصراط المستقيم، فكان الغاية القصوى من الهدى )[32] ألا ترى تداخل معنى الجملتين مع بعضهما لإفادة أنه رسول م الله، فكونه ليس به ضلالة فهو إذاً رسول، وكونه رسول إذاً ليس به ضلال، فهذا تداخل في المعنى أحسبه يتناسب مع الإدغام الأول. أما الإدغامان الآخران في ( رسولٌ من رب العالمين ) فيقول ابن عاشور: ( واختيار طريق الإضافة في تعريف المرسل، لما تؤذن به من تفخيم المضاف ومن وجوب طاعته على جميع الناس تعريضاً بقومه إذا عصوه )[33] فهذا الإدغام أدخل طاعة الرسول في طاعة الله، لأن من أطاع الرسول فقد أطاع الله، ومن يعص الرسول فقد عصى الله. ومثلها قول هود عليه السلام في الرد على قومه: { يا قوم ليس به سفاهة ولكني رسول من رب العالمين }[34] هذه الإدغامات المتتالية تدخل أجزاء الآية في بعضها بعضاً، لتحدث نوعاً من تداخل المعنى، وكأن المعنى ليس به سفاهة لأني رسول، ولأني رسول فأنا مرسل من رب العالمين، أو أنا مرسل من رب العالمين فأنا رسوله هو، ولأني رسوله فأنا على هدى، ولأني على هدى فليس بي ضلالة. 3- ومثلها قول نوح عليه السلام لقومه: { أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم }[35] الإدغام في مواضع ثلاثة: أ- تنوين بعده ميم في ( ذكرٌ من ) ب- نون ساكنة بعدها راء في ( منْ ربكم ) ت- تنوين بعده ميمي في ( رجلٍ منكم ) إن إضافة الذكر إلى الله سبحانه وتعالى يحدث نوعاً من الترابط بين الذكر والرب، فهو ذكر موصول بالله وليس من أحد غيره. فهناك علاقة تداخل واتصال كتداخل الكلمات مع بعضها البعض. وعلى رجل منكم أي من جنسكم فهو واحد منكم داخل في جنسكم فأدخل نفسه معهم فهو ليس بغريب عنهم ولا خافٍ حاله عليهم، ونظيرتها ما ورد عن هود عليه السلام [36]. 4- ونظير ذلك أيضاً قول نوح عليه السلام: { أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربّي }[37]. وقول صالح عليه السلام [38] وقول شعيب عليه السلام [39]. فالإدغام في: أ- تنوين بعده ميم في: بيّنةٍ من ب-نون ساكنة بعدها راء في: منْ ربي والمعنى فيهنّ هو المعنى في ( ذكر من ربكم ) فالبيّنة مرتبطة بالله سبحانه وتعالى. ونظيرها قول صالح عليه السلام، وقول شعيب عليه السلام في سورة الأعراف { قد جاءتكم بيّنة من ربكم } { بينة من ربي } { رسول من رب العالمين } 5- ومنها قول قوم هود لهود عليه السلام: { إنّا لنراك في سفاهة وإنّا لنظنّك من الكاذبين }[40] الإدغام في التنوين بعده واو في ( سفاهةٍ وإنا ). ألا ترى أنهم عطفوا الجملة الثانية على الأولى فأدخلوها في حكمها، وجعلوا ظنهم في أنه من الكاذبين متداخل مع رؤيتهم القلبية أنه في سفاهة، إنه تداخل فيما بين معنى الآيتين، فتأمّل ذلك. 6- وفي قول هود عليه السلام: { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق }[41] الإدغام هنا تنوين بعده واو في ( نوحٍ وزادكم ). إن نعم الله على قوم عاد كثيرة، فأراد هود عليه السلام أن يذكّرهم بهذه النعم المتداخلة والمترابطة، فالله عز وجل جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح، وزادهم في الخلق بصطة، فهي نعم متداخلة مترابطة، فكان هذا التداخل متناسباً مع الإدغام الموجود في الآية. 7- ومن ذلك قول هود عليه السلام لقومه: { قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب } [42] الإدغام هنا في ثلاثة مواضع: أ- ميم ساكنة بعدها ميم فهو إدغام متماثل في ( عليكمْ من ) ب-نون ساكنة بعدها راء في ( منْ ربكم ) ت-تنوين بعده واو في ( رجسٌ وغضب ) يقول الأشقر: ( أي قد استحققتم عذاب الله وغضبه فهو واقع بكم لا محالة، جعل ما هو متوقّع كالواقع )[43] أي أن الرجس والغضب قد حصل عليهم، فأصبحوا داخلين في غضب الله وعذابه، وأن هذا الغضب والعذاب قد وقع بهم وأحاطهم من كل جانب، فهم غير منفكّين منه ولا مفلتين. 8- ومنها قوله سبحانه وتعالى: { يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم }[44] الإدغام في موضعين: أ- ميم ساكنة بعدها ميم في ( عليكمْ مدراراً ) ب-تنوين بعده واو في ( مدراراً ويزدكم ) إن نعم الله كثيرة وهي مترابطة متداخلة مع بعضها، فإرسال السماء بالمطر الكثير المدرار يؤدي إلى زيادة خصوبة الأرض المؤدي إلى زيادة النعم، فهو تداخل عجيب لمن تأمّله. هذا وإن استقصاء القول في هذا الضرب والبحث عن أسراره صعب وعر، ولذلك فإني أقتصر على القدر المذكور. علاقة الإخفاء بالمعنى: من المناسب أن نذكر بأن معنى الإخفاء هو الستر. آيات الإخفاء: 1- قوله سبحانه وتعالى: { أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم }[45] الإخفاء في ثلاثة مواضع: أ- نون ساكنة بعدها جيم في ( أنْ جاءكم ) ب-نون ساكنة بعدها كاف في ( منْكم ) ت-نون ساكنة بعدها ذال في ( لينْذركم ) معنى الآية: يذكر نوح عليه السلام الأمور التي يتعجّب منها قومه وينكرونها، وهي مجيء ذكر من الله، ثم أن يأتي هذا الذكر على رجل منهم، ثم إنذار هذا الرجل لهم. يقول الفخر الرازي: ( أنهم استبعدوا أن يكون لله رسول إلى خلقه، لأجل أنهم اعتقدوا أن المقصود من الإرسال هو التكليف، والتكليف لا منفعة فيه للمعبود كونه متعالياً على النفع والضر، ولا منفعة فيه للعابد. ثم وإن جوّزوا التكليف إلا أنهم قالوا: ما علم حسنه بالعقل فعلناه وما علم قبحه تركناه، ولما كان رسول العقل كافياً فلا حاجة إلى بعثة رسول آخر. ثم إذا كان لابد من الرسول فإن إرسال الملائكة أولى، لأن مهابتهم أشد وطهارتهم أكمل، فهذه الوجوه التي لأجلها أنكر الكفار رسالة رجل معين )[46] ألا ترى أن الإخفاء جاء في المعاني التي خفت على القوم، فعلى مجيء الذكر من الله خافية عليهم، ثم علّة أن يأتي هذا الذكر على رجل منهم خافية عليهم أيضاً، ثم علّة إنذارهم لهم خافية عنهم كذلك فتأمّل ذلك تجده كما ذكرت. ومثلها قول هود عليه السلام لقومه [47]. 2- قوله سبحانه وتعالى: { أتجادلونني في أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم }[48] الإخفاء هنا في: أ- تنوين بعده سين في ( أسماءٍ سميتموها ) ب-نون ساكنة بعدها تاء في ( أنْتم ) إن من يعبد أصناماً من دون الله يعد كافراً، والكفر: التغطية والستر. قال ابن منظور: ( كفر الشيء: غطاه وستره )[49] فكأنّ عبادة هذه الأصنام ( غطّت على القلب بزيادة الكفر )[50] فأخفته وسترته. أخفاه وستره عن رؤية الحقيقة وهي بطلان عبادته وخفاء مشروعيّتها، فالخفاء ناسب الإخفاء. 3- ومنها قوله تعالى على لسان شعيب عليه السلام: { وما قوم لوطٍ منكم ببعيد }[51] الإخفاء في موضعين: أ- نون ساكنة بعدها كاف في ( منْكم ) ب-ميم ساكنة بعدها باء في ( منكم ببعيد ) يقول المفسّرون في معنى الآية: إن شعيباً عليه السلام أراد تذكير قومه بما حدث لقوم لوط الذين كانوا قريبين منهم، لكنه لم يحدد وجه القرب،هل هو قرب مكاني أو زماني أو عملي [52] أي أن وجه التقارب خفي، فلا ندري هل القرب مقصود هو قرب مكانهم منهم، أو قرب زمانهم، أو قرب أعمالهم من بعضهم من حيث كفرهم بالله والتعدي على حقوق الناس وأعراضهم. ثم لعلّ هنالك معنىً آخر في من خلال النظر في الآية حيث نجد أن شعيباً عليه السلام ذكر قوم نوح وقوم هود وقوم صالح في قوله: { ويا قوم لا يجرمنّكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح }[53] وهنا مواطن إظهار في جميعها، فلما وصل إلى قوم لوط جاء الإخفاء { وما قوم لوط منكم ببعيد } وعلّة ذلك – فيما أعتقد – هو ظهور آثار ما حل بقوم نوح وقوم هود وقوم صالح، بينما اختفت آثار قوم لوط، لأننا نعلم أن الله جعل عليهم الأرض عاليها سافلها، أي أخفاهم وأخفى آثارهم من على وجه الأرض، والله أعلم. 4- قوله سبحانه وتعالى: { واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثّركم }[54] الإخفاء في التنوين بعد فاء في ( قليلاً فكثركم ) أي قلّة يقصد ؟ هل قلّة العدد ؟ أم قلّة المال ؟ أم قلة النسل ؟ قيل: ( قليلاً عددكم )[55]. وقيل: ( كنتم فقراء فأغناكم )[56]، وقيل: ( تيسير قوّة التناسل ). إذاً نوع القلّة خافية هنا. ثم إنّ القلّة في العدد أو المال تجعل الإنسان يتخفّى من الظهور، أو أنه يكون خافياً عن الأنظار لا يؤبه له، أما كثير المال كثير العدد فإنه لا يكون خافياً بل ظاهراً معروفاً. 5- وقوله تعالى على لسان هود عليه السلام لقومه: { أتبنون بكل ريع آية تعبثون }[57] الإخفاء في التنوين بعده تاء في ( آيةٍ تعبثون ). لقد كان قوم هود عليه السلام يبنون في كل مكان مرتفع علماً، لا لغرض السكنى ولا لغرض الاستهداء به، وإنما عبثاً منهم يبنونها. فعلّة بناء هذه الآيات والعلامات المرتفعة خافية، والغرض منها غير معروف. هذه شواهد جمعناها لنبرهن على أن هناك علاقة بين الإخفاء بوصفه حكماً تجويدياً يختصّ بأصوات القرآن، وبين المعنى العام للآية. إلا أن الأمر لايزال خاضعاً للبحث والدراسة والتأمل. علاقة الإقلاب بالمعنى: نجد أنه من اللطيف قبل عرض آيات الإقلاب التذكير بأن معنى الإقلاب هو تحويل الشيء عن وجهه. آيات الإقلاب: 1- قوله سبحانه وتعالى: { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح... }[58] الإقلاب في موضع النون الساكنة بعدها باء في ( منْ بعد ) معنى الآية: قال الزمخشري: ( أي خلفتموهم في الأرض أو جعلكم ملوكاً في الأرض قد استخلفكم فيها بعدهم )[59] ويقول ابن عاشور: ( الخلفاء جمع خليفة وهو الذي يخلف غيره في شيء، أي يتولّى عمل ما كان يعمله الآخر. وعلم أن المقصود أنهم خلفاء قوم نوح )[60]. ألا ترى معي أن ورقة قوم نوح قد طُويت وقلبت وتحول القوم عما كانوا فيه، وجاء بعدهم قوم هودٍ عليه السلام ليعمروا الأرض من خلفهم. فأعتقد أن هذا الإقلاب الذي في الآية يناسب الإقلاب الذي حدث لقوم نوح. 2- نظيرتها قوله تعالى: { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم عاد }[61] فالإقلاب في موضع النون الساكنة بعدها باء في ( من بعد ) ومعنى الآية هنا هو معنى الآية هناك، والقول فيها هو هو. 3- ومن الشواهد قوله تعالى: { وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنّكم كاذبين }[62] الإقلاب في التنوين بعده باء في ( فضلٍ بل ) لقد قالوا له إنك بشر مثلها وأتبعك أراذلنا وليس لكم فضل، كل ذلك ليطعنوا في رسالته وفي صدق ما يدعيه، ثم أضربوا عن ذلك، وحولوا الأمر عن حقيقته، وانتقلوا إلى ظنهم المجرد عن الحقيقة باتهامه بالكذب هو وأتباعه. إنه تحويلٌ للكلام عن وجهه، وهو قلبٌ للحقائق وتحويل الصادق إلى كاذب. قال الشوكاني: ( خاطبوه منفرداً ثم خاطبوه مع متبعيه، أي ما نرى لك ولمن اتبعك من الأراذل علينا من فضل تتميزون به وتستحقون ما تدّعونه، ثم أضربوا عن الثلاثة مطاعن، وانتقلوا إلى ظنهم المجرّد عن البرهان الذي لا مستند له إلا مجرّد العصبية والحسد واستبقاء ما هم فيه من الرياسة الدنيوية )[63] 4- وقول قوم نوح لنوح عليه السلام: { إن هو إلّا رجلٌ به جِنّة }[64] الإقلاب في التنوين بعده باء في: ( رجلٌ به ) والمعنى اتهام القوم لنوحٍ عليه السلام بالجنون، لأنهم يرون منه ويسمعون ما يظنونه خارج نطاق العقل، فهو يحول الأمور عما هي عليه ولا يدري ما يقول [65]. ثم إن هذا قلب واضح لحقيقة نوح عليه السلام، إني نبي مرسل من الله، لكنهم قلبوا هذه الحقيقة وحوّلوا الأمر عن وجهه واتّهموه بالجنون. 5- أما قوله سبحانه وتعالى: { ما من دابّة إلا هو آخذ بناصيتها }[66] والناصية هي أعلى شيء ومقدّمته بالنسبة للإنسان، ولذلك تعتبر علامة عزٍّ ورفعة، فعندما يؤخذ بالناصية أصبح الأمر محوّلاً عن وجهه وأصبح ذلك علامة ذلٍّ وخضوع. قال القرطبي: ( إنما خصّ الناصية لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنساناً بالذلّة والخضوع. فيقولون: ما ناصية فلان إلا بيد فلان، أي أنه مطيع له يصرفه كيف يشاء، وكانوا إذا أسرّوا أسيراً وأرادوا إطلاقه والمنّ عليه جزّوا ناصيته، ليعرف بذلك فخراً عليه )[67] إذاً الأخذ بالناصية تحويلٌ من عزّة إلى ذل، وهذا هو الإقلاب. وهكذا نجد هذه الإشارات الدّالّة على الارتباط الوثيق بين الحكم التجويدي والمعنى الوارد في الآية. ثانياً: علاقة صفات الحروف بالمعنى: هذا مبحث خاص بعلاقة صفات الحروف المختلفة بالمعنى، وقد سرت في تناوله مستأنساً بأقوال علماء أجلّاء طرقوه على مستوى الكلمة المفردة فقسنا عليها، وطرقنا على مستوى الجملة والعبارة، وإن يك ذلك غامضاً فلنا بقول ابن جني اقتداء حيث يقول: ( إلا أن هذه أغمض من تلك، غير أنها وإن كانت كذلك فإنها منقولة عنها، ومعقودة عليها، ومن وجد مقالاً قال به وإن لم يسبق إليه أحد، فكيف به إذا تبع العلماء فيه، وتلاهم على تمثيل معانيه )[68] إلا أننا قبل أن نقول مقالنا نورد تعريفاً مختصراً لصفات الحروف، فمن المعلوم بداهة في العربية أن لكل حرف من حروف الهجاء صفات خاصة تميّزه عن غيره من الحروف. هذه الصفات تم الحديث عنها وإيضاحها في كثير من كتب التجويد والصوتيات واللغة [69]، يمكن إجمالها في الآتي: 1- صفات قوة الحرف: وهي الصفات التي إن توافرت في الحرف منحته قوة، يقول مكّي بن أبي طالب: ( والشدة من علامات قوة الحرف، فإن كان مع الشدة جهر وإطباق واستعلاء فذلك غاية القوّة في الحرف، لأن كل واحدة من هذه الصفات تدلّ على القوّة في الحرف، فإذا اجتمعت اثنتان من هذه الصفات في الحرف أو أكثر فهي في غاية القوة )[70] فالصفات التي تمنح الحرف قوة هي: أ- الشدة: وحروفها ثمانية يجمعها قولنا ( أجد قط بكت )، وتسمى الحروف الانفجارية[71]، والحرف الشديد هو حرف اشتدّ لزومه لموضعه، وقوي فيه منع الصوت أن يجري معه عند اللفظ به[72]. ولُقّب بالشدة لاشتداد الحرف في موضع خروجه حتى لا يخرج معه صوت [73]. ب- الجهر: وهو ضدّ الهمس ومعناه: الإعلان وقوة التصويت، أي إظهار الصوت والحرف المهجور: حرف قوي يمنع النفس أن يجري معه عند النطق به لقوّته، وقوّة الاعتماد عليه في موضع خروجه. وإنما لقّب هذا المعنى بالجهر، لأن الجهر: الصوت الشديد القوي، فلما كانت في خروجها كذلك، لقبت به[74]. وحروفه ثمانية عشر حرفاً هي ( الهمزة، والباء، والجيم والدال، والذال، والراء، والزاي، والضاد، والظاء، والطاء، والغين، والعين، واللام، والميم، والنون، والواو، والياء ) ث- الإطباق: معناه: الالتصاق، وفي الاصطلاح: إلصاق اللسان على ما يحاذيه من الفك الأعلى وانحصار الصوت عند النطق بالحرف، وحروفه أربعة هي: ( الصاد والضاد والطاء والظاء ). ج- الاستعلاء: معناه: الارتفاع، وفي الاصطلاح: ارتفاع اللسان عند النطق بالحرف إلى الحنك الأعلى حيث يتضخم الصوت نتجية لارتفاع اللسان. وحروفه كلها مفخّمة وهي مجموعة في قولك ( خصّ ضغط قظ ). ح- الإصمات: ضد الإذلاق، وهو المنع. وفي الاصطلاح: امتناع انفراد حروفه أصولاً في الكلمة الرباعية أو الخماسية لثقل النطق بها، والإصمات من صفات قوّة الحرف.