إشراقات علمية لآيات قرآنية في الأذن والأنف والحنجرة (1)
الناقل :
mahmoud
| الكاتب الأصلى :
د/ إسلام محمد
| المصدر :
www.55a.net
قال الله تعالى:
)
إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين. وما أنت بهادي العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون
(
[سورة النمل : 80 ، 81].
وقال الله تعالى:
)
فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين. وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون
(
[سورة الروم: 52 ، 53].
مع النصف الثاني من القرن العشرين بدأ العلماء في محاولة جادةلحل مشكلة فاقدي السمع بصورة كاملة، أي: الصم تعريفاً، أما فاقدوا السمع بصورة جزئية فهم علمياً لا يطلق عليهم اسم الصم، بل معاقي السمع أو ضعاف السمع (
hard of hearing and not deaf
) فالصمم: هو الفقد الكامل للحاسة السمعية، بما يناظر العمى الذي هو فقد كامل للإبصار وليس ضعف النظر فحسب.
وقد بدأ حلم تعويض حاسة السمع المفقود بصورة كلية (الصمم) يتبلور شيئاً فشيئاً مع تقدم علوم الطب والفهم الأعمق لخصائص السمع بما يتواكب مع تقدم علم الفيزياء، بما فيه من فهم أعمق لطبيعة الصوت وانتقاله في الأوساط المختلفة، وكذلك فهم أسلوب تحويل الإشارات السمعية الصوتية المعقدة إلى نبضات كهربائية ذات جوانب وصفات متعددة جداً وشديدة التعقيد، بحيث تتوازى بدقة مع خصائص الموجة الصوتية، وأيضاً الفهم الأعمق لطبيعة عمل كهربية المخ، وكذلك مع تقدم العلوم الالكترونية والتقدم التقني في هندسة الأجهزة الالكترونية.
من كل هذه القواعد المتقدمة انطلقت فكرة ما يسمى بزرع القوقعة السمعية (
implant
cochlear
) أو
ear
(
Electronic
) أو (
Bionic ear
)أي: الأذن الالكترونية، وهي فكرة تقوم على محاولة محاكاة ما خلقه الله لنا من آليات سمعية تركزت في الأذن ومراكزها العصبية داخل الجهاز العصبي المركزي. حيث تم تطوير أجهزة الكترونية دقيقة ومعقدة تحول الرسالة الصوتية بما فيها من تضاغطات وتخلخلات في جزئيات الوسط الحامل للصوت (الهواء هنا) إلى ذبذبات ميكانيكية، وتلك يقوم جهاز معين بتحويلها إلى نبضات كهربية لها خصائص موازية لخصائص الصوت المنشئ لها أولاً. هذا فيما يختص بالجهاز الالكتروني الذي يحاكي عمل الأذن الداخلية من حيث وظيفة ترجمة التضاغطات والتخلخلات إلى تيار كهربي محفز لمراكز عصبية معينة في المخ وقد تطورت هذه الأجهزة بشكل مثير جداً إلى حد أنها أصبحت تحتوي على ألياف تعد بالمئات تسمى الأقطاب، يختص كل قطب منها بنقل التيار الكهربي المترجم عن الصوت والمعبر عنه إلى مناطق تحفيز الجهاز السمعي.