[75] وحروفه هي: ( الهمزة، التاء، الثاء، الجيم، الحاء، الخاء، الدال، الذال، الزاي، السين، الشين، الصاد، الضاد، الطاء، الظاء، العين، الغين، القاف، الكاف، الهاء، الواو، الياء ). خ- الصفير: صوت زائد يخرج من الشفتين عند النطق بحروفه يشبه صوت الطائر، وحروفه ثلاثة ( الزاي، الصاد، السين ). 2- صفات ضعف الحرف: ونقصد به الصفات التي إن توافرت في الحرف جعلته ضعيفاً. يقول مكّي بن أبي طالب: ( والهمس والرخاوة والخفاء من علامات الضعف )[76]. ويقول ابن الجزري بعد ذكره لمقولة مكّي: ( فإذا كان أحد هذه الصفات الضعيفة في حرف كان فيه ضعف، وإذا اجتمعت فيه كان ذلك أضعف له )[77]. فالصفات الضعيفة هي: ( الهمس، الرخاوة، الإستفال، الانفتاح، الإذلاق، اللين )[78] أ- الرخاوة: ضد الشدة، ومعناه في اللغة: اللين، وفي الاصطلاح: جريان الصوت مع الحرف لضعف الاعتماد على المخرج[79]. وحروفها خمسة عشرة هي: ( ت، ح، خ، ذ، ز، ن، س، ش، الصاد، ض، غ، ف، هـ، و، ي ) ب-الهمس: في اللغة: الخفاء، وفي الاصطلاح: جريان النفس عند النطق بالحرف لضعفه وضعف الاعتماد عليه في المخرج[80] وحروفه عشرة مجموعة في عبارة: ( سكت فحثه شخص ) ث-الانفتاح: ضد الإطباق، وهو في اللغة: الافتراق. وفي الاصطلاح: افتراق المخرج عما يحاذيه في الفك وحروفه أربعة وعشرون وهي: ( ا، ب، ت، ث، ج، ح، خ، د، ذ، ر، ز، س، ش، ع، غ، ف، ق، ك، ل، م، ن، هـ، و، ي ) ج- الاستفال: ضد الاستعلاء، وهو في اللغة: الانخفاض. وفي الاصطلاح: انخفاض اللسان عن خروج اللسان من الحنك إلى قاع الفم[81]. وحروفه عشرون وهي: ( ب، ت، ث، ج، ح، د، ذ، ر، ز، س، ش، ع، ف، ك، ل، م، ن، هـ، و،ي) ح- الإذلاق: ضد الإصمات، وهو في اللغة: الإسراع، وفي الاصطلاح: سرعة النطق بالحرف بالاعتماد على ذلق اللسان[82]. وحروفه مجموعة في ( فرّ من لب ). خ- اللين: ضد الخشونة، وفي الاصطلاح: إخراج الحرف بسهولة وبدون كلفة على المخرج [83]. وحروفه: الواو والياء إذا سكنتا وانفتح ما قبلهما. وعليه: يحكم للحرف بالضعف أو القوّة حسب أغلبية الصفات المتوفّرة فيه فإذا كان الصفات القويّة فيه أكثر كان حرفاً قويّاً، وإذا كانت الصفات الضعيفة أكثر كان الحرف ضعيفاً. هل نجد في كتب التراث حديثاً عن العلاقة بين صفات الحروف والمعنى العام ؟ سبق الإشارة إلى أن القدماء طرقوا هذه العلاقة، وتحدّثوا عنها على مستوى الكلمة المفردة. ونورد هاهنا دلائل اهتمام علمائنا بصفات الحروف ومراعاتها أثناء تعاملهم مع اللغة محادثة وتدويناً. من ذلك قول ابن جني: ( فأما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث، فباب عظيم واسع، ونهج متلئب عند عارفيه مأموم، وذلك أنهم كثيراً ما يجعلون من أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبّر بها عنها، فيعدلونها بها، ويحتذونها عليها، وذلك أكثر مما نقدره وأضعاف ما نستشعره. من ذلك قولهم: ( خضم وقضم. فالخضم لأكل الرطب، كالبطيخ والقثاء وما كان نحوهما من المأكول الرطب، والقضم للصلب اليابس، فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب، والقاف لصلابتها لليابس حذواً لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث )[84]. ونجده يكرّر الحديث عن مضاهاة أجراس الحروف معنى الأفعال التي يعبّر عنها، وذلك في أكثر من موضع في كتابه ( الخصائص )[85]. كما نجده في المحتسب يوغل في ذلك عند حديثه عن قراءة ابن عباس في ( فأكثرت جدلنا ) [86]، فيقول: ( وأصل [ ج د ل ] في الكلام: القوة.... وكذلك الجدال إنما هو الاقتواء على خصمك بالحجة. – ثم يقول – ونحو منه لفظاً قولهم: ظبي شادن: أي قد قوي واشتد، والشين أخت الجيم، والنون أخت اللام. ونحو منه قولهم: عطوت الشيء: إذا تناولته، وقالوا: أتيت عليه: إذا ملكته واشتملت عليه، والعين أخت الهمزة، والطاء أخت التاء، والواو أخت الياء. وهذا باب من اللغة لعله لو تقرّيت لأتى على أكثرها )[87]. ثم يوضح ابن جني السبب الذي جعله يختصر الحديث في هذا الباب – ولو أنه استمر لجاء بالشيء الكثير – في قوله: ( ولولا أن القرّاء لا ينبسطون في هذه الطريق لنبّهت على كثير منه. لا بل إذا كان منتحلو هذا العلم والمترسمون به قلّما تطوع طباعهم لهذا الضرب منه، وإن اضطروا إلى فهم شيء من جملته أظهروا التجاهل به، ولم يشكروا الله عز وجل على ما لاح لهم وأعرض من طريقه، جرياً على عادة مستوخمة، وإخلاداً إلى خليفة كرهة مستوبلة، حسداً يريهم ونغلاً يجويهم، وما أقلهم مع ذلك عدداً، وكذلك هم بحمد الله ولو ضوعفوا مدداً، فما ظنّك بالقراء لو جشموا النظر فيه والتقري لغرروه ومطاويه ) [88]. ونجد من المحدّثين من تحدث عن ائتلاف اللفظ مع المعنى، نجد ذلك عن لبيب السعيد حيث يقول: ( يجب أن تكون ألفاظ الكلام ملائمة للمعنى المراد، فإن كان فخماً كانت ألفاظه مفخمة، أو جزلاً فجزلة، أو غريباً فغريبة )[89] ومهما يكن من أمر، فإننا ننطلق من مبدأ القياس الذي رسمه لنا ابن جني في قوله: ( وذلك أن مسألة واحدة في القياس أنبل وأنبه من كتاب لغة عند عيون الناس. قال لي أبو علي بحلب سنة ستة وأربعين أخطئ في خمسين مسألة في اللغة ولا أخطئ في واحدة من القياس )[90]. فانطلاقاً من هذا المبدأ نتأمل نصوص المحاورات لنرى مدى ارتباط صفات الحروف بالمعنى العام والجو العام للنص. علاقة صفات الحروف بالمعنى: الغرض المروم من هذا المبحث هو بيان علاقة الحروف المتصفة بالقوة بمواقف القوة، والحروف المتّصفة بعلامات الضعف بمواقف الضعف، والحروف المتصفة بالاستعلاء بمواقف الاستعلاء والحروف المتصفة باللين مواقف اللين، وهكذا. من ذلك ما نجده في محاورة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع أبيه في سورة مريم: { إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً. يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً. يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيّاً. يا أبت إني أخاف أن يمسّك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليّاً }[91] الموقف هنا موقف محاورة من ولد لأبيه، وهو موقف دعوة في بدايتها، فتحسّ أن الجو العام هو جو اللين والانخفاض من جانب إبراهيم عليه السلام. فهل لهذا الجو ظلال على النص من خلال صفات الحروف ؟ للإجابة نحتاج إلى إحصاء الحروف الواردة في هذا النص، وهي على النحو الآتي: الياء 23، النون 20، اللام 16، الميم 11 الهمزة 12، الصاد 3، القاف1، الغين 1 الخاء 1، الطاء 1، الضاد لا شيء، الظاء لا شيء بالنظر إلى الإحصاء أعلاه نجد حضوراً واضحاً لحروف اللين وحروف الاستفال الذي يعني الانخفاض، وكذا ندرة في بعض حروف الاستعلاء وغياب لبعضها الآخر. وإنما تكررت الصاد ثلاث مرات لما فيها من الهمس. فهل كان لهذه الصفات علاقة بالجو العام للنص أم لا ؟ تأمّل ذلك. شاهد آخر نسوقه لنبيّن مدى الارتباط بين صفات الحروف والجو العام للنص التي وردت فيه تلك الأصوات، هو ما أخبرنا به الله عز وجل عن نبي الله نوح عليه السلام عندما أعلن البراءة من قومه وتحدّيه لهم: { واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكّلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون فإن تولّيتم فما سألتكم من أجرٍ إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين }[92] إن الموقف هاهنا موقف تحدٍ واضح وصارخ، تجد وضوحه في هذه الإظهارات المتتابعة في النص ( أمركم وشركاءكم، شركاءكم ثم، لا يكن أمركم، أمركم عليكم، عليكم غمة، توليتم فما، من أجر، أجر إن، إن أجري، أن أكون ) إنها عشرة إظهارات في هذا النص، فهو نص واضح لكن هل هو واضح في التحدّي أم واضح في اللين ؟ بنظرة في الأصوات الموجودة نلحظ الآتي: حضور ملحوظ لأصوات الشدّة والاستعلاء متمثّلة في ( الكاف 13، الهمزة 17، التاء 10، العين 5، الجيم 3، القاف 3، الباء 2، الغين1، الضاد 1، الظاء 1 ) فجميع هذه الأصوات تضافرت فيما بينها لترسم جو هذا الموقف، موقف التحدّي والاستعلاء من نوح عليه السلام. ثم للنظر ونتأمّل موقف هود عليه السلام يوم أن وقف أمام قومه قائلاً لهم: { إنّي أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابّة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فإن تولّوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوماً غيركم ولا تضرّونه شيئاً إن ربي على كل شيء حفيظ }[93]. موقف نلمح من خلاله جوّ التحدّي والجهر بهذا التحدّي، فهو يعلن لهم براءته مما يشركون من دون الله. ويعلن لهم ويتحدّاهم أن يكيدوه جميعاً ولا يتأخرون عن مكيدته. يعلن لهم توكّله على الله المالك القاهر لدوابّ الأرض جميعاً وما م إلا جزء من هذه الدواب التي تسير على وجه هذه الأرض، ويجهر لهم أنه في حالة تولّيهم فإن الله سبحانه وتعالى سيأخذهم ويستخلف قوماً غيرهم وهم لا يملكون ضره في شيء [94]. هذا الجو العام تداخلت فيه حروف الشدّة والجهر والاستعلاء لرسم هذه الصورة المعبّرة وهذا الموقف الحي الذي كأننا نعيشه ونراه ونسمعه من خلال هذا النص. ألا ترى حضور الباء 16، التاء 11،الهمزة 13، الكاف 9، الخاء 2، الصاد 2، الغين 2، القاف 3، الظاء 2، الدال 6، الضاد 1، الجيم 1، هذه الحروف التي من صفاتها الشدّة والقوّة والاستعلاء ناسب حضورها هذا الموقف القويّ المستعلي من نبي الله هود عليه السلام. بقي أن ننظر في موقف نبي الله لوط عليه السلام يوم أن أتته الملائكة ونزلوا ضيوفاً عليه، وكانوا في صورة غلمان حسان، فسيء بهم وضاق بهم ذرعاً، ثم جاء قومه يتسارعون يريدون عمل الفاحشة بضيوفه، فيستوقفهم ويعرض عليهم بناته ولكنهم يصرّون على ما يريدون، ونعلم أن لوطاً كان وحيداً فلم تكن له قبيلة تنصره، حينها قال قولته التي حكاها القرآن: { لو أن لي بكم قوّة أو آوي إلى ركن شديد }[95] ، يذكر المفسّرون أن الملائكة عندما سمعوا قول لوط السابق رقّوا لحاله فأعلنوا عن شخصياتهم: { قالوا يا لوط إنّا رسل ربك لن يصلوا إليك }[96] وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عندما سمع هذه الآية: { يغفر الله للوط إن كان ليأوي إلى ركن شديد }[97] ويذكر القرطبي أن الله بعد ذلك لم يرسل رسولاً إلا وجعل له رهط يقفون إلى جواره ويحمونه [98]. وهنا يبرز سؤال مفاده أليست الآية آية استعلاء وتحدّي ؟ نعم إنها ليست كذلك. ألا ترى أنه لا يوجد فيها حرف من حروف الاستعلاء عدا القاف في ( قوة ) ولعلك تدرك أن القوة مما يستعلي به الإنسان في مثل هذه المواقف. لقد كانت الأصوات المستخدمة في هذه الآية هي أصوات الاستفال واللين والترقيق والهتف. فاللام رخوة لينة مستفلة مرققة، وكذا النون، والهمزة حرف مهتوف سميّت بذلك لخروجها من الصدر كالتهوّع[99]، والواو والياء حرفا لين. ثم انظر إلى القلقلة في الدال التي ترسم لك صورة اضطراب، فهو لا يدري ماذا يصنع ليحمي ضيوفه، فليس لديه قوّة ليظهر بها عليهم، وليس له ركن شديد يأوي إليه. لقد استطاعت هذه الأصوات مع بعضها بعضاً أن ترسم هذا الجو بكل مشاعره وإيحاءاته. ثالثاً: علاقة المد بالمعنى: يكاد لا يخلو كتاب من كتب التجويد والقراءات من تناول المدّ، والحديث عن أنواعه ومقدار المد فيها، وغير ذلك. وقبل التعرض لعلاقة المدّ بالمعنى نبدأ بالوقوف على معنى المدّ كما ورد في كتب اللغة، عن ذلك يقول ابن فارس: ( الميم والدال أصل واحد يدل على جر في طول، واتصال شيء بشيء في استطالة. تقول مددت الشيء أمدّه مدّاً )[100] ويذكر ابن منظور أن: ( لكل شيء دخل فيه مثله فكثره: مد يمده مدّاً، وفي التنزيل العزيز { والبحر يمدّه من بعد سبعة أبحر }[101] أي يزيد فيه ماء من خلفه تجره إليه وتكثره ) [102]. هذه الزيادة هي ما يسمّيه الزمخشري بالمطاولة والمماطلة حيث يقول: ( فلان يماد فلاناً: يطاوله ويماطله )[103]. فهذا المطل وهذا التطويل ما هو إلا زيادة في الشيء، ولذلك يقول الفيومي: ( ويقال للسيل مدّ لأنه زيادة، فكأنه تسمية بالمصدر، وجمعه مدود )[104]. والزيادة في الصوت هي زيادة زمنية في نطاق الصوت، ولهذا يقول الكفوي: ( سميت المدّة مدّة لأنها تمتد بحسب تلاصق أجزائها أو تعاقب أبعاضها، فالامتداد إنما يصحّ في حق الزمان والزمانيّات)[105]. ومن هذه التعريفات يمكن أن نخرج بمعنى المدّ في المفهوم اللغوي بأنه ما أفاد: (الجذب، الكثرة، الطول، المطل، التوسّع، الإمهال، الارتفاع، اتصال الشيء في استطالة، الزيادة، التطاول، الانبساط) ومن هنا نلحظ أن مصطلح المدّ قد امتد حتى شمل هذه المعاني جميعها. معنى المد في اصطلاح القرّاء: يعرّفه ابن الجزري بقوله: ( هو عبارة عن زيادة مطّ في حروف المدّ على المد الطبيعي، وهو الذي لا يقوم ذات حرف المدّ دونه )[106]. ويوضّح البغدادي أن هذه الزيادة زيادة زمنية في تفريقه بين المدّ والقصر حيث يقول: ( المدّ طول زمان الصوت والقصر الأصل )[107]. أقسام المد: يقسم علماء التجويد المدّ إلى قسمين[108]: أ- المد الطبيعي ( الأصلي ) ويمدّ حركتين. ب-المد الفرعي: وهو على ستة أقسام: 1- المد الجائز المنفصل: وهو أن يأتي حرف المد في كلمة والهمز في كلمة ثانية، ويمدّ من أربع حركات إلى خمس. 2- المد الواجب المتصل: وهو أن يأتي حرف المد وبعده الهمز في نفس الكلمة، ويمدّ من أربعة إلى خمس حركات. 3- مد البدل: وهو أن يأتي حرف المد وقبله همزة ولا يوجد بعده همز ولا سكون مثل آدم ويمد حركتين. 4- المد العارض للسكون: وهو أن يأتي بعد حرف المدّ حرف متحرك حال الوصل وعند الوقف على الكلمة يسكن هذا الحرف ويمد من 2- 6 حركات. 5- مد اللين: وهو أن يأتي الواو والياء الساكنتان المفتوح ما قبلهما مع الوقف على الحرف الذي بعدهما ويجوز مدّه من 2-6 حركات. 6- المد اللازم: هو أن يأتي سكون أصلي ثابت في الوصل والوقف بعد حرف المدّ سواء أكان في كلمة أم في حرف. ويمدّ ست حركات. العلاقة بين المدّ والمعنى: سأحاول في هذا الجزء من البحث أن أتعرّض لثلاثة أنواع من المد هي: ( المد الواجب المتصل، والمد الجائز المنفصل، والمد اللازم ) 1- المد الواجب المتصل: قبل أن أعرض لشواهد المد الواجب المتصل، أذكر بأن المد الواجب المتصل يسمّى واجباً لإجماع القراء على وجوب مدّه، ومتصلاً لأن حرف المد والهمز واقعان في كلمة واحدة. شواهد المد الواجب المتصل: 1- السماء: مشتقّة من السمو وهو الارتفاع والعلو، قال الزجاج: ( السماء في اللغة يقال لكل ما ارتفع وعلا )[109] وهنا نذكر بأن الارتفاع هو أحد المعاني التي قد يعنيه المد. المد في السماء متصل، فهل السماء في ذاتها ممتدة ؟ يقول الكفوي: ( كل أفق من الآفاق فهو سماء )[110] والأفق ممتد بل وما يزال يتمدد ويتسع، فقد اكتشف العلماء أخيراً أن كل المجرات تبتعد عنا بأسرع مما تبتعد به المجرات القريبة، وأن أسرع معدل للابتعاد حتى الآن أمكن قياسه 40.000 ميل في الثانية، إنهم يعلنون إذاً أن الكون يتسع ويتمدد ويقولون: ( إنه في اتساع دائم )[111] ويعللون لذلك بقولهم: ( لأن الخالق العظيم أراد أن يكون خلق المادة مستمراً، وهذا يدفع الكون إلى التمدد، لأن خلق المادة يؤدي إلى مطّ الفضاء مطّاً كالبالون، وهذا يؤدي إلى تباعد تجمّعات المجرّة بعضها عن بعض )[112] لقد أصبح تمدّد الكون واتساعه حقيقة علمية وأصبح يعدّ من أعظم الظواهر التي اكتشفها العلم الحديث، فهو كالبالونة التي تنفخ كل يوم نفخة فتتسع البالونة بقدر النفخ، إلى أن يأتي يوم ينفخ فيها نفخة واحدة فتنفجر البالونة، وينتهي كل شيء[113]. فالسماء في تمدد وزيادة واتساع، وتعال بنا نقرأ قول المولى عز وجل: ( والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون )[114]. من هنا يمكننا الربط بين تمدد السماء واتساعها، وهذا المد المتّصل في لفظها. 2- جزاء: 3- عطاء: جاء في وصفه تعالى لما للمتقين من مفاز في سورة النبأ بأنه: ( جزاء من ربك عطاءً حساباً )[115] ونلحظ هنا مجيء لفظي( جزاء، عطاء ) ممدودين مدّاً متصلاً. فما وجه الدلالة في ذلك ؟ ورد في المعجم الوسيط: ( جزى جزاء: كفى وأغنى، وجازاه: أثابه وعاقبه )[116] وفي الكليات: ( جزاء: يقال في النافع والضار )[117] إذاً فلفظ الجزاء لفظ ممتد يشمل الشيء ونقيضه. والعطاء قال فيه الكفوي: ( العطاء للغني والفقير والناس لا يحصون )[118] وقال تعالى: { كلّاً نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً }[119] فهو عطاء ممتد ليشمل المؤمن والكافر، الغني والفقير. هذا من جانب، ومن جانب آخر وعند رؤيتنا للآية الكريمة من سورة النّبأ وتفسيرها عند المفسرين نجد الآتي: يقول الرازي: ( عطاءً حساباً: أي بقدر ما وجب له فيما وعده من الأضعاف، لأنه تعالى قدر الجزاء على ثلاثة أوجه: وجه منها على عشرة أضعاف، ووجه على سبعمئة ضعف، ووجع على مالا نهاية له. وقال ابن قتيبة: ( عطاءً حساباً ) أي كثيراً وأحسبت فلاناً أي أكثرت له )[120]. وقال ابن عاشور: ( ووصف الجزاء بعطاء وهو اسم لما يعطى، أي يتفضل به بدون عوض للإشارة إلى أن ما جوزوا به أوفر مما عملوه، فكان ما ذكر للمتقين من المفاز وما فيه من جزاء شكراً لهم، وعطاء كرماً من الله تعالى، وكرامة لهذه الأمة إذ جعل ثوابها أضعافاً، وحساباً: اسم مصدر حسب يحسب إذا عد أشياء، فوقع ( حساباً ) صفة ( جزاء ) أي هو جزاء كثير مقدّر على أعمالهم والتنوين فيه للتكثير )[121]. إذاً فهو جزاء ممتد وعطاء كثير، ألا ترى إلى إيضاح ذلك في قوله تعالى: { وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاءً غير مجذوذ }[122]، فالعطاء هنا يفسر العطاء هناك: إنه عطاء غير مجذوذ. قال القرطبي: ( أي غير مقطوع )[123]، وقال الزمخشري: ( غير مقطوع، ولكنه ممتد إلى غير نهاية )[124]، وهذا هو رأي جمهور المفسّرين[125]. من هنا ندرك طبيعة العلاقة بين هذا المد المتصل في ( جزاء، وعطاء ) ومعنى اللفظين سواء أكانا منفردين أم داخل السياق القرآني. 4- جاء: أغلب المعاجم اللغوية تجمع على أن (جاء) بمعنى (أتى). فهل هما كذلك فعلاً ؟ لننظر في ذلك. ( جاء ) فعل ماضٍِ ممدود مداً متصلاً، و ( أتى ) فعل ماضٍ مقصور آخره ألف مقصورة. وكلاهما يفيد معنى الحضور، ولكن هل المجيء بما فيه من مد متصل يمكن أن يطلق على نفس الحدث الذي يدل عليه الفعل المقصور ( أتى ). من خلال العلاقة التي نقرر وجودها بين المدّ والمعنى يمكننا القول بوجود فرق بين ( جاء وأتى ). فجاء بما فيها من مدّ يمكن أن تطلق على حدث الحضور من مسافة ممتدّة، أو الحضور مع صعوبة ومشقّة يواجهها المرء في حضوره، أما أتى بما فيها من قصر فيمكن أن تطلق على حدث الحضور من مسافة قصيرة حضوراً ليس فيه مشقّة ولا تعب. ألا ترى معي إلى قول الله تعالى: { وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى }[126]. قال القرطبي: ( ومنزله عند أقصى باب من أبواب المدينة )[127]، وقال الآلوسي: ( وجاء من أقصى المدينة أي من أبعد مواضعها )[128]. وكذلك عندما بعث فرعون في المدائن حاشرين ليأتوه بكل سحّار عليم: { فلمّا جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين }[129]. لقد كان مجيئهم من المدائن البعيدة فهو مجيء من مسافة ممتدة. أما أتى فانظر معي إلى هذه الآية: { فتولّى فرعون فجمع كيده ثم أتى }[130]، إن هذه الآية الواحدة القصيرة تحكي حدوث ثلاثة حركات متواليات: ذهاب فرعون وتوليه، وجمع الكيد، والإتيان به. والإتيان كان من قصر فرعون إلى المكان المتفق عليه وهو ميدان الاحتفال بالعيد، وفي ضوء ما ذكره ابن عاشور من أن قلب المدينة هو مسكن حكامها، إذ المعتاد أنهم يسكنون وسط المدينة[131]. في ضوء هذا نعتقد أن المسافة بين قصر فرعون وميدان الاحتفال مسافة قصيرة ليست بالممتدة لذلك جاء فعل ( أتى ) المقصور. ثم للنظر إلى قوله تعالى: { أتى أمر الله فلا تستعجلوه }[132]، وأمر الله قريب ألا ترى إلى قوله تعالى: { إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً }[133]. من هنا أيضاً ندرك مدى العلاقة التي تربط نوع المدّ بالمعنى، وهذا واضح لمن تأمّله. 5- الملائكة: المد فيها واجب متصل، والملائكة كما جاء وصفهم في القرآن الكريم ذوو أجنحة متزايدة، قال تعالى: { الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير}[134] قال الزمخشري: ( والمعنى أن الملائكة خلقاً أجنحتهم اثنان اثنان أي لكل واحد منهم جناحان، وخلقاً أجنحتهم ثلاثة ثلاثة، وخلقاً أجنحتهم أربعة أربعة )[135]. وقال ابن عاشور: ( وذلك قد تتعدد صفوفه فتبلغ أعداداً كثيرة )[136]. ثم لنلحظ قوله تعالى: { يزيد في الخلق ما يشاء }، قال القرطبي: ( أي في خلق الملائكة في قول أكثر المفسّرين )[137]. إذاً فالله سبحانه وتعالى يزيد في خلق الملائكة ما يشاء، أي يمدّهم في الخلق، لأن المدّ هو الزيادة. ثم للنظر في وصف بعض الملائكة كما ورد في الأحاديث الصحيحة، فقد ورد في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام له ستمئة جناح. وعن الزهري أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم : (( يا محمد لو رأيت إسرافيل إن له لاثني عشر ألف جناح، منها جناح بالمشرق وجناح بالمغرب.... الحديث ))[138]. فأي امتداد هذا. والأحاديث كثيرة في هذا الباب، نكتفي بما أوردناه لنصل إلى إيضاح علاقة هذا المد المتصل في لفظ ( الملائكة ) بهذه المعاني المتّصلة بذات الملائكة. 2- المد الجائز المنفصل: سُمّي جائزاً لاختلاف القراء في مدّه – كما سبق – فبعضهم يمدّ وبعضهم لا يمدّ، وسُمّي منفصلاً لأن حرف المد في كلمة والهمز في كلمة أخرى. كما يطلق عليه مد البسط، لأنه يبسط بين كلمتين. ويقال: مدّ الاعتبار لاعتبار الكلمتين من كلمة، ويقال: مدّ حرف لحرف أي مدّ كلمة لكمة. شواهد المد الجائز المنفصل: 1- يقول الله تعالى على لسان نبيّه هود عليه السلام: { ويا قوم استغفروا ربّكم ثم توبوا إليه }[139] المدّ في: ( توبوا إليه ) إنه أمر بالتوبة، فهل جميع الناس تتوب ؟ إن بعضاً منهم يتوب، وبعضاً لا يتوب، وكذلك المدّ بعضهم يمدّ وبعضهم لا يمدّ، كما أنه مدّ منفصل، وهذا واضح أيضاً فالتوبة لكي تنفع صاحبها لابدّ من أن تقبل، فالتوبة من العبد والقبول من الله. فإذا لم يوجد القبول فلن يتحقق الغرض من التوبة، كذلك المدّ فحرف المدّ في كلمة والهمز في أخرى، ولو لم يوجد الهمز لما تحقّق المدّ. 2- قال تعالى: { قولٌ معروفٌ ومغفرةٌ خيرٌ من صدقةٍ يتبعها أذى }[140] المدّ في: ( يتبعها أذى ). والسؤال هنا: هل كل صدقة يتبعها أذى ؟ الإجابة بالتأكيد: لا. فهناك صدقات يتبعها أذى وهناك صدقات لا يتبعها أذى إذاً فالمسألة مختلف فيها كما هو الحال في المد الجائز. قال القرطبي: ( والمراد الصدقة التي يمنّ بها ويُؤذى، لا غيرها، والعقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات ولا تحبطها، فالمن والأذى في صدقة لا يبطل صدقة غيرها )[141] ثم إن الحكم الذي تقرّره الآية من أن قول المعروف والمغفرة خير من الصدقة لا يكون إلا في حالة وجود الأذى بعدها. وكذلك هو المدّ لا يكون في الحرف إلا إذا أتبعه همز، فإذا لم يتبعه همز فلا يتحقق المد، وتلك كذلك فالصدقة إذا لم يتبعها أذى خير من قول معروف ومغفرة، والله أعلم. 3- قال تعالى: { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم.... الآية }[142] المد في: ( تسترضعوا أولادكم ). قال القرطبي: ( أي لأولادكم غير الوالدة، قاله الزجاج، وقال النحاس: التقدير في العربية: أن تسترضعوا أجنبية لأولادكم )[143]. وجاء في التحرير والتنوير: ( أي إن أردتم أن تطلبوا الإرضاع لأولادكم في إثم في ذلك، والاسترضاع أصله طلب إرضاع الطفل، أي طلب أن ترضع الطفل غير أمه، فالسين والتاء في تسترضعوا للطلب ومفعوله محذوف، وأصله أن تسترضعوا مراضع لأولادكم، لأن الفعل يُعدّى بالسين والتاء – الدالين على الطلب – إلى المفعول المطلوب منه الفعل فلا يتعدّى إلا إلى مفعول واحد وما بعده يُعدّى إليه بالحرف )[144]. فلماذا حذف الحرف إذاً ؟ وما السر وراء حذف اللام من السياق ليتحوّل الأمر إلى مد جائز منفصل ( تسترضعوا أولادكم ) بدلاً من ( تسترضعوا لأولادكم ) ؟ هل هناك ارتباط بين هذا المد وبين دلالة الآية ومعناها ؟ للإجابة عن هذا التساؤل نحتاج إلى العودة إلى فهم معنى الآية والموضوع الذي تتحدث عنه. إنها تتحدّث عن إرضاع الأولاد من قبل غير والدته في حالة تعذّر على الوالدة إرضاعه لمرضها أو تزوّجها أو إن أبت ذلك حيث يجوز لها الإباء، قال القرطبي: ( وعلى هذا يكون في الآية دليل على جواز اتخاذ الظئر إذا اتفق الآباء والأمهات على ذلك )[145] إذاً فالحكم هو الجواز فق دلّ قوله تعالى على أنه ليس المراد تشريع وجوب الإرضاع على الأمهات، بل المقصود تحديد واجبات المرضع على الأب، وأما إرضاع الأمهات لأولادهن فموكول إلى ما تعارفه الناس، والأصل في العرف أن الأم يلزمها رضاع ولدها، إلا أن مالكاً رحمه الله دون فقهاء الأمصار استثنى المرأة ذات الحسب، فقال: لا يلزمها رضاعة، فأخرجها من الآية وخصّصها بأصل من أصول الفقه وهو العمل بالعادة [146]. ومن هنا نجد أنه وانطلاقاً من المد الجائز المنفصل الموجود في الآية ما يلي: 1- يجوز للأم أن ترضع ولدها، ويجوز لها أن تأبى إرضاعه. 