صورة تبين آلية عمل جهاز القوقعة السمعية
وتطورت أيضاً بالتوازي مع هذا التطور التقني تقنيات جراحية نقلت مناطق غرس هذه الأقطاب من مواضعها المبدئية من حيث الغرس خارج القوقعة السمعية إلى حد زرعها داخل القوقعة الرقيقة نفسها، بل وفي كل مليمتر منها، ثم تطورت الجراحات بصورة أكثر لتتخطى القوقعة السمعية نفسها كلية وتزرع فوق عصب السمع داخل تجويف الجمجمة لتحفيز هذا العصب مباشرة، ثم حدث تطور أشد فأصبحت تلك الأقطاب تزرع داخل جذع المخ ذاته وعلى امتداد المسارات العصبية للسمع داخل أنسجة المخ، مما أدى في النهاية إلى التخطي الكامل للأذن المعطوبة ونقل إشارات الصوت الخارجية للمراكز العصبية داخل المخ مباشرة... وهكذا تم تقريباً استنفاذ كل تقنيات عصر الفضاء التكنولوجية المعقدة في تلك المحاولات، وكذلك تم استنفاذ كل الأماكن التشريحية المحتملة في الرأس البشرية كأماكن للتحفيز السمعي سواء في الأذن أو في المخ... وبعد عقود من التجارب المستمرة على كل أنماط الأجهزة وكذلك المواقع التشريحية خلص العلماء للنتائج التالية:
(1) النوعية الملائمة من المرضى الذين يحتمل استفادتهم من الجهاز ينبغي اختيارهم من بين الذين سمعوا وتعلموا الكلام بصورة مبدئية، ثم فقدوا حاسة السمع بعد ذلك، أي في المرحلة المسماة مرحلة ما بعد اكتساب اللغة أما الصم الذين لم يسمعوا مطلقاً ولم يتعلموا الكلام ـ أي أن المخ لديهم لم تصله إشارات سمعية ولم يتكون فيه إدراك أو وعي بماهية السمع ـ فالنتائج لديهم غير مشجعة، ومن الصعب ـ إن لم يكن من المستحيل ـ أن يكتسبوا لغة وكلاماً معقداً وراقياً ومتطوراً يمكنهم من التواصل والاتصال اللغوي مع باقي أفراد المجتمع.
(2) حتى المرضى المصنفون في مجموعة (ما بعد اكتساب اللغة) وجد أن أكثرهم استفادة هم:
(أ) الحديثو العهد بالصمم، حيث إنه كلما طالت مدة الصمم كلما قلت الاستفادة من الجهاز، وقد عزى ذلك إلى طول العهد بالصمم يؤدي إما لضمور وضياع وظيفة المسارات العصبية المختصة بالسمع داخل المخ، أو نسيان المخ لمدلول الكلام ذاته.
(ب) المرضى الذين يركزون على حاسة البصر أثناء الصمم كحاسة اتصال بديلة (قراءة الشفاه) هم الأكثر استفادة من الجهاز الالكتروني.
* وثبت أنه في أي مكان تشريحي يتم فيه زرع الجهاز ـ ومهما بلغ تعقيد هذا الجهاز ـ فلا يمكن أن يؤدي ذلك مطلقاً إلى نشوء سمع لكلام متصل معقد، بل إن أقصى ما يستطيع أن يقدمه هو مجموعة
الأصوات التي يدركها المخ، وتلك لا تصلح بذاتها لتكوين كلام أو لغة، وهي ـ على أحسن الفروض ـ إشارات مساعدة لعملية قراءة الشفاه، ووجد أن المرضى الذين يجيدون قراءة الشفاه هم الذين يستفيدون فعلاً من الجهاز كأداة تواصل سمعي ولغوي؛ لذا أصبحت تجري أولاً وقبل زرع الجهاز الالكتروني اختبارات لحاسة البصر بهدف اكتشاف ثم تحسين عيوب البصر قبل زرع الأقطاب الالكترونية، وكذلك تجري اختبارات لقدرة المرضى على قراءة الشفاه، ويختار فقط منهم من له قدرة جيدة على ذلك، أما الآخرون فينبغي إجراء برامج تأهيلية مكثفة لهم بهدف تحسين تلك القدرة قبل إجراء جراحة الغرس.
نخلص مما سبق إلى عدة حقائق هي:
(1) أن المسارات العصبية للسمع قد تضمر أو تختفي وظائفها مع عدم استعمالها الناشئ عن الصمم، ويتناسب هذا الضمور طردياً مع طول مدة الصمم، وعكسياً مع الاعتماد على حاسةالبصر كآلية تعويضية، أي أنه يمكن القول أن قراءة الشفاه في حد ذاتها ورغم أنها رسالة بصرية ضوئية تسير في المسارات البصرية العصبية داخل المخ، إلا أنها تبقى مسارات السمع العصبية بصورة نشطة، أي قطعاً أنه يوجد هناك تحفيز ما لهذه المسارات المختصة بالسمع عن طريق تلك الإشارات البصرية رغم تباعد واختلاف المسارات العصبية للحاستين تشريحياً.
(2) بعد استنفاد كل المحاولات الالكترونية والجراحية لم يمكن نقل إشارات كلام كاملة للمخ عند الصم، بل على أحسن الفروض أمكن نقل بعض الأصوات المبهمة التي تحتاج لمساعدة وتعزيز بعملية قراءة الشفاه وصولاً لفهم الإشارة الضوئية.
(3) تأهيل وتدريب المرضى بعد عمليات زرع الأذن الالكترونية ينبغي أن يسلك طرقاً مزدوجاً، هو طريق سمعي _ بصري، أي: يتدرب المريض للمواءمة مع الجهاز السمعي الالكتروني، وذلك بالتوازي مع التدريب البصري على حدة، ودقة التقاط مدلولات قراءة الشفاه.
بعد هذه المقدمة العلمية تعالوا لنعود ونتأمل ثانية آياتنا القرآنية الموجزة جزءاً جزءاً على ضوء الحقائق التي تثبت حديثاً في هذا الموضوع:
(1)
)
إنك لا تسمع الموتى
(
:
وتلك هي حقيقة علمية مؤكدة لم يمكن اكتشافها إلا حديثاً جداً، فقد لوحظ أن الحاسة الوحيدة التي تبقى عاملة نشطة سواء في المراحل الأولية للتخدير أو في حالات الغيبوبة هي حاسة السمع، حيث إن الأحاسيس الجسدية العامة كأحاسيس الألم والحرارة أو وضع المفاصل وكذلك الأحاسيس الخاصة مثل خاصية البصر تذهب منكراً في مراحل التحذير الأولى، في الوقت ذاته الذي تبقى فيه حاسة السمع نشطة، وقد أدى ذلك إلى حدوث بعض القضايا الطبية الطريفة، منها مثلاً الدعاوى القضائية التي رفعتها النساء ضد أطباء في بريطانيا بعد أن قام هؤلاء الأطباء بتوليدهن، حيث ظن الأطباء أن فقد الوعي الظاهر لهؤلاء النسوة تحت التخدير بمواد أوكسيد النيتروز يمنعهن من سماع ما يدور في غرفة الجراحة، فحدث أن انطلقت ألسنة هؤلاء الأطباء بالتهكم على المريضة والمولود، مما سمعته المريضة الواقعة تحت التخدير، وتقدمت بعد تمام شفائها بدعوى تعويض عن الضرر النفسي الذي أصابها، وبالمثل أيضاً نرى شبيهاً لذلك في حالات الغيبوبة، حيث إن الأطباء المشرفين على تلك الحالات في البلدان المتقدمة أصبحوا دائماً يطلبون من أحباء المريض أن يلتفوا حول فراشه وأن يواصلوا الكلام معه باستمرار، حيث إنه ثبت ولأسباب غير محددة علمياً بدقة أن ذلك يساعد في سرعة شفاء تلك الحالات، ومن الطرف أيضاً أن بعض هؤلاء المرضى الذين استعادوا الوعي بدأوا في سرد الأحاديث التي دارت حولهم وهم في غيبوبتهم بدقة شديدة.