2- في حال انفصال الوالدين عن بعضهما، فيجوز أن ترضع الأم ولدها مقابل أجر معلوم، ويجوز أن يتخذ للولد مرضع وهذا على الأب. قال الزمخشري: ( وعليه أن يتّخذ له ظئراً إلّا إذا تطوّعت الأم بإرضاعه، وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه )[147] 3- اختلف الفقهاء في مسألة جواز استئجار الأم لإرضاع ولدها، فعند أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز استئجار الأم ما دامت زوجة أو معتدّة من نكاح، وعند الشافعي يجوز. إذا نجد من خلال ما سبق علاقة وثيقة بين المعنى وحكم المد الجائز المنفصل، فكما أنه يجوز للقارئ أن يمد، فكذلك يجوز للأب أن يسترضع مرضعاً ليمد لولده فترة الرضاعة ليستوفي حولين كاملين إن أراد أن يتمّ الرضاعة. والله أعلى وأعلم. 4- المد اللازم: ويتحقق إذا وقع بعد حرف المدّ ساكن، وسُمّي لازماً للزوم مدّه: ليصل بالمدّة إلى اللفظ بالساكن. من شوهد المدّ اللازم: أ- قول الله سبحانه وتعالى لأم موسى: { إنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين }[148] هذه الآية فيها وعد من الله عز وجل لأم موسى أنه سيردّ إليها ولدها موسى عليه السلام بعد أن تلقيه في اليم، ونهاها عن الخوف والحزن، والجملة في موقع العلّة للنهيين، لأن ضمان ردّه إليها يقتضي أنه لا يهلك وأنها لا تشتاق إليه بطول الغياب[149] فكان لزاماً تحقق الوعد وإيفائه، لأنه وعد من الله ووعد الله حق، وقد كان ذلك { فرددناه إلى أمّه كي تقرّ عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حقٌّ ولكنّ أكثرهم لا يعلمون }[150]، فالمدّ اللازم، وإيفاء الوعد لازم، وتحقق الردّ لازم، وهذه هي العلاقة بين نوع المدّ والمعنى واضحة جليّة. ب-قول المولى عز وجل: { ولا يضارّ كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوقٌ بكم }[151] في الآية نهي عن المضارّة، وفيها قراءتان ( يضارِرْ، يضارَرَ )[152] فتكون مع الإدغام والتشديد محتملة لأن تكون مبنيّة للفاعل أو مبنيّة للفاعل أو مبنيّة للمفعول. فعلى المعنى الأول يكون النهي للكاتب والشاهد عن ترك الشهادة، وترك الإجابة إلى ما يطلب منهما، وعن التحريف والزيادة والنقصان. وعلى الثاني النهي عن الإضرار بهما بأن يعجلا عن مهم أو لا يعطى الكاتب حقّه، أو يحمل الشاهد مئونة المجيء من بلد إلى بلد[153]. إذا أصبح عدم الإضرار بالكاتب والشاهد أو منهما لازماً، لأنه لو حدث ذلك فهو فسوق وعصيان فناسب هذا المعنى هذا المدّ اللازم في هذه الكلمة. ت-الطّامّة – الصّاخّة – الحاقّة: الطّامّة: هي الحادثة أو الواقعة التي تطمّ، أي تعلو وتغلب بمعنى تفوق أمثالها من نوعها بحيث يقل مثلها من نوعها، مأخوذ من طمّ الماء إذا غمر الأشياء. وهذا الوصف يؤذن بالشدّة والهول إذ لا يقال مثله إلّا في الأمور المهولة، والقيامة تطمّ على كل شيء، وتُسمّى الداهية التي لا يستطاع دفعها: طامّة[154]. والصّاخّة: صيحة شديدة من صيحات الإنسان تصخّ الأسماع أي تصمّها [155]. الحاقّة: اسم فاعل من حقّ الشيء يحقّ إذا كان صحيح الوجوب، ومنه حقّت كلمة العذاب والمراد به القيامة والبعث، وقال ابن عباس سُمّيت القيامة حاقّة، لأنها تبدي حقائق الأشياء.[156] وهذه الكلمات عبارة عن أسماء ليوم القيامة، ويوم القيامة آت لا محالة ولا ريب ولا شك فيه، فهو لازم الوقوع، والآيات الدّالّة على ذلك كثيرة. وأغلب ظنّي أن هذا المدّ اللازم يوحي بلزوم تحقّق معنى الآية الواردة فيها، وهذا ظاهر من جميع الآيات التي تتحدث عن وقوع الساعة. يقول ابن عاشور في حديثه عن الحاقّة: ( وإيثار هذه المادّة وهذه الصيغة يسمح باندراج معانٍ صالحة بهذا المقام فيكون ذلك من الإيجاز البديع لتذهب نفوس السامعين كل مذهب ممكن من مذاهب الهول والتخويف بما يحقّ حلوله بهم )[157] هذه إشارات في علاقة المدّ بالمعنى، وأن المعنى يأتي ليضيف على النص إيحاء لم يكن ليظهر لو لم يوجد المد. والكلام هنا أطول من هذا، لكن هذا مفاده طلباً للإيجاز. فهذا ونحوه – مما سبق – أمر إذا أنت أتيته من بابه، وأصلحت فكرك لتناوله وتأمّله أعطاك مقادته وأركبك ذروته، وجلا عليك بهجاته ومحاسنه، وإن أنت تناكرته، وقلت: هذا مذهب صعب موعر، حرمت نفسك لذّته، وسددت عليها باب الحظوة به.
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، أنزله بأفصح لسان، وأودع في آيه غرر البلاغة ودرر البيان، تحدى به قوماً ملكوا ناصية الفصاحة وفنون الكلام، فبهرتهم نغماته ومداته، حركاته وسكناته، سلاسة ألفاظه، وإحكام أساليبه حتى قال قائلهم: ( والله إن للقول الذي يقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته)[1].
وحُقّ للوليد بن المغيرة أن يقول ذاك، فهو يتحدث عن ( كتاب الله الذي فيه نبأ من قبلنا، وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين، ونوره المبين، وصراطه المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأفئدة ولا تضل به الأهواء، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يخلق على كثرة الرد، لا يشبع منه العلماء ولا يملّه الأتقياء، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته إلا أن قالوا { إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً } من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم )[2]
قراءته لا تزيد القارئ إلا حلاوة، وترديده لا يزيد القارئ إلا محبّة، ولا يزال غضّاً طريّاً، وغيره من الكلام – ولو بلغ في الحسن والبلاغة مبلغه – يُملّ من الترديد، ويُعادى إذا أُعيد، لأن إعادة الحديث على القلب أثقل من الحديد، كما قال السيوطي رحمه الله تعالى.[3]
وسيظل كتاب الله غضّاً طريّاً، وبحراً زاخراً باللؤلؤ والدر والمرجان، رحب المدى، عميق الأغوار لكنه مشرع الأبواب مهما قرأه القارئ وأعاده فسيظفر في كل مرة منه بعجائب من عجائبه التي لا تنقضي، فهذا سهل بن عبد الله يقول: (( لو أعطي العبد بكل حرف من القرآن ألف فهم لم يبلغ نهاية ما أودع الله في آية من كتابه، وإنما يفهم كل بمقدار ما يفتح الله على قلبه )) [4]
ولذلك أصبح القرآن الكريم – ومازال – يشكّل بؤرة اهتمام العلماء المسلمين، فقد شُغل به العلماء – كلٌ في مجال اهتمامه – بحثاً وتأمّلاً. فظهرت نتيجة ذلك علومٌ كثيرةٌ، ارتبطت بالقرآن الكريم كعلم الفقه، وعلم الأصول، وعلم التفسير، وعلم البلاغة، وعلم النحو، وعلم الإعجاز، وغيرها من العلوم.
كل علم من هذه العلوم يركّز على جانب معيّن من جوانب هذا الكتاب العظيم، فالفقه يهتمّ ببيان الأحكام الواردة فيه، والتفسير يهتمّ ببيان معانيه، والنحو يهتمّ بإعراب كلماته وجمله للكشف عن أوجه المعاني وقراءة آياته خالية من اللحن، وهكذا دواليك.
ومن هذه العلوم التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالقرآن، ووضعت لأجله، قاصرة طرفها عليه، علم التجويد، الذي يعني تجويد القراءة وتحسينها لهذا القرآن المعجز، وذلك بإعطاء كل حرف من حروفه حقّه ومستحقّه من مخرجه وصفته اللازمة له.[5]
لقد مثّل علم التجويد وصفاً دقيقاً لتلك الأحكام والقواعد التي يجب اتباعها عند قراءة هذا النص القرآني.
وقد اهتمّ علماء التجويد بأصوات القرآن الكريم، وما يحدث لها داخل النص القرآني، فجاءت مباحثه لتدرس:
1- أحكام النون الساكنة والتنوين.
2- أحكام الميم الساكنة.
3- أحكام المدود.
4- مخارج الحروف وصفاتها.
وغيرها من الأحكام المتعلّقة بأصوات القرآن الكريم وحروفه، هذه الأحكام والقواعد تصف لنا كيف نقرأ كتاب ربنا كما أنزله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكما قرأه صلى الله عليه وسلم على صحابته الكرام، وكما أقرأه أصحابه الكرام لتابعيهم إلى أن وصل إلينا محفوظاً بالسند الصحيح مبرّأ من كل عيب ولحن.
ومن هنا يمكننا القول بأن الصوت القرآني قد وجد حظّه من الاهتمام، متمثّلاً في هذا التراث الضخم الذي بين أيدينا من مؤلّفات علم التجويد ومدوناته.
لكن ما علاقة ما قدمنا بما نحن بصدده من بيان الإعجاز البياني في الصوت القرآني ؟
إن غرضي من هذا الكلام هو أن أتوصّل إلى أن هناك قواعد وضعها لنا القدماء للسير عليها والاستهداء بها في فهم النص القرآني، فما علينا إلا أن نتنبّه لها وننعم النظر فيها، لننطلق منها ونكمل المسير.
وهذا هو ما سأفعله – إن شاء الله – وأنا أحاول قراءة النص القرآني، وذلك من خلال محاولة الكشف عما إذا كان هناك علاقة بين هذه الأحكام التجويدية والمعنى العام في النص.
والأمر هنا من الوعورة والمشقّة بمكان، غير أننا إن أطلنا النظر ولاطفناه، وتركنا الضجر وتحاميناه، لم نكد نعدم قرب بعض من بعض.
وقد تأمّلت فيه مليّاً، وأخذت نفسي بتسجيل ما يخطر لي منه، ثم هممت أن أتركه، خوفاً من أن أقول في القرآن ما ليس فيه، إذ لم أجد معيناً فيه من قول أستند عليه، إلا أن الله قوّى النية وشدّ الهمة، ويسّر الأمر.
وأزعم أن هذا بحث قد يكون جديداً في موضوعه، أو أصيلاً في نتائجه ولا أدعي ذلك كوني صاحب هذا البحث، أو كاتب فصوله المتواضعة، ولمن طرافة موضوعه، وجدّة مباحثه ساقت لمثل هذا الادعاء، وهذه إشارات وتلويحات، وإنما سينجلي الأمر منها ويبين إذا تكلّم في التفاصيل، وأفرد كل مبحث بالتمثيل.
وهذا ما سنراه بإذن الله الذي إليه الرغبة في أن نوفّق للبلوغ إليه والتوفّر عليه.
أولاً: أحكام النون والميم الساكنتين والتنوين وعلاقتها بالمعنى:
أقدّم بين يدي هذا المبحث تعريفاً بالنون والميم الساكنتين والتنوين وأحاكمهما، كما جاء ذلك في كتب التجويد[6]:
فالنون الساكنة: هي النون التي تكون ساكنة في الوقف والوصل، مثل ( أنْ – أنْتم – منْكم – ينْغضون )
والميم الساكنة: هي الميم التي تكون ساكنة في الوقف والوصل مثل: ( لكمْ – عليكمْ )
والتنوين: هو نون ساكنة تلحق آخر الاسم تلفظ ولا تكتب. ويكون على ثلاثة أشكال: إما ضمتان أو فتحتان أو كسرتان، مثل: ( علمٌ، علماً، علمٍ )
وللنون الساكنة والتنوين عند التقائهما أحد حروف الهجاء أربعة أحكام هي:
1- الإظهار:
ومعناه لغة: البيان والوضوح.
واصطلاحاً: هو إخراج الحرف من مخرجه من غير غنّة في الحرف المظهر.
وحروفه ستّة مجموعة في أول حرف من كلمات: أخي هاك علماً حازه غير خاسر، وهي: الهمزة والهاء والعين والحاء والغين والخاء.
2- الإدغام:
معناه في اللغة: إدخال الشيء في الشيء
وفي الاصطلاح: التقاء حرف ساكن بحرف متحرك حتى يصير الحرفان حرفاً واحداً مشدّداً من جنس الثاني.
وحروفه ستة مجموعة في قولك: يرملون.
3- الإخفاء:
معناه في اللغة الستر
وفي الاصطلاح: هو النطق بالحرف على حالة متوسّطة ما بين الإظهار والإدغام خالياً من التشديد مع مراعاة الغنة في الحرف الأول.
وحروفه خمسة عشر حرفاً، مجموعة في أول حروف كلمات بيت الشعر:
صف ذا ثنا كم جاد شخص قد سما دم طيباً زد في تقى ضع ظالماً
4- الإقلاب:
معناه في اللغة: تحويل الشيء عن وجهه.
وفي الاصطلاح: قلب النون الساكنة أو التنوين ميماً مصحوبة بغنّة عند الباء، وحرفه واحد هو الباء.
أما الميم الساكنة فلها عند التقائها بحروف الهجاء، ثلاثة أحكام:
1- الإظهار الشفوي:
ويكون مع جميع حروف الهجاء عدا الميم والباء، لكنه يكون أشد إظهاراً عند الواو والفاء، وذلك خشية الالتباس، أو سقوط حرف منها، لأنها من مخرج واحد هو الشفتان.
2- الإدغام الشفوي:
ويطلق عليه إدغام متماثل بغنّة، وهو إذا جاءت الميم الساكنة وبعدها ميم أخرى متحرّكة، فعند ذلك يكون الإدغام بين الميم الأولى والثانية.
3- الإخفاء الشفوي:
ويكون الإخفاء عند حرف الباء فقط، ويكون مع غنّة.
إذاً هذا أمر قدّمناه ليُرى منه الأحكام والقواعد التي ننطلق منها لمعرفة وجه العلاقة بين هذه الأحكام من جهة والمعنى من جهة أخرى وهذا أوانه إن شاء الله.
علاقة الإظهار بالمعنى:
لبيان علاقة الإظهار – الذي يعني البيان والوضوح – بالمعنى، سنحتاج لسرد الآيات التي ورد فيها حكم الإظهار، ثم ننظر في معنى هذه الآية معتمدين في ذلك على كتب التفاسير – في حال توافر دلالة تشير إلى ذلك – أو الفهم العام لمعنى الآية بما لا يمثل ليّاً لعنق الآية، أو تعسّفاً في التأويل، أو تقوّلاً على القرآن بما ليس فيه، فإننا نعوذ بالله أن نقول في القرآن ما ليس فيه، بل نجتهد في إبراز سر من أسراره الدائمة والمستمرّة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، فإن أسراره ومعجزاته ما تزال تتكشف لنا يوماً بعد يوم.
آيات الإظهار:
1- قال الله تعالى حاكياً ما قاله رسله لأقوامهم كل على حده: { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره }[7]
لاحظ الإظهار في موضعين:
أ- نون ساكنة بعدها همز في: منْ إله
ب-تنوين بعده غين في: إلهٍ غيره
معنى الآية ( ما لكم من إله غيره ) أي ليس لكم رب سواه [8]
والجملة بيان للعبادة التي أمرهم بها، أي أفردوه بالعبادة دون غيره، إذ ليس غيره لكم بإله[9].
ألا ترى أن معنى الآية واضح كل الوضوح، بيّن كل البيان، شواهده أكثر من أن تعدّ وتحصى، فكل ما في الكون يدلّ بجلاء على أنه ليس لنا من إله غيره سبحانه.
فإن له في كل شيء آية تدلّ على أنه واحد
{ ولو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا } فظهور المعنى تناسب مع الإظهار كما ترى.
2- ومنها قول الله سبحانه على لسان نوح عليه السلام لقومه: { إنّي أخاف عليكم عذاب يوم عظيم }[10]
الإظهار في موضعين:
أ- ميم ساكنة بعدها عين في عليكمْ عذاب
ب-تنوين بعده عين في يومٍ عظيم
معنى الآية إعلان نوح عليه السلام لقومه أنه يخاف عليهم عذاب يوم القيامة، أو يوم الطوفان كما ذكر المفسّرون[11].
وهذا الأمر واضح ظاهر، فلأنه يخاف عليهم عذاب يوم عظيم فقد قام بإنذارهم وتبليغهم، ثم الأمر واضح وظاهر أيضاً أنه كان يوماً عظيماً هو يوم الطوفان، فإن كان المقصود يوم القيامة فعظم ذلك اليوم أشد وضوحاً.
ونحو ذلك قول هود عليه السلام لقومه: { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم }[12]
ومثله قول نوح عليه السلام: { إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم }[13]
وكذا قول صالح عليه السلام: { فيأخذكم عذاب أليم }[14]
وقوله عليه السلام في الشعراء: { فيأخذكم عذاب يوم عظيم }[15]
فكل ما سبق ورد فيه إظهارات، والمعنى ظاهر بيّن ما ترى.
يقول الزمخشري: ( وصف اليوم بأليم من الإسناد المجازي لوقوع الألم فيه، فإن قلت: فإذا وصف به العذاب ؟ قلت: مجازي مثله لأن الأليم في الحقيقة هو المعذب )[16]
ويقول ابن عاشور: ( وصف اليوم بالأليم مجاز عقلي، وهو أبلغ من أن يوصف العذاب بالأليم، لأن شدة العذاب لما بلغت الغاية جعل زمانه أليماً أي مؤلماً ) [17]
ألا ترى أنه جاء بوصف أليم لزيادة إيضاح شدة الألم، فالأصل أن يكون السياق ( يوم مؤلم ) لكن هذا التناسب العجيب بحاجة إلى فضل تأمل.
ومن شواهد العلاقة:
3- ومنها قوله تعالى: { وسع ربنا كل شيء علماً } [18]
الإظهار في تنوين بعده عين في ( شيءٍ علماً )
قال الزمخشري: ( أي هو عالم بكل شيء مما كان وما يكون ) [19]
وقال الشوكاني: ( أي أحاط علمه بكل المعلومات فلا يخرج عنه منها شيء )[20]
فمعنى إحاطة الله بكل شيء علماً ظاهر، وسعة علم الله واضحة بيّنة لكل من تأمل ذلك.
ثم ألا ترى تضافر القرائن المتعددة لإظهار هذا المعنى وزيادة بيانه. يقول ابن عاشور: ( وإعادة وصف الربوبية إظهار في مقام الإضمار لزيادة إظهار وصفه بالربوبية )[21]
فإظهار وصف الربوبية في مقام حقّه الإضمار، ثم استخدام لفظ ( وسع ) الذي يفيد الإحاطة بكل شي، ثم تنكير لفظ ( شيء ) ليفيد العموم. هذه لطائف متعددة بسط الحديث عنها في بابه إن شاء الله، لكن تضافرها مع الإظهار لجعل الأمر ظاهراً للعيان مما لا شك فيه، فالإظهار ناسب ظهور المعنى، ومثلها آية سورة الأنعام.
4- ومنها قوله سبحانه وتعالى على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام: { ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله }[22]. ونظيره قول بقية الأنبياء لأقوامهم [23].
والإظهار في:
أ- ميم ساكنة بعدها عين في أسألكمْ عليه
ب-تنوين بعده همز في مالاً إن
ت-نون ساكنة بعدها همز في إنْ أجري
وهنا نلحظ تضافر الإظهار بأنواعه الثلاث: الميم الساكنة والتنوين والنون الساكنة، في هذه الآية الظاهر معناها ظهور الشمس في رابعة النهار. فالأنبياء جميعاً يظهرون ويوضّحون ويبيّنون لأقوامهم أنهم صادقون فيما يدعونهم إليه، وأنهم لا يبغون من وراء دعوتهم نفعاً قريباً أو مصلحة دنيوية، ولذلك جاؤوا بدليل ظاهر على ذلك، هو أنهم لا يسألون على دعوتهم هذه أجراً، وإنما ينتظرون الأجر والمثوبة من الله عز وجل. فالمعنى ظاهر جاء الإظهار بأنواعه الثلاثة ليظهره من جميع جوانبه فلا تبقى هناك أي مسألة خفيّة، أو تداخل في المفاهيم. والله أعلى وأعلم.
5- ومنها كذلك قول الحق سبحانه: { ما من دابّة إلّا هو آخذ بناصيتها }[24]
الإظهار عند التنوين بعده همز في دابةٍ إلا.
والمعنى هو بيان أن الله هو المالك القاهر لجميع ما يدبّ في الأرض، فكونه مالكاً للكل يقتضي أن لا يفوته أحد منهم، وكونه قاهراً لهم يقتضي أن يعجزه أحد منهم، فما من دابّة إلا هو متصرّف فيها وهو مالكها وقاهرها فلا نفع ولا ضرر إلا بإذنه.[25]
6- ومنها قوله سبحانه: { ويستخلف ربي قوماً غيركم ولا تضرّونه شيئاً }[26]
الإظهار في:
أ- تنوين بعده غين في ( قوماً غيركم )
ب-أشد إظهاراً عند الميم الساكنة بعدها واو ( غيركم ولا تضرّونه )
والمعنى الذي يريد هود عليه السلام إيصاله لقومه هو أنكم إن تولّيتم فإن ربي سوف يستخلف قوماً غيركم وأنتم مع ذلك لا تضرّونه في شيء مهما صغر هذا الشيء.
وهذه مسألة واضحة فهم يعلمون ما حصل لقوم نوح، وأن الله استخلفهم في الأرض من بعدهم.
ثم إن المخاطبين بهذا القرآن – ونحن منهم – نعلم أن القوم الذين يتولّون يستبدل الله قوماً غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم.
أما المسألة الأشد ظهوراً والتي تتناسب مع الإظهار الأشد فهي أن هؤلاء القوم ومن بعدهم ومن في الكون جميعاً لا يملكون ضر الله عز وجل ولا منفعته [27]. وهذا بيّن واضح.
7- ومن الشواهد أيضاً قوله سبحانه وتعالى: { يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربي ورزقني منه رزقاً حسناً وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت }[28]
الإظهار في هذه الآية في غير ما موضع:
أ- نون ساكنة بعدها هاء في: منْه
ب-تنوين بعده حاء في: رزقاً حسناً
ت-نون ساكنة بعدها همز في: أنْ أخالفكم
ث-ميم ساكنة بعده همز في: أخالفكمْ إلى
ج- نون ساكنة بعدها هاء في: أنْهاكم
ح- ميم ساكنة بعدها عين في: أنهاكمْ عنه
خ- نون ساكنة بعدها هاء في: عنْه
د- نون ساكنة بعدها همز في: إنْ أريد
إظهارات متوالية لمعانٍ ظاهراتٍ. فالرزق من الله ليس من غيره، وهو حسن فالنبوة بلا شك رزق حسن، وواضح أن شعيباً لا يريد أن يخالف قومه في الأشياء التي نهاهم عنها، وما نهاهم عنه أشياء ظاهرة للعيان من بخس وتطفيف، فالظاهر أنه يردي الإصلاح قدر استطاعته. إنها معان ظاهرة جليّة تناسب معها هذه الإظهارات كما ترى.
فدلّ هذا وغيره مما يطول تعداده على أن هنالك علاقة بين الإظهار بوصفه حكماً تجويدياً من جهة، والمعنى العام للآية من جهة أخرى.
والموضوع مما يسترسل فيه، ولكن الباب واحد والمسائل كثيرة، ولو التزمت الاستكثار لطال المبحث، والإيجاز أولى وأجدر.
علاقة الإدغام بالمعنى:
نذكر بدءاً بأن معنى الإدغام هو: إدخال الشيء في الشيء.
وآيات الإدغام هي:
1- قول قوم نوح لنوح عليه السلام: { إنا لنراك في ضلال مبين }[29]
الإدغام في موضع واحد: التنوين بعده ميم في ضلالٍ مبين.
ومعنى الآية: أنهم أدخلوا نوحاً عليه السلام في الضلال، وأن هذا الضلال متمكّن منه، وزاد حرف ( في ) الذي يفيد الظرفية المعنى إحاطة. يقول ابن عاشور: ( وظرفية [ في ضلال ] مجازية تعبيراً عن تمكّن وصف الضلال منه حتى كأنّه محيط به من جوانبه إحاطة الظرف بالمظروف ) [30]
فإدخال نوح في الضلال كإدخال الظرف في المظروف، وهل الإدغام إلا إدخال الشيء في الشيء.
2- قول نوح عليه السلام راداً على قومه: { يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين }[31]
الإدغام في:
أ- تنوين بعده واو في: ضلالةٌ ولكنّي
ب-تنوين بعده ميم في: رسولٌ من
ت-نون ساكنة بعدها راء في: منْ رب
معنى الآية: نفى عن نفسه الضلالة وإثبات أنه رسول من رب العالمين، فهل هناك علاقة للإدغام ؟
يقول النسفي: ( الاستدراك لتأكيد نفي الضلالة لأن كونه رسولاً من الله مبلّغاً لرسالاته في معنى كونه على الصراط المستقيم، فكان الغاية القصوى من الهدى )[32]
ألا ترى تداخل معنى الجملتين مع بعضهما لإفادة أنه رسول م الله، فكونه ليس به ضلالة فهو إذاً رسول، وكونه رسول إذاً ليس به ضلال، فهذا تداخل في المعنى أحسبه يتناسب مع الإدغام الأول.
أما الإدغامان الآخران في ( رسولٌ من رب العالمين ) فيقول ابن عاشور: ( واختيار طريق الإضافة في تعريف المرسل، لما تؤذن به من تفخيم المضاف ومن وجوب طاعته على جميع الناس تعريضاً بقومه إذا عصوه )[33]
فهذا الإدغام أدخل طاعة الرسول في طاعة الله، لأن من أطاع الرسول فقد أطاع الله، ومن يعص الرسول فقد عصى الله.
ومثلها قول هود عليه السلام في الرد على قومه: { يا قوم ليس به سفاهة ولكني رسول من رب العالمين }[34]
هذه الإدغامات المتتالية تدخل أجزاء الآية في بعضها بعضاً، لتحدث نوعاً من تداخل المعنى، وكأن المعنى ليس به سفاهة لأني رسول، ولأني رسول فأنا مرسل من رب العالمين، أو أنا مرسل من رب العالمين فأنا رسوله هو، ولأني رسوله فأنا على هدى، ولأني على هدى فليس بي ضلالة.
3- ومثلها قول نوح عليه السلام لقومه: { أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم }[35]
الإدغام في مواضع ثلاثة:
أ- تنوين بعده ميم في ( ذكرٌ من )
ب- نون ساكنة بعدها راء في ( منْ ربكم )
ت- تنوين بعده ميمي في ( رجلٍ منكم )
إن إضافة الذكر إلى الله سبحانه وتعالى يحدث نوعاً من الترابط بين الذكر والرب، فهو ذكر موصول بالله وليس من أحد غيره. فهناك علاقة تداخل واتصال كتداخل الكلمات مع بعضها البعض.
وعلى رجل منكم أي من جنسكم فهو واحد منكم داخل في جنسكم فأدخل نفسه معهم فهو ليس بغريب عنهم ولا خافٍ حاله عليهم، ونظيرتها ما ورد عن هود عليه السلام [36].
4- ونظير ذلك أيضاً قول نوح عليه السلام: { أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربّي }[37]. وقول صالح عليه السلام [38] وقول شعيب عليه السلام [39].
فالإدغام في:
أ- تنوين بعده ميم في: بيّنةٍ من
ب-نون ساكنة بعدها راء في: منْ ربي
والمعنى فيهنّ هو المعنى في ( ذكر من ربكم ) فالبيّنة مرتبطة بالله سبحانه وتعالى.
ونظيرها قول صالح عليه السلام، وقول شعيب عليه السلام في سورة الأعراف { قد جاءتكم بيّنة من ربكم } { بينة من ربي } { رسول من رب العالمين }
5- ومنها قول قوم هود لهود عليه السلام: { إنّا لنراك في سفاهة وإنّا لنظنّك من الكاذبين }[40]
الإدغام في التنوين بعده واو في ( سفاهةٍ وإنا ). ألا ترى أنهم عطفوا الجملة الثانية على الأولى فأدخلوها في حكمها، وجعلوا ظنهم في أنه من الكاذبين متداخل مع رؤيتهم القلبية أنه في سفاهة، إنه تداخل فيما بين معنى الآيتين، فتأمّل ذلك.
6- وفي قول هود عليه السلام: { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق }[41]
الإدغام هنا تنوين بعده واو في ( نوحٍ وزادكم ).
إن نعم الله على قوم عاد كثيرة، فأراد هود عليه السلام أن يذكّرهم بهذه النعم المتداخلة والمترابطة، فالله عز وجل جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح، وزادهم في الخلق بصطة، فهي نعم متداخلة مترابطة، فكان هذا التداخل متناسباً مع الإدغام الموجود في الآية.
7- ومن ذلك قول هود عليه السلام لقومه: { قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب } [42]
الإدغام هنا في ثلاثة مواضع:
أ- ميم ساكنة بعدها ميم فهو إدغام متماثل في ( عليكمْ من )
ب-نون ساكنة بعدها راء في ( منْ ربكم )
ت-تنوين بعده واو في ( رجسٌ وغضب )
يقول الأشقر: ( أي قد استحققتم عذاب الله وغضبه فهو واقع بكم لا محالة، جعل ما هو متوقّع كالواقع )[43]
أي أن الرجس والغضب قد حصل عليهم، فأصبحوا داخلين في غضب الله وعذابه، وأن هذا الغضب والعذاب قد وقع بهم وأحاطهم من كل جانب، فهم غير منفكّين منه ولا مفلتين.
8- ومنها قوله سبحانه وتعالى: { يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم }[44]
الإدغام في موضعين:
أ- ميم ساكنة بعدها ميم في ( عليكمْ مدراراً )
ب-تنوين بعده واو في ( مدراراً ويزدكم )
إن نعم الله كثيرة وهي مترابطة متداخلة مع بعضها، فإرسال السماء بالمطر الكثير المدرار يؤدي إلى زيادة خصوبة الأرض المؤدي إلى زيادة النعم، فهو تداخل عجيب لمن تأمّله.
هذا وإن استقصاء القول في هذا الضرب والبحث عن أسراره صعب وعر، ولذلك فإني أقتصر على القدر المذكور.
علاقة الإخفاء بالمعنى:
من المناسب أن نذكر بأن معنى الإخفاء هو الستر.
آيات الإخفاء:
1- قوله سبحانه وتعالى: { أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم }[45]
الإخفاء في ثلاثة مواضع:
أ- نون ساكنة بعدها جيم في ( أنْ جاءكم )
ب-نون ساكنة بعدها كاف في ( منْكم )
ت-نون ساكنة بعدها ذال في ( لينْذركم )
معنى الآية: يذكر نوح عليه السلام الأمور التي يتعجّب منها قومه وينكرونها، وهي مجيء ذكر من الله، ثم أن يأتي هذا الذكر على رجل منهم، ثم إنذار هذا الرجل لهم.
يقول الفخر الرازي: ( أنهم استبعدوا أن يكون لله رسول إلى خلقه، لأجل أنهم اعتقدوا أن المقصود من الإرسال هو التكليف، والتكليف لا منفعة فيه للمعبود كونه متعالياً على النفع والضر، ولا منفعة فيه للعابد.
ثم وإن جوّزوا التكليف إلا أنهم قالوا: ما علم حسنه بالعقل فعلناه وما علم قبحه تركناه، ولما كان رسول العقل كافياً فلا حاجة إلى بعثة رسول آخر. ثم إذا كان لابد من الرسول فإن إرسال الملائكة أولى، لأن مهابتهم أشد وطهارتهم أكمل، فهذه الوجوه التي لأجلها أنكر الكفار رسالة رجل معين )[46]
ألا ترى أن الإخفاء جاء في المعاني التي خفت على القوم، فعلى مجيء الذكر من الله خافية عليهم، ثم علّة أن يأتي هذا الذكر على رجل منهم خافية عليهم أيضاً، ثم علّة إنذارهم لهم خافية عنهم كذلك فتأمّل ذلك تجده كما ذكرت.
ومثلها قول هود عليه السلام لقومه [47].
2- قوله سبحانه وتعالى: { أتجادلونني في أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم }[48]
الإخفاء هنا في:
أ- تنوين بعده سين في ( أسماءٍ سميتموها )
ب-نون ساكنة بعدها تاء في ( أنْتم )
إن من يعبد أصناماً من دون الله يعد كافراً، والكفر: التغطية والستر. قال ابن منظور: ( كفر الشيء: غطاه وستره )[49]
فكأنّ عبادة هذه الأصنام ( غطّت على القلب بزيادة الكفر )[50] فأخفته وسترته.