نقول أيضاً: إنه ثبت أن رسم رد الفعل السمعي المستحث
Evoked Response
Auditory
وهو من الفحوص التي ترصد كهربية المخ نتيجة للاستجابة للمؤثرات السمعية هو أصدق القرائن التي تثبت أو تنفي (موت المخ الإكلينيكي)حيث إن تلك الإشارات التي يمكن رصدها على طول مسارات السمع العصبية لا تختفي إلا بالموت الكامل، وهذا مثلاً يخالف نتائج رسم المخ الكهربي العادي
EEG
الذي ثبت أنه قد يختفي تماماً، بينما المخ لا يزال حياً ولم يمت بعد في حالات مرضية متعددة مثل التسمم بالعقاقير المنومة كعقاقير الباربتيورات.. وعلى هذا فإن وجود الجهاز الذي يرصد الاستجابة الكهربية في المخ للمؤثرات السمعية قد يكون فاصلاً ودليلاً لا يقبل الدحض على موت المخ أو العكس، بخلاف كل الفحوص الأخرى التي لا يمكن الاعتماد عليها بصورة قاطعة لسبب أو لآخر .. أليس هذا هو ما يقوله هذا الجزء من الآية محل البحث، حيث تعالى لم يقل مثلاً: ( إنك لا تُرى الموتى ) أو ( إنك لا تفهم الموتى ) أو ( لا تجعلهم يشعرون )، فتلك علامات إكلينيكية قد تذهب وتختفي تماماً ولا يزال الشخص حياً، بخلاف الأنشطة المتعلقة بالسمع والتي تضيع فقط مع الموت الحقيقي الكامل.
وتأكيداً للمعنى السابق دعنانراقب قول الحق:
)
وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوي الأحياء والأموات إن الله يُسمع من يشاء وما أنت بِمُسمع من في القبور
(
[سورة فاطر : 19 ـ 22].
وهنا نرى أنه تعالى قارن بين كل خاصة وضدها، فقارن بين الإبصار والعمى ـ أي: الضياع الكامل لحاسة البصر ـ وبين الظلمات التي ينعدم فيها النور تماماً وبين وجود هذا النور، وكذلك بين الانخفاض والارتفاع في درجة الحرارة، بل قارن بين الحياة والموت نفسيهما كخاصتين لا مراء في التضاد والتقابل بينهما، أما في حاسة السمع وحدها بالذات فالآيات الكريمة لم تقارن بينها وبين ضياعها على نفس النسق السابق ( في أربع آيات )، بل قارنت بين وجودها وبين الموت ذاته، فلم تقل الآيات الكريمة مثلاً ( وما يستوي السميع والأصم )، بل قالت نصاً:
)
وما أنت بِمُسمع من في القبور
(
أي أن السمع هو خاصة بيولوجية تظل عاملة ما ظلت الحياة في الجسد البشري، أي بعبارة أخرى هي الحاسة الوحيدة التي يظل وجود أي أثر لها دليلاً قاطعاً على وجود الحياة، حيث إنها لا تختفي إلا بالموت ذاته فقط ... أليست تلك هي الحقيقة العلمية الطبية التي اكتشفناها مؤخراً جداً عن زمان التنزيل؟.
(ب) ثم نأتي للجزء الثاني من الآية الكريمة
)
ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين
(
حيث نستخلص منها ما يلي:
(1) هناك تحديد علمي دقيق في القرآن للألفاظ الطبية المتعلقة بموضوع السمع، فالصمم: هو الفقد الكامل لحاسة السمع بأسلوب يتساوى مع حالته في الموتى أو بعد الموت، وأيضاً مايمكن استنتاجه من المقارنة القرآنية لتلك الحالة الواقعة تحت هذا المسمى مع الحالة البصرية المسماة (العمى) كما نراها في الآية التالية مباشرة، حيث إنه لا يوجد مطلقاً أحد يطلق على ضعيف البصر اسم (أعمى)، بل هو يطلق على الفاقد الكامل للحاسة .. إذن فالأصم هو الفاقد لحاسة السمع تماماً، وهذا هو الأسلوب العلمي الدقيق الذي يستعمل حالياً في الكتب العلمية الحديثة، حيث إن كلمة « الأصم » (
Deaf
)تطلق على فاقدي السمع بصورة كلية، أما فاقدوا السمع جزئياً فيطلق عليهم اسم " ضعاف السمع (
hard of hearing
) "وكذلك ففقد السمع الكامل هو الذي يطلق عليه الصمم (
deafness
)، أما الفقد الجزئي للحاسة فيسمى الفقد السمعي (
hearing loss
) .. لذا فإن كان هناك في الأسلوب العلمي القرآني استعمال للفظ "أعمى " بما يعني فقد البصر تماماً، وألفاظ أخرى مثل " غشاوة البصر " و " خشوع البصر " وخلافة للفقد الجزئي، فهناك أيضاً وبالمثل لفظ " الأصم " لفاقد حاسة السمع تماماً، أما الفاقدون جزئياً للحاسة وهم الأغلبية الكاسحة من المرضى فيسميهم القرآن كما سنناقش ونوضح لاحقاً بالذين ( في آذانهم وقر ) .. والخلاصة هي أن القرآن لا يزال هنا وفي تلك النقطة الطبية الحساسة المتعلقة بالمسميات والتعريفات يلتزم أشد المناهج العلمية دقة وصرامة ولا يعمم المسميات على مجموعات ذات خصائص متباينة مختلفة.