أخفاه وستره عن رؤية الحقيقة وهي بطلان عبادته وخفاء مشروعيّتها، فالخفاء ناسب الإخفاء.
3- ومنها قوله تعالى على لسان شعيب عليه السلام: { وما قوم لوطٍ منكم ببعيد }[51]
الإخفاء في موضعين:
أ- نون ساكنة بعدها كاف في ( منْكم )
ب-ميم ساكنة بعدها باء في ( منكم ببعيد )
يقول المفسّرون في معنى الآية: إن شعيباً عليه السلام أراد تذكير قومه بما حدث لقوم لوط الذين كانوا قريبين منهم، لكنه لم يحدد وجه القرب،هل هو قرب مكاني أو زماني أو عملي [52]
أي أن وجه التقارب خفي، فلا ندري هل القرب مقصود هو قرب مكانهم منهم، أو قرب زمانهم، أو قرب أعمالهم من بعضهم من حيث كفرهم بالله والتعدي على حقوق الناس وأعراضهم.
ثم لعلّ هنالك معنىً آخر في من خلال النظر في الآية حيث نجد أن شعيباً عليه السلام ذكر قوم نوح وقوم هود وقوم صالح في قوله: { ويا قوم لا يجرمنّكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح }[53]
وهنا مواطن إظهار في جميعها، فلما وصل إلى قوم لوط جاء الإخفاء { وما قوم لوط منكم ببعيد }
وعلّة ذلك – فيما أعتقد – هو ظهور آثار ما حل بقوم نوح وقوم هود وقوم صالح، بينما اختفت آثار قوم لوط، لأننا نعلم أن الله جعل عليهم الأرض عاليها سافلها، أي أخفاهم وأخفى آثارهم من على وجه الأرض، والله أعلم.
4- قوله سبحانه وتعالى: { واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثّركم }[54]
الإخفاء في التنوين بعد فاء في ( قليلاً فكثركم )
أي قلّة يقصد ؟ هل قلّة العدد ؟ أم قلّة المال ؟ أم قلة النسل ؟
قيل: ( قليلاً عددكم )[55]. وقيل: ( كنتم فقراء فأغناكم )[56]، وقيل: ( تيسير قوّة التناسل ). إذاً نوع القلّة خافية هنا.
ثم إنّ القلّة في العدد أو المال تجعل الإنسان يتخفّى من الظهور، أو أنه يكون خافياً عن الأنظار لا يؤبه له، أما كثير المال كثير العدد فإنه لا يكون خافياً بل ظاهراً معروفاً.
5- وقوله تعالى على لسان هود عليه السلام لقومه: { أتبنون بكل ريع آية تعبثون }[57]
الإخفاء في التنوين بعده تاء في ( آيةٍ تعبثون ).
لقد كان قوم هود عليه السلام يبنون في كل مكان مرتفع علماً، لا لغرض السكنى ولا لغرض الاستهداء به، وإنما عبثاً منهم يبنونها.
فعلّة بناء هذه الآيات والعلامات المرتفعة خافية، والغرض منها غير معروف.
هذه شواهد جمعناها لنبرهن على أن هناك علاقة بين الإخفاء بوصفه حكماً تجويدياً يختصّ بأصوات القرآن، وبين المعنى العام للآية. إلا أن الأمر لايزال خاضعاً للبحث والدراسة والتأمل.
علاقة الإقلاب بالمعنى:
نجد أنه من اللطيف قبل عرض آيات الإقلاب التذكير بأن معنى الإقلاب هو تحويل الشيء عن وجهه.
آيات الإقلاب:
1- قوله سبحانه وتعالى: { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح... }[58]
الإقلاب في موضع النون الساكنة بعدها باء في ( منْ بعد )
معنى الآية: قال الزمخشري: ( أي خلفتموهم في الأرض أو جعلكم ملوكاً في الأرض قد استخلفكم فيها بعدهم )[59]
ويقول ابن عاشور: ( الخلفاء جمع خليفة وهو الذي يخلف غيره في شيء، أي يتولّى عمل ما كان يعمله الآخر. وعلم أن المقصود أنهم خلفاء قوم نوح )[60].
ألا ترى معي أن ورقة قوم نوح قد طُويت وقلبت وتحول القوم عما كانوا فيه، وجاء بعدهم قوم هودٍ عليه السلام ليعمروا الأرض من خلفهم.
فأعتقد أن هذا الإقلاب الذي في الآية يناسب الإقلاب الذي حدث لقوم نوح.
2- نظيرتها قوله تعالى: { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم عاد }[61]
فالإقلاب في موضع النون الساكنة بعدها باء في ( من بعد )
ومعنى الآية هنا هو معنى الآية هناك، والقول فيها هو هو.
3- ومن الشواهد قوله تعالى: { وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنّكم كاذبين }[62]
الإقلاب في التنوين بعده باء في ( فضلٍ بل )
لقد قالوا له إنك بشر مثلها وأتبعك أراذلنا وليس لكم فضل، كل ذلك ليطعنوا في رسالته وفي صدق ما يدعيه، ثم أضربوا عن ذلك، وحولوا الأمر عن حقيقته، وانتقلوا إلى ظنهم المجرد عن الحقيقة باتهامه بالكذب هو وأتباعه.
إنه تحويلٌ للكلام عن وجهه، وهو قلبٌ للحقائق وتحويل الصادق إلى كاذب.
قال الشوكاني: ( خاطبوه منفرداً ثم خاطبوه مع متبعيه، أي ما نرى لك ولمن اتبعك من الأراذل علينا من فضل تتميزون به وتستحقون ما تدّعونه، ثم أضربوا عن الثلاثة مطاعن، وانتقلوا إلى ظنهم المجرّد عن البرهان الذي لا مستند له إلا مجرّد العصبية والحسد واستبقاء ما هم فيه من الرياسة الدنيوية )[63]
4- وقول قوم نوح لنوح عليه السلام: { إن هو إلّا رجلٌ به جِنّة }[64]
الإقلاب في التنوين بعده باء في: ( رجلٌ به )
والمعنى اتهام القوم لنوحٍ عليه السلام بالجنون، لأنهم يرون منه ويسمعون ما يظنونه خارج نطاق العقل، فهو يحول الأمور عما هي عليه ولا يدري ما يقول [65].
ثم إن هذا قلب واضح لحقيقة نوح عليه السلام، إني نبي مرسل من الله، لكنهم قلبوا هذه الحقيقة وحوّلوا الأمر عن وجهه واتّهموه بالجنون.
5- أما قوله سبحانه وتعالى: { ما من دابّة إلا هو آخذ بناصيتها }[66]
والناصية هي أعلى شيء ومقدّمته بالنسبة للإنسان، ولذلك تعتبر علامة عزٍّ ورفعة، فعندما يؤخذ بالناصية أصبح الأمر محوّلاً عن وجهه وأصبح ذلك علامة ذلٍّ وخضوع.
قال القرطبي: ( إنما خصّ الناصية لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنساناً بالذلّة والخضوع. فيقولون: ما ناصية فلان إلا بيد فلان، أي أنه مطيع له يصرفه كيف يشاء، وكانوا إذا أسرّوا أسيراً وأرادوا إطلاقه والمنّ عليه جزّوا ناصيته، ليعرف بذلك فخراً عليه )[67]
إذاً الأخذ بالناصية تحويلٌ من عزّة إلى ذل، وهذا هو الإقلاب.
وهكذا نجد هذه الإشارات الدّالّة على الارتباط الوثيق بين الحكم التجويدي والمعنى الوارد في الآية.
ثانياً: علاقة صفات الحروف بالمعنى:
هذا مبحث خاص بعلاقة صفات الحروف المختلفة بالمعنى، وقد سرت في تناوله مستأنساً بأقوال علماء أجلّاء طرقوه على مستوى الكلمة المفردة فقسنا عليها، وطرقنا على مستوى الجملة والعبارة، وإن يك ذلك غامضاً فلنا بقول ابن جني اقتداء حيث يقول: ( إلا أن هذه أغمض من تلك، غير أنها وإن كانت كذلك فإنها منقولة عنها، ومعقودة عليها، ومن وجد مقالاً قال به وإن لم يسبق إليه أحد، فكيف به إذا تبع العلماء فيه، وتلاهم على تمثيل معانيه )[68]
إلا أننا قبل أن نقول مقالنا نورد تعريفاً مختصراً لصفات الحروف، فمن المعلوم بداهة في العربية أن لكل حرف من حروف الهجاء صفات خاصة تميّزه عن غيره من الحروف.
هذه الصفات تم الحديث عنها وإيضاحها في كثير من كتب التجويد والصوتيات واللغة [69]، يمكن إجمالها في الآتي:
1- صفات قوة الحرف:
وهي الصفات التي إن توافرت في الحرف منحته قوة، يقول مكّي بن أبي طالب: ( والشدة من علامات قوة الحرف، فإن كان مع الشدة جهر وإطباق واستعلاء فذلك غاية القوّة في الحرف، لأن كل واحدة من هذه الصفات تدلّ على القوّة في الحرف، فإذا اجتمعت اثنتان من هذه الصفات في الحرف أو أكثر فهي في غاية القوة )[70]
فالصفات التي تمنح الحرف قوة هي:
أ- الشدة:
وحروفها ثمانية يجمعها قولنا ( أجد قط بكت )، وتسمى الحروف الانفجارية[71]، والحرف الشديد هو حرف اشتدّ لزومه لموضعه، وقوي فيه منع الصوت أن يجري معه عند اللفظ به[72]. ولُقّب بالشدة لاشتداد الحرف في موضع خروجه حتى لا يخرج معه صوت [73].
ب- الجهر:
وهو ضدّ الهمس ومعناه: الإعلان وقوة التصويت، أي إظهار الصوت والحرف المهجور: حرف قوي يمنع النفس أن يجري معه عند النطق به لقوّته، وقوّة الاعتماد عليه في موضع خروجه. وإنما لقّب هذا المعنى بالجهر، لأن الجهر: الصوت الشديد القوي، فلما كانت في خروجها كذلك، لقبت به[74].
وحروفه ثمانية عشر حرفاً هي ( الهمزة، والباء، والجيم والدال، والذال، والراء، والزاي، والضاد، والظاء، والطاء، والغين، والعين، واللام، والميم، والنون، والواو، والياء )
ث- الإطباق:
معناه: الالتصاق، وفي الاصطلاح: إلصاق اللسان على ما يحاذيه من الفك الأعلى وانحصار الصوت عند النطق بالحرف، وحروفه أربعة هي: ( الصاد والضاد والطاء والظاء ).
ج- الاستعلاء:
معناه: الارتفاع، وفي الاصطلاح: ارتفاع اللسان عند النطق بالحرف إلى الحنك الأعلى حيث يتضخم الصوت نتجية لارتفاع اللسان. وحروفه كلها مفخّمة وهي مجموعة في قولك ( خصّ ضغط قظ ).
ح- الإصمات:
ضد الإذلاق، وهو المنع. وفي الاصطلاح: امتناع انفراد حروفه أصولاً في الكلمة الرباعية أو الخماسية لثقل النطق بها، والإصمات من صفات قوّة الحرف.[75]
وحروفه هي: ( الهمزة، التاء، الثاء، الجيم، الحاء، الخاء، الدال، الذال، الزاي، السين، الشين، الصاد، الضاد، الطاء، الظاء، العين، الغين، القاف، الكاف، الهاء، الواو، الياء ).
خ- الصفير:
صوت زائد يخرج من الشفتين عند النطق بحروفه يشبه صوت الطائر، وحروفه ثلاثة ( الزاي، الصاد، السين ).
2- صفات ضعف الحرف:
ونقصد به الصفات التي إن توافرت في الحرف جعلته ضعيفاً.
يقول مكّي بن أبي طالب: ( والهمس والرخاوة والخفاء من علامات الضعف )[76].
ويقول ابن الجزري بعد ذكره لمقولة مكّي: ( فإذا كان أحد هذه الصفات الضعيفة في حرف كان فيه ضعف، وإذا اجتمعت فيه كان ذلك أضعف له )[77].
فالصفات الضعيفة هي: ( الهمس، الرخاوة، الإستفال، الانفتاح، الإذلاق، اللين )[78]
أ- الرخاوة:
ضد الشدة، ومعناه في اللغة: اللين، وفي الاصطلاح: جريان الصوت مع الحرف لضعف الاعتماد على المخرج[79].
وحروفها خمسة عشرة هي: ( ت، ح، خ، ذ، ز، ن، س، ش، الصاد، ض، غ، ف، هـ، و، ي )
ب-الهمس:
في اللغة: الخفاء، وفي الاصطلاح: جريان النفس عند النطق بالحرف لضعفه وضعف الاعتماد عليه في المخرج[80] وحروفه عشرة مجموعة في عبارة: ( سكت فحثه شخص )
ث-الانفتاح:
ضد الإطباق، وهو في اللغة: الافتراق. وفي الاصطلاح: افتراق المخرج عما يحاذيه في الفك وحروفه أربعة وعشرون وهي: ( ا، ب، ت، ث، ج، ح، خ، د، ذ، ر، ز، س، ش، ع، غ، ف، ق، ك، ل، م، ن، هـ، و، ي )
ج- الاستفال:
ضد الاستعلاء، وهو في اللغة: الانخفاض. وفي الاصطلاح: انخفاض اللسان عن خروج اللسان من الحنك إلى قاع الفم[81].
وحروفه عشرون وهي: ( ب، ت، ث، ج، ح، د، ذ، ر، ز، س، ش، ع، ف، ك، ل، م، ن، هـ، و،ي)
ح- الإذلاق:
ضد الإصمات، وهو في اللغة: الإسراع، وفي الاصطلاح: سرعة النطق بالحرف بالاعتماد على ذلق اللسان[82]. وحروفه مجموعة في ( فرّ من لب ).
خ- اللين:
ضد الخشونة، وفي الاصطلاح: إخراج الحرف بسهولة وبدون كلفة على المخرج [83]. وحروفه: الواو والياء إذا سكنتا وانفتح ما قبلهما.
وعليه: يحكم للحرف بالضعف أو القوّة حسب أغلبية الصفات المتوفّرة فيه فإذا كان الصفات القويّة فيه أكثر كان حرفاً قويّاً، وإذا كانت الصفات الضعيفة أكثر كان الحرف ضعيفاً.
هل نجد في كتب التراث حديثاً عن العلاقة بين صفات الحروف والمعنى العام ؟
سبق الإشارة إلى أن القدماء طرقوا هذه العلاقة، وتحدّثوا عنها على مستوى الكلمة المفردة.
ونورد هاهنا دلائل اهتمام علمائنا بصفات الحروف ومراعاتها أثناء تعاملهم مع اللغة محادثة وتدويناً.
من ذلك قول ابن جني: ( فأما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث، فباب عظيم واسع، ونهج متلئب عند عارفيه مأموم، وذلك أنهم كثيراً ما يجعلون من أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبّر بها عنها، فيعدلونها بها، ويحتذونها عليها، وذلك أكثر مما نقدره وأضعاف ما نستشعره.
من ذلك قولهم: ( خضم وقضم. فالخضم لأكل الرطب، كالبطيخ والقثاء وما كان نحوهما من المأكول الرطب، والقضم للصلب اليابس، فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب، والقاف لصلابتها لليابس حذواً لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث )[84].
ونجده يكرّر الحديث عن مضاهاة أجراس الحروف معنى الأفعال التي يعبّر عنها، وذلك في أكثر من موضع في كتابه ( الخصائص )[85].
كما نجده في المحتسب يوغل في ذلك عند حديثه عن قراءة ابن عباس في ( فأكثرت جدلنا ) [86]، فيقول: ( وأصل [ ج د ل ] في الكلام: القوة.... وكذلك الجدال إنما هو الاقتواء على خصمك بالحجة. – ثم يقول – ونحو منه لفظاً قولهم: ظبي شادن: أي قد قوي واشتد، والشين أخت الجيم، والنون أخت اللام. ونحو منه قولهم: عطوت الشيء: إذا تناولته، وقالوا: أتيت عليه: إذا ملكته واشتملت عليه، والعين أخت الهمزة، والطاء أخت التاء، والواو أخت الياء. وهذا باب من اللغة لعله لو تقرّيت لأتى على أكثرها )[87].