(2) تقول آيتنا العلمية بوضوح شديد وبلا مواربة إنه لا يمكنك أن تسمع الأصم شيئاً في حالة واحدة هي إذا أعطاك دبره أي ظهره
)
ولوا مدبرين
(
،أي أن الآية الكريمة تقول بصراحة إن الأصم الفاقد لحاسة السمع كلية لا يمكن وبأي أسلوب أن يسمع كلاماً متصلاً مفهوماً وباستعمال أي أجهزة مهما كانت إذا أعطاك ظهره، أي إذا لم يواجهك، والمواجهة تعني شيئاً واحداً، وهو أن يراك، أي أن يرى تعبيرات وجهك وحركات شفتيك أثناء الكلام، وتلك هي النتيجة التي توصلنا إليها مع تجارب زرع الأقطاب السمعية في نهايات القرن العشرين، حيث ثبت أن الأصم لم يسمع حتى وباستعمال أعقد أجهزة السمع الإلكتروني إلا إذا واجه المتحدث، وكان يمتلك قدرة جيدة على قراءة الشفاه.
(3) يقول تعالى بنص الآية:
)
ولا تسمع الصم
(
وعلّق سبحانه عدم حدوث هذا السمع على شرط واحد هو
)
إذا ولوا مدبرين
(
،أي أن الأصم تماماً لن يسمع إذا أعطاك ظهره وهذا هو الشرط، إذن فهو يستطيع أن يسمعك إذا أعطاك وجهه ـ أي واجهك ـ أي أن ما يحدث ليس فقط رؤية أو فراسة أو استنتاجاً من قبل الأصم إذا واجهك، بل هو ( سمع حقيقي يرتبط بالمواجهة ) وفي حالة الأصم الفاقد للحاسة تماماً، فهل يمكن على ضوء مكتشفاتنا الحديثة أن ندرك مصداقية تلك الحقيقة القرآنية؟ نقول: إن هذا هو ما استنتجته الأبحاث الحديثة أخيراً بعد كل التجارب على زرع الأقطاب السمعية الالكترونية، حيث استنتجت أن مرضى الصمم الذين يركزون على حاسة البصر وينمون ويزيدون من حدة مقدرتهم على قراءة الشفاه، تبقى المسارات العصبية المختصة بالسمع عندهم في حالة نشطة تمكنهم من الاستفادة من زرع أقطاب التحفيز الالكتروني .. أي أن تلك المسارات العصبية داخل المخ لا تضمر ولا تضيع وظائفها، مما يشير إلى حدوث نشاط ما فيها يتواكب مع استقبال الرسائل البصرية، ذلك على الرغم من أن تلك المسارات مسارات مختصة بالسمع وتختلف تماماً عن المسارات المختصة بالبصر والتي يتم تنشيطها عند استقبال الرسائل البصرية، أي أنه ثبت حدوث نشاط ما بالمسارت السمعية عند الصم في حالة المواجهة واستقبال الرسالة البصرية المتمثلة في قراءة الشفاه .. أليس هذا هو ما نصت عليه الآية الكريمة ؟.
(4) كلمة
)
الدعاء
(
هنا كلمة ذات مدلول علمي خطير، حيث إنه في مجال المناقشة العلمية القرآنية لموضوع السمع والكلام تعني تلك الكلمة حرفياً ( أصواتاً مبهمة غير ذات مدلول لغوي واضح ) حيث يمكننا أن نستنتج ذلك من قوله تعالى :
)
ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون
(
[البقرة : 171]أي أن هذا الدعاء والنداء هما من الأصوات المبهمة غير ذات الدلالة اللغوية، بل هما مما يمكن إدراجه تحت مسمى ( النعيق ) الذي هو بالتالي أصوات فطرية تطلقها البهائم، حيث إن تلك الحيوانات لو أنتجت أصواتاً تشابه (ما تسمع) لصارت لها لغة كلامية، أما حيث إنها تنتج أصواتاً تخالف تلك التي تسمعها
)
بما لا يسمع
(
فهذا هو العلة التي اكتشفها مؤخراً علماء السمع والكلام كحاجز بين هذه الحيوانات وبين تكوين لغة صوتية .. إذن فاستعمال كلمة
)
دعاء
(
هنا بالذات يتوافق تماماً مع ما وجدناه من تجارب زرع الأقطاب السمعية، حيث ثبت قطعياً أن هؤلاء الصم لا يمكنهم السماع الفعلي حتى باستعمال أعقد الأجهزة، وكذلك أدق الجراحات إلا لما يمكن تسميته بالأصوات المبهمة المجردة، والتي لا تقوم بذاتها مقام الكلام المفهوم المترابط، أي أنهم لا يمكن إسماعهم إلا أصواتاً مبهمة مما أسماه القرآن الكريم الـ
)
دعاء
(
وسبحان الله العظيم.
(ج) ثم نصل للمحطة الأخيرة في رحلتنا داخل أعماق تلك الآيات الكريمة الرائعة، وهي الآية الثانية في كلا الموضعين، حيث يقول الله تعالى:
)
وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا
(
[النمل : 81 ، الروم: 53].
وهنا نرى مشهداً يستحق منا وقفة تأمل، يرسم لنا المولى تعالى من خلاله صورة تنتصب أمامنا حية عن الذين لا يهتدون ولا يثوبون للحق؛ وذلك لرفضهم لكافة أشكال وأساليب الهداية، وكذلك افتقادهم المبدئي للأساليب السليمة الهادية لدروب الحق، فهم مبدئياً يفتقدون الكثير من مؤهلات الاهتداء، كالأعمى الذي يفتقد حاسة البصر تماماً، ويزيدون على ذلك بإهمال ما هو متاح لهم أيضاً كوسائل أخرى تعويضية بديلة قد تخرج بهم من طريق الظلام والضلال .. يضرب لنا الحق تعالى مثل هؤلاء القوم بمشهد مثير، مشهد لعميان يتخبطون في الظلام بلا أي أمل في أن يهتدوا للطريق السليم الذي هو نقيض الضلال، أي فقد الطريق، ويقول لنا تعالى بوضوح إن السبب ـ في مثالنا هذا ـ المؤدي لهذا الضلال والتخبط ليس فقط هو العمى، بل هو اقتران هذا العمىبعدم القدرة أو الرغبة في السمع
)
إن تسمع إلا من يؤمن
(
، والحقيقة العلمية التي تسوقها الآية هي أن العميان يمكن مساعدتهم على الخروج من التخبط والتيه عن طريق السمع، ولعل هذا يقودنا إلى طرح سؤال مثير هو: هل رأى أحدكم وحتى يومنا هذا رجلاً أعمى يعتمد على السمع أو الحاسة السمعية التي هي استقبال للإشارات الصوتية ليتفادى الاصطدام والتخبط بالجدران والعوائق والمطبات؟ أو بلغة الأخرى: هل يمكن أن تقوم الآليات الصوتية السمعية محل الآليات الضوئية البصرية المفقودة عند العميان بغرض الاهتداء؟ ... والإجابة البديهية السريعة هي .. لا .. فالأعمى كما نراه جميعاً لا يعتمد على حاسة السمع، بل يعتمد على حواس اللمس سواء باليد أو بالعصا أو بخلافة ليلتمس أو يتحسس طريقه كما نقول لغوياً. إذن ما هي أبعاد تلك الأطروحة العلمية التي تقولها لنا هذه الآية الكريمة؟ .. وما هو مدى مصداقية فهمنا الفلسفي لتلك الآية؟ ..