ثم يوضح ابن جني السبب الذي جعله يختصر الحديث في هذا الباب – ولو أنه استمر لجاء بالشيء الكثير – في قوله: ( ولولا أن القرّاء لا ينبسطون في هذه الطريق لنبّهت على كثير منه. لا بل إذا كان منتحلو هذا العلم والمترسمون به قلّما تطوع طباعهم لهذا الضرب منه، وإن اضطروا إلى فهم شيء من جملته أظهروا التجاهل به، ولم يشكروا الله عز وجل على ما لاح لهم وأعرض من طريقه، جرياً على عادة مستوخمة، وإخلاداً إلى خليفة كرهة مستوبلة، حسداً يريهم ونغلاً يجويهم، وما أقلهم مع ذلك عدداً، وكذلك هم بحمد الله ولو ضوعفوا مدداً، فما ظنّك بالقراء لو جشموا النظر فيه والتقري لغرروه ومطاويه ) [88].
ونجد من المحدّثين من تحدث عن ائتلاف اللفظ مع المعنى، نجد ذلك عن لبيب السعيد حيث يقول: ( يجب أن تكون ألفاظ الكلام ملائمة للمعنى المراد، فإن كان فخماً كانت ألفاظه مفخمة، أو جزلاً فجزلة، أو غريباً فغريبة )[89]
ومهما يكن من أمر، فإننا ننطلق من مبدأ القياس الذي رسمه لنا ابن جني في قوله: ( وذلك أن مسألة واحدة في القياس أنبل وأنبه من كتاب لغة عند عيون الناس. قال لي أبو علي بحلب سنة ستة وأربعين أخطئ في خمسين مسألة في اللغة ولا أخطئ في واحدة من القياس )[90].
فانطلاقاً من هذا المبدأ نتأمل نصوص المحاورات لنرى مدى ارتباط صفات الحروف بالمعنى العام والجو العام للنص.
علاقة صفات الحروف بالمعنى:
الغرض المروم من هذا المبحث هو بيان علاقة الحروف المتصفة بالقوة بمواقف القوة، والحروف المتّصفة بعلامات الضعف بمواقف الضعف، والحروف المتصفة بالاستعلاء بمواقف الاستعلاء والحروف المتصفة باللين مواقف اللين، وهكذا.
من ذلك ما نجده في محاورة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع أبيه في سورة مريم: { إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً. يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً. يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيّاً. يا أبت إني أخاف أن يمسّك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليّاً }[91]
الموقف هنا موقف محاورة من ولد لأبيه، وهو موقف دعوة في بدايتها، فتحسّ أن الجو العام هو جو اللين والانخفاض من جانب إبراهيم عليه السلام. فهل لهذا الجو ظلال على النص من خلال صفات الحروف ؟
للإجابة نحتاج إلى إحصاء الحروف الواردة في هذا النص، وهي على النحو الآتي:
الياء 23، النون 20، اللام 16، الميم 11
الهمزة 12، الصاد 3، القاف1، الغين 1
الخاء 1، الطاء 1، الضاد لا شيء، الظاء لا شيء
بالنظر إلى الإحصاء أعلاه نجد حضوراً واضحاً لحروف اللين وحروف الاستفال الذي يعني الانخفاض، وكذا ندرة في بعض حروف الاستعلاء وغياب لبعضها الآخر. وإنما تكررت الصاد ثلاث مرات لما فيها من الهمس.
فهل كان لهذه الصفات علاقة بالجو العام للنص أم لا ؟ تأمّل ذلك.
شاهد آخر نسوقه لنبيّن مدى الارتباط بين صفات الحروف والجو العام للنص التي وردت فيه تلك الأصوات، هو ما أخبرنا به الله عز وجل عن نبي الله نوح عليه السلام عندما أعلن البراءة من قومه وتحدّيه لهم: { واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكّلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون فإن تولّيتم فما سألتكم من أجرٍ إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين }[92]
إن الموقف هاهنا موقف تحدٍ واضح وصارخ، تجد وضوحه في هذه الإظهارات المتتابعة في النص ( أمركم وشركاءكم، شركاءكم ثم، لا يكن أمركم، أمركم عليكم، عليكم غمة، توليتم فما، من أجر، أجر إن، إن أجري، أن أكون ) إنها عشرة إظهارات في هذا النص، فهو نص واضح لكن هل هو واضح في التحدّي أم واضح في اللين ؟
بنظرة في الأصوات الموجودة نلحظ الآتي:
حضور ملحوظ لأصوات الشدّة والاستعلاء متمثّلة في ( الكاف 13، الهمزة 17، التاء 10، العين 5، الجيم 3، القاف 3، الباء 2، الغين1، الضاد 1، الظاء 1 )
فجميع هذه الأصوات تضافرت فيما بينها لترسم جو هذا الموقف، موقف التحدّي والاستعلاء من نوح عليه السلام.
ثم للنظر ونتأمّل موقف هود عليه السلام يوم أن وقف أمام قومه قائلاً لهم: { إنّي أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابّة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فإن تولّوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوماً غيركم ولا تضرّونه شيئاً إن ربي على كل شيء حفيظ }[93].
موقف نلمح من خلاله جوّ التحدّي والجهر بهذا التحدّي، فهو يعلن لهم براءته مما يشركون من دون الله. ويعلن لهم ويتحدّاهم أن يكيدوه جميعاً ولا يتأخرون عن مكيدته. يعلن لهم توكّله على الله المالك القاهر لدوابّ الأرض جميعاً وما م إلا جزء من هذه الدواب التي تسير على وجه هذه الأرض، ويجهر لهم أنه في حالة تولّيهم فإن الله سبحانه وتعالى سيأخذهم ويستخلف قوماً غيرهم وهم لا يملكون ضره في شيء [94].
هذا الجو العام تداخلت فيه حروف الشدّة والجهر والاستعلاء لرسم هذه الصورة المعبّرة وهذا الموقف الحي الذي كأننا نعيشه ونراه ونسمعه من خلال هذا النص.
ألا ترى حضور الباء 16، التاء 11،الهمزة 13، الكاف 9، الخاء 2، الصاد 2، الغين 2، القاف 3، الظاء 2، الدال 6، الضاد 1، الجيم 1، هذه الحروف التي من صفاتها الشدّة والقوّة والاستعلاء ناسب حضورها هذا الموقف القويّ المستعلي من نبي الله هود عليه السلام.
بقي أن ننظر في موقف نبي الله لوط عليه السلام يوم أن أتته الملائكة ونزلوا ضيوفاً عليه، وكانوا في صورة غلمان حسان، فسيء بهم وضاق بهم ذرعاً، ثم جاء قومه يتسارعون يريدون عمل الفاحشة بضيوفه، فيستوقفهم ويعرض عليهم بناته ولكنهم يصرّون على ما يريدون، ونعلم أن لوطاً كان وحيداً فلم تكن له قبيلة تنصره، حينها قال قولته التي حكاها القرآن: { لو أن لي بكم قوّة أو آوي إلى ركن شديد }[95] ، يذكر المفسّرون أن الملائكة عندما سمعوا قول لوط السابق رقّوا لحاله فأعلنوا عن شخصياتهم: { قالوا يا لوط إنّا رسل ربك لن يصلوا إليك }[96]
وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عندما سمع هذه الآية: { يغفر الله للوط إن كان ليأوي إلى ركن شديد }[97]
ويذكر القرطبي أن الله بعد ذلك لم يرسل رسولاً إلا وجعل له رهط يقفون إلى جواره ويحمونه [98].
وهنا يبرز سؤال مفاده أليست الآية آية استعلاء وتحدّي ؟ نعم إنها ليست كذلك.
ألا ترى أنه لا يوجد فيها حرف من حروف الاستعلاء عدا القاف في ( قوة ) ولعلك تدرك أن القوة مما يستعلي به الإنسان في مثل هذه المواقف.
لقد كانت الأصوات المستخدمة في هذه الآية هي أصوات الاستفال واللين والترقيق والهتف.
فاللام رخوة لينة مستفلة مرققة، وكذا النون، والهمزة حرف مهتوف سميّت بذلك لخروجها من الصدر كالتهوّع[99]، والواو والياء حرفا لين.
ثم انظر إلى القلقلة في الدال التي ترسم لك صورة اضطراب، فهو لا يدري ماذا يصنع ليحمي ضيوفه، فليس لديه قوّة ليظهر بها عليهم، وليس له ركن شديد يأوي إليه.
لقد استطاعت هذه الأصوات مع بعضها بعضاً أن ترسم هذا الجو بكل مشاعره وإيحاءاته.
ثالثاً: علاقة المد بالمعنى:
يكاد لا يخلو كتاب من كتب التجويد والقراءات من تناول المدّ، والحديث عن أنواعه ومقدار المد فيها، وغير ذلك.
وقبل التعرض لعلاقة المدّ بالمعنى نبدأ بالوقوف على معنى المدّ كما ورد في كتب اللغة، عن ذلك يقول ابن فارس: ( الميم والدال أصل واحد يدل على جر في طول، واتصال شيء بشيء في استطالة. تقول مددت الشيء أمدّه مدّاً )[100]
ويذكر ابن منظور أن: ( لكل شيء دخل فيه مثله فكثره: مد يمده مدّاً، وفي التنزيل العزيز { والبحر يمدّه من بعد سبعة أبحر }[101] أي يزيد فيه ماء من خلفه تجره إليه وتكثره ) [102].
هذه الزيادة هي ما يسمّيه الزمخشري بالمطاولة والمماطلة حيث يقول: ( فلان يماد فلاناً: يطاوله ويماطله )[103].
فهذا المطل وهذا التطويل ما هو إلا زيادة في الشيء، ولذلك يقول الفيومي: ( ويقال للسيل مدّ لأنه زيادة، فكأنه تسمية بالمصدر، وجمعه مدود )[104].
والزيادة في الصوت هي زيادة زمنية في نطاق الصوت، ولهذا يقول الكفوي: ( سميت المدّة مدّة لأنها تمتد بحسب تلاصق أجزائها أو تعاقب أبعاضها، فالامتداد إنما يصحّ في حق الزمان والزمانيّات)[105].
ومن هذه التعريفات يمكن أن نخرج بمعنى المدّ في المفهوم اللغوي بأنه ما أفاد:
(الجذب، الكثرة، الطول، المطل، التوسّع، الإمهال، الارتفاع، اتصال الشيء في استطالة، الزيادة، التطاول، الانبساط)
ومن هنا نلحظ أن مصطلح المدّ قد امتد حتى شمل هذه المعاني جميعها.
معنى المد في اصطلاح القرّاء:
يعرّفه ابن الجزري بقوله: ( هو عبارة عن زيادة مطّ في حروف المدّ على المد الطبيعي، وهو الذي لا يقوم ذات حرف المدّ دونه )[106].
ويوضّح البغدادي أن هذه الزيادة زيادة زمنية في تفريقه بين المدّ والقصر حيث يقول: ( المدّ طول زمان الصوت والقصر الأصل )[107].
أقسام المد:
يقسم علماء التجويد المدّ إلى قسمين[108]:
أ- المد الطبيعي ( الأصلي ) ويمدّ حركتين.
ب-المد الفرعي: وهو على ستة أقسام:
1- المد الجائز المنفصل: وهو أن يأتي حرف المد في كلمة والهمز في كلمة ثانية، ويمدّ من أربع حركات إلى خمس.
2- المد الواجب المتصل: وهو أن يأتي حرف المد وبعده الهمز في نفس الكلمة، ويمدّ من أربعة إلى خمس حركات.
3- مد البدل: وهو أن يأتي حرف المد وقبله همزة ولا يوجد بعده همز ولا سكون مثل آدم ويمد حركتين.
4- المد العارض للسكون: وهو أن يأتي بعد حرف المدّ حرف متحرك حال الوصل وعند الوقف على الكلمة يسكن هذا الحرف ويمد من 2- 6 حركات.
5- مد اللين: وهو أن يأتي الواو والياء الساكنتان المفتوح ما قبلهما مع الوقف على الحرف الذي بعدهما ويجوز مدّه من 2-6 حركات.
6- المد اللازم: هو أن يأتي سكون أصلي ثابت في الوصل والوقف بعد حرف المدّ سواء أكان في كلمة أم في حرف. ويمدّ ست حركات.
العلاقة بين المدّ والمعنى:
سأحاول في هذا الجزء من البحث أن أتعرّض لثلاثة أنواع من المد هي: ( المد الواجب المتصل، والمد الجائز المنفصل، والمد اللازم )
1- المد الواجب المتصل:
قبل أن أعرض لشواهد المد الواجب المتصل، أذكر بأن المد الواجب المتصل يسمّى واجباً لإجماع القراء على وجوب مدّه، ومتصلاً لأن حرف المد والهمز واقعان في كلمة واحدة.
شواهد المد الواجب المتصل:
1- السماء:
مشتقّة من السمو وهو الارتفاع والعلو، قال الزجاج: ( السماء في اللغة يقال لكل ما ارتفع وعلا )[109] وهنا نذكر بأن الارتفاع هو أحد المعاني التي قد يعنيه المد.
المد في السماء متصل، فهل السماء في ذاتها ممتدة ؟ يقول الكفوي: ( كل أفق من الآفاق فهو سماء )[110] والأفق ممتد بل وما يزال يتمدد ويتسع، فقد اكتشف العلماء أخيراً أن كل المجرات تبتعد عنا بأسرع مما تبتعد به المجرات القريبة، وأن أسرع معدل للابتعاد حتى الآن أمكن قياسه 40.000 ميل في الثانية، إنهم يعلنون إذاً أن الكون يتسع ويتمدد ويقولون: ( إنه في اتساع دائم )[111] ويعللون لذلك بقولهم: ( لأن الخالق العظيم أراد أن يكون خلق المادة مستمراً، وهذا يدفع الكون إلى التمدد، لأن خلق المادة يؤدي إلى مطّ الفضاء مطّاً كالبالون، وهذا يؤدي إلى تباعد تجمّعات المجرّة بعضها عن بعض )[112] لقد أصبح تمدّد الكون واتساعه حقيقة علمية وأصبح يعدّ من أعظم الظواهر التي اكتشفها العلم الحديث، فهو كالبالونة التي تنفخ كل يوم نفخة فتتسع البالونة بقدر النفخ، إلى أن يأتي يوم ينفخ فيها نفخة واحدة فتنفجر البالونة، وينتهي كل شيء[113].
فالسماء في تمدد وزيادة واتساع، وتعال بنا نقرأ قول المولى عز وجل: ( والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون )[114].
من هنا يمكننا الربط بين تمدد السماء واتساعها، وهذا المد المتّصل في لفظها.
2- جزاء:
3- عطاء:
جاء في وصفه تعالى لما للمتقين من مفاز في سورة النبأ بأنه: ( جزاء من ربك عطاءً حساباً )[115] ونلحظ هنا مجيء لفظي( جزاء، عطاء ) ممدودين مدّاً متصلاً. فما وجه الدلالة في ذلك ؟
ورد في المعجم الوسيط: ( جزى جزاء: كفى وأغنى، وجازاه: أثابه وعاقبه )[116] وفي الكليات: ( جزاء: يقال في النافع والضار )[117] إذاً فلفظ الجزاء لفظ ممتد يشمل الشيء ونقيضه.
والعطاء قال فيه الكفوي: ( العطاء للغني والفقير والناس لا يحصون )[118] وقال تعالى: { كلّاً نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً }[119] فهو عطاء ممتد ليشمل المؤمن والكافر، الغني والفقير.
هذا من جانب، ومن جانب آخر وعند رؤيتنا للآية الكريمة من سورة النّبأ وتفسيرها عند المفسرين نجد الآتي:
يقول الرازي: ( عطاءً حساباً: أي بقدر ما وجب له فيما وعده من الأضعاف، لأنه تعالى قدر الجزاء على ثلاثة أوجه: وجه منها على عشرة أضعاف، ووجه على سبعمئة ضعف، ووجع على مالا نهاية له. وقال ابن قتيبة: ( عطاءً حساباً ) أي كثيراً وأحسبت فلاناً أي أكثرت له )[120].
وقال ابن عاشور: ( ووصف الجزاء بعطاء وهو اسم لما يعطى، أي يتفضل به بدون عوض للإشارة إلى أن ما جوزوا به أوفر مما عملوه، فكان ما ذكر للمتقين من المفاز وما فيه من جزاء شكراً لهم، وعطاء كرماً من الله تعالى، وكرامة لهذه الأمة إذ جعل ثوابها أضعافاً، وحساباً: اسم مصدر حسب يحسب إذا عد أشياء، فوقع ( حساباً ) صفة ( جزاء ) أي هو جزاء كثير مقدّر على أعمالهم والتنوين فيه للتكثير )[121].