أقول: إنه حتى زمان قريب جداً منا لم يكن هذا الفهم متاحاً، أما الآن فهو ميسور وواضح كالشمس الساطعة، فأولاً: لاحظ العلماء أن الأسلوب الحركي عند العميان المعتمد على التلمس والتحسس هو أسلوب حركي بطئ جداً وغير دقيق، وإن كان يصلح لسير بعض الأفراد لمسافات محدودة وبسرعات بطيئة فإنه حتماً لا يصلح كأسلوب حركي سريع للعمى، وبالتالي فإنه بداهة لا يصلح مطلقاً للتحرك البشري في ظلمات البر والبحر والجو، وما أكثرها بعد أن غزا الإنسان مناطق أرضية وكونية لم تكن متاحة من قبل، والكثير من تلك المناطق يفتقد لوجود أي ضوء مما يلزم لأي بصر نافع، هذا وقد بدأ البحث عن كافة الحلول الممكنة من وسائل مساعدة أو ظواهر فيزيائية وخلافه لحل تلك الإشكالية، وكان أهم الحلول مطروحاً دائماً للبشر في خلق الله تعالى، ولله المثل الأعلى دائماً وأبداً ... وقد فطن العلماء إلى أن هناك كائناً حياً يعيش دائماً في الظلمات ولا يتحرك إلا في الظلمات، واكتشفوا أنه شبه أعمى، وبالرغم من ذلك فهو ماهر وذو سرعة شديدة وقدرة تمييز عالية جداً، وهو أيضاً قناص ماهر وبارع، ألا وهو (الوطواط)، ولم تبدأ دراسة الأسلوب الحركي للوطواط إلا في عام 1793م على يد العالم لازارو سبالنزاني، وتبلورت على يد بعض العلماء في القرن العشرين مثل دونالد جريفين (1930) وغيره، حيث إن هؤلاء العلماء اكتشفوا أن الوطواط يستطيع أن يكتسب مهارته الحركية وإدراكه الحسي العالي جداً عن طريق إطلاق موجات صوتية ذات تردد أعلى من تلك التي تستقبلها الأذن البشرية، أي ما يسمى (موجات فوق الصوتية)، ثم ترتد هذه الموجات عند اصطدامها بالعوائق المختلفة وتعود للأذن الحساسة جداً للوطواط، حيث تقوم تلك الأذن بتحليل كافة أبعاد الإشارة الصوتية ومن ثم رسم صورة كاملة لكل موجودات البيئة حول الوطواط، وتلك الخاصية هي التي تسمى
location
Echo-
أي ظاهرة الاكتشاف والتحديد باستقبال الصدى الصوتي، وقد قام العلماء بمحاكاة تلك العملية في محاولة الوصول الحركية والإدراكية في التلكسات، فنراها تستعمل في الرادارات المختلفة التي ترصد كل ما يتحرك في ظلام السماوات أو قيعان البحار، حيث إن الطائرات والغواصات أصبحت لا تستغني بحال عن تلك الأجهزة، بل يستعملها العلماء الآن لاكتشاف غياهب ظلمات الجسد البشري ذاته، حيث ابتكر العلماء أجهزة (