إذاً فهو جزاء ممتد وعطاء كثير، ألا ترى إلى إيضاح ذلك في قوله تعالى: { وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاءً غير مجذوذ }[122]، فالعطاء هنا يفسر العطاء هناك: إنه عطاء غير مجذوذ. قال القرطبي: ( أي غير مقطوع )[123]، وقال الزمخشري: ( غير مقطوع، ولكنه ممتد إلى غير نهاية )[124]، وهذا هو رأي جمهور المفسّرين[125].
من هنا ندرك طبيعة العلاقة بين هذا المد المتصل في ( جزاء، وعطاء ) ومعنى اللفظين سواء أكانا منفردين أم داخل السياق القرآني.
4- جاء: أغلب المعاجم اللغوية تجمع على أن (جاء) بمعنى (أتى). فهل هما كذلك فعلاً ؟ لننظر في ذلك.
( جاء ) فعل ماضٍِ ممدود مداً متصلاً، و ( أتى ) فعل ماضٍ مقصور آخره ألف مقصورة. وكلاهما يفيد معنى الحضور، ولكن هل المجيء بما فيه من مد متصل يمكن أن يطلق على نفس الحدث الذي يدل عليه الفعل المقصور ( أتى ).
من خلال العلاقة التي نقرر وجودها بين المدّ والمعنى يمكننا القول بوجود فرق بين ( جاء وأتى ).
فجاء بما فيها من مدّ يمكن أن تطلق على حدث الحضور من مسافة ممتدّة، أو الحضور مع صعوبة ومشقّة يواجهها المرء في حضوره، أما أتى بما فيها من قصر فيمكن أن تطلق على حدث الحضور من مسافة قصيرة حضوراً ليس فيه مشقّة ولا تعب.
ألا ترى معي إلى قول الله تعالى: { وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى }[126].
قال القرطبي: ( ومنزله عند أقصى باب من أبواب المدينة )[127]، وقال الآلوسي: ( وجاء من أقصى المدينة أي من أبعد مواضعها )[128].
وكذلك عندما بعث فرعون في المدائن حاشرين ليأتوه بكل سحّار عليم: { فلمّا جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين }[129]. لقد كان مجيئهم من المدائن البعيدة فهو مجيء من مسافة ممتدة.
أما أتى فانظر معي إلى هذه الآية: { فتولّى فرعون فجمع كيده ثم أتى }[130]، إن هذه الآية الواحدة القصيرة تحكي حدوث ثلاثة حركات متواليات: ذهاب فرعون وتوليه، وجمع الكيد، والإتيان به.
والإتيان كان من قصر فرعون إلى المكان المتفق عليه وهو ميدان الاحتفال بالعيد، وفي ضوء ما ذكره ابن عاشور من أن قلب المدينة هو مسكن حكامها، إذ المعتاد أنهم يسكنون وسط المدينة[131].
في ضوء هذا نعتقد أن المسافة بين قصر فرعون وميدان الاحتفال مسافة قصيرة ليست بالممتدة لذلك جاء فعل ( أتى ) المقصور.
ثم للنظر إلى قوله تعالى: { أتى أمر الله فلا تستعجلوه }[132]، وأمر الله قريب ألا ترى إلى قوله تعالى: { إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً }[133].
من هنا أيضاً ندرك مدى العلاقة التي تربط نوع المدّ بالمعنى، وهذا واضح لمن تأمّله.
5- الملائكة:
المد فيها واجب متصل، والملائكة كما جاء وصفهم في القرآن الكريم ذوو أجنحة متزايدة، قال تعالى: { الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير}[134]
قال الزمخشري: ( والمعنى أن الملائكة خلقاً أجنحتهم اثنان اثنان أي لكل واحد منهم جناحان، وخلقاً أجنحتهم ثلاثة ثلاثة، وخلقاً أجنحتهم أربعة أربعة )[135].
وقال ابن عاشور: ( وذلك قد تتعدد صفوفه فتبلغ أعداداً كثيرة )[136].
ثم لنلحظ قوله تعالى: { يزيد في الخلق ما يشاء }، قال القرطبي: ( أي في خلق الملائكة في قول أكثر المفسّرين )[137].
إذاً فالله سبحانه وتعالى يزيد في خلق الملائكة ما يشاء، أي يمدّهم في الخلق، لأن المدّ هو الزيادة.
ثم للنظر في وصف بعض الملائكة كما ورد في الأحاديث الصحيحة، فقد ورد في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام له ستمئة جناح. وعن الزهري أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم : (( يا محمد لو رأيت إسرافيل إن له لاثني عشر ألف جناح، منها جناح بالمشرق وجناح بالمغرب.... الحديث ))[138]. فأي امتداد هذا. والأحاديث كثيرة في هذا الباب، نكتفي بما أوردناه لنصل إلى إيضاح علاقة هذا المد المتصل في لفظ ( الملائكة ) بهذه المعاني المتّصلة بذات الملائكة.
2- المد الجائز المنفصل:
سُمّي جائزاً لاختلاف القراء في مدّه – كما سبق – فبعضهم يمدّ وبعضهم لا يمدّ، وسُمّي منفصلاً لأن حرف المد في كلمة والهمز في كلمة أخرى.
كما يطلق عليه مد البسط، لأنه يبسط بين كلمتين. ويقال: مدّ الاعتبار لاعتبار الكلمتين من كلمة، ويقال: مدّ حرف لحرف أي مدّ كلمة لكمة.
شواهد المد الجائز المنفصل:
1- يقول الله تعالى على لسان نبيّه هود عليه السلام: { ويا قوم استغفروا ربّكم ثم توبوا إليه }[139]
المدّ في: ( توبوا إليه ) إنه أمر بالتوبة، فهل جميع الناس تتوب ؟
إن بعضاً منهم يتوب، وبعضاً لا يتوب، وكذلك المدّ بعضهم يمدّ وبعضهم لا يمدّ، كما أنه مدّ منفصل، وهذا واضح أيضاً فالتوبة لكي تنفع صاحبها لابدّ من أن تقبل، فالتوبة من العبد والقبول من الله.
فإذا لم يوجد القبول فلن يتحقق الغرض من التوبة، كذلك المدّ فحرف المدّ في كلمة والهمز في أخرى، ولو لم يوجد الهمز لما تحقّق المدّ.
2- قال تعالى: { قولٌ معروفٌ ومغفرةٌ خيرٌ من صدقةٍ يتبعها أذى }[140]
المدّ في: ( يتبعها أذى ).
والسؤال هنا: هل كل صدقة يتبعها أذى ؟ الإجابة بالتأكيد: لا. فهناك صدقات يتبعها أذى وهناك صدقات لا يتبعها أذى إذاً فالمسألة مختلف فيها كما هو الحال في المد الجائز.
قال القرطبي: ( والمراد الصدقة التي يمنّ بها ويُؤذى، لا غيرها، والعقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات ولا تحبطها، فالمن والأذى في صدقة لا يبطل صدقة غيرها )[141]
ثم إن الحكم الذي تقرّره الآية من أن قول المعروف والمغفرة خير من الصدقة لا يكون إلا في حالة وجود الأذى بعدها. وكذلك هو المدّ لا يكون في الحرف إلا إذا أتبعه همز، فإذا لم يتبعه همز فلا يتحقق المد، وتلك كذلك فالصدقة إذا لم يتبعها أذى خير من قول معروف ومغفرة، والله أعلم.
3- قال تعالى: { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم.... الآية }[142]
المد في: ( تسترضعوا أولادكم ).
قال القرطبي: ( أي لأولادكم غير الوالدة، قاله الزجاج، وقال النحاس: التقدير في العربية: أن تسترضعوا أجنبية لأولادكم )[143]. وجاء في التحرير والتنوير: ( أي إن أردتم أن تطلبوا الإرضاع لأولادكم في إثم في ذلك، والاسترضاع أصله طلب إرضاع الطفل، أي طلب أن ترضع الطفل غير أمه، فالسين والتاء في تسترضعوا للطلب ومفعوله محذوف، وأصله أن تسترضعوا مراضع لأولادكم، لأن الفعل يُعدّى بالسين والتاء – الدالين على الطلب – إلى المفعول المطلوب منه الفعل فلا يتعدّى إلا إلى مفعول واحد وما بعده يُعدّى إليه بالحرف )[144]. فلماذا حذف الحرف إذاً ؟ وما السر وراء حذف اللام من السياق ليتحوّل الأمر إلى مد جائز منفصل ( تسترضعوا أولادكم ) بدلاً من ( تسترضعوا لأولادكم ) ؟ هل هناك ارتباط بين هذا المد وبين دلالة الآية ومعناها ؟
للإجابة عن هذا التساؤل نحتاج إلى العودة إلى فهم معنى الآية والموضوع الذي تتحدث عنه.
إنها تتحدّث عن إرضاع الأولاد من قبل غير والدته في حالة تعذّر على الوالدة إرضاعه لمرضها أو تزوّجها أو إن أبت ذلك حيث يجوز لها الإباء، قال القرطبي: ( وعلى هذا يكون في الآية دليل على جواز اتخاذ الظئر إذا اتفق الآباء والأمهات على ذلك )[145] إذاً فالحكم هو الجواز فق دلّ قوله تعالى على أنه ليس المراد تشريع وجوب الإرضاع على الأمهات، بل المقصود تحديد واجبات المرضع على الأب، وأما إرضاع الأمهات لأولادهن فموكول إلى ما تعارفه الناس، والأصل في العرف أن الأم يلزمها رضاع ولدها، إلا أن مالكاً رحمه الله دون فقهاء الأمصار استثنى المرأة ذات الحسب، فقال: لا يلزمها رضاعة، فأخرجها من الآية وخصّصها بأصل من أصول الفقه وهو العمل بالعادة [146].
ومن هنا نجد أنه وانطلاقاً من المد الجائز المنفصل الموجود في الآية ما يلي:
1- يجوز للأم أن ترضع ولدها، ويجوز لها أن تأبى إرضاعه.
2- في حال انفصال الوالدين عن بعضهما، فيجوز أن ترضع الأم ولدها مقابل أجر معلوم، ويجوز أن يتخذ للولد مرضع وهذا على الأب. قال الزمخشري: ( وعليه أن يتّخذ له ظئراً إلّا إذا تطوّعت الأم بإرضاعه، وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه )[147]
3- اختلف الفقهاء في مسألة جواز استئجار الأم لإرضاع ولدها، فعند أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز استئجار الأم ما دامت زوجة أو معتدّة من نكاح، وعند الشافعي يجوز.
إذا نجد من خلال ما سبق علاقة وثيقة بين المعنى وحكم المد الجائز المنفصل، فكما أنه يجوز للقارئ أن يمد، فكذلك يجوز للأب أن يسترضع مرضعاً ليمد لولده فترة الرضاعة ليستوفي حولين كاملين إن أراد أن يتمّ الرضاعة. والله أعلى وأعلم.
4- المد اللازم:
ويتحقق إذا وقع بعد حرف المدّ ساكن، وسُمّي لازماً للزوم مدّه: ليصل بالمدّة إلى اللفظ بالساكن.
من شوهد المدّ اللازم:
أ- قول الله سبحانه وتعالى لأم موسى: { إنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين }[148]
هذه الآية فيها وعد من الله عز وجل لأم موسى أنه سيردّ إليها ولدها موسى عليه السلام بعد أن تلقيه في اليم، ونهاها عن الخوف والحزن، والجملة في موقع العلّة للنهيين، لأن ضمان ردّه إليها يقتضي أنه لا يهلك وأنها لا تشتاق إليه بطول الغياب[149] فكان لزاماً تحقق الوعد وإيفائه، لأنه وعد من الله ووعد الله حق، وقد كان ذلك { فرددناه إلى أمّه كي تقرّ عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حقٌّ ولكنّ أكثرهم لا يعلمون }[150]، فالمدّ اللازم، وإيفاء الوعد لازم، وتحقق الردّ لازم، وهذه هي العلاقة بين نوع المدّ والمعنى واضحة جليّة.
ب-قول المولى عز وجل: { ولا يضارّ كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوقٌ بكم }[151]
في الآية نهي عن المضارّة، وفيها قراءتان ( يضارِرْ، يضارَرَ )[152] فتكون مع الإدغام والتشديد محتملة لأن تكون مبنيّة للفاعل أو مبنيّة للفاعل أو مبنيّة للمفعول. فعلى المعنى الأول يكون النهي للكاتب والشاهد عن ترك الشهادة، وترك الإجابة إلى ما يطلب منهما، وعن التحريف والزيادة والنقصان. وعلى الثاني النهي عن الإضرار بهما بأن يعجلا عن مهم أو لا يعطى الكاتب حقّه، أو يحمل الشاهد مئونة المجيء من بلد إلى بلد[153].
إذا أصبح عدم الإضرار بالكاتب والشاهد أو منهما لازماً، لأنه لو حدث ذلك فهو فسوق وعصيان فناسب هذا المعنى هذا المدّ اللازم في هذه الكلمة.
ت-الطّامّة – الصّاخّة – الحاقّة:
الطّامّة: هي الحادثة أو الواقعة التي تطمّ، أي تعلو وتغلب بمعنى تفوق أمثالها من نوعها بحيث يقل مثلها من نوعها، مأخوذ من طمّ الماء إذا غمر الأشياء. وهذا الوصف يؤذن بالشدّة والهول إذ لا يقال مثله إلّا في الأمور المهولة، والقيامة تطمّ على كل شيء، وتُسمّى الداهية التي لا يستطاع دفعها: طامّة[154].
والصّاخّة: صيحة شديدة من صيحات الإنسان تصخّ الأسماع أي تصمّها [155].
الحاقّة: اسم فاعل من حقّ الشيء يحقّ إذا كان صحيح الوجوب، ومنه حقّت كلمة العذاب والمراد به القيامة والبعث، وقال ابن عباس سُمّيت القيامة حاقّة، لأنها تبدي حقائق الأشياء.[156]
وهذه الكلمات عبارة عن أسماء ليوم القيامة، ويوم القيامة آت لا محالة ولا ريب ولا شك فيه، فهو لازم الوقوع، والآيات الدّالّة على ذلك كثيرة.
وأغلب ظنّي أن هذا المدّ اللازم يوحي بلزوم تحقّق معنى الآية الواردة فيها، وهذا ظاهر من جميع الآيات التي تتحدث عن وقوع الساعة.
يقول ابن عاشور في حديثه عن الحاقّة: ( وإيثار هذه المادّة وهذه الصيغة يسمح باندراج معانٍ صالحة بهذا المقام فيكون ذلك من الإيجاز البديع لتذهب نفوس السامعين كل مذهب ممكن من مذاهب الهول والتخويف بما يحقّ حلوله بهم )[157]
هذه إشارات في علاقة المدّ بالمعنى، وأن المعنى يأتي ليضيف على النص إيحاء لم يكن ليظهر لو لم يوجد المد.
والكلام هنا أطول من هذا، لكن هذا مفاده طلباً للإيجاز.
فهذا ونحوه – مما سبق – أمر إذا أنت أتيته من بابه، وأصلحت فكرك لتناوله وتأمّله أعطاك مقادته وأركبك ذروته، وجلا عليك بهجاته ومحاسنه، وإن أنت تناكرته، وقلت: هذا مذهب صعب موعر، حرمت نفسك لذّته، وسددت عليها باب الحظوة به.
وقد ذكرنا في الإبانة عنه وجيزاً من القول رجونا أن يكفي، وأملنا
وقد ذكرنا في الإبانة عنه وجيزاً من القول رجونا أن يكفي، وأملنا أن يقنع، والذي سطّرناه وإن كان موجزاً، وما أمليناه فيه وإن كان خفيفاً، فإنّه ينبّه على الطريقة ويدلّ على الوجهة ويهدي إلى الحجّة.
ومتى عظم محل الشيء فقد يكون الإسهاب فيه غيّاً، والإكثار في وصفه تقصيراً.
والله الموفّق إلى سواء السبيل ,,,,
هذا البحث قدم إلى مؤتمر كلية الشريعة السابع المنعقد بجامعة الزرقاء الأهلية – الأردن في الفترة 23-25 / آب 2005م
أن يقنع، والذي سطّرناه وإن كان موجزاً، وما أمليناه فيه وإن كان خفيفاً، فإنّه ينبّه على الطريقة ويدلّ على الوجهة ويهدي إلى الحجّة. ومتى عظم محل الشيء فقد يكون الإسهاب فيه غيّاً، والإكثار في وصفه تقصيراً. والله الموفّق إلى سواء السبيل ,,,, هذا البحث قدم إلى مؤتمر كلية الشريعة السابع المنعقد بجامعة الزرقاء الأهلية – الأردن في الفترة 23-25 / آب 2005م
أن يقنع، والذي سطّرناه وإن كان موجزاً، وما أمليناه فيه وإن كان خفيفاً، فإنّه ينبّه على الطريقة ويدلّ على الوجهة ويهدي إلى الحجّة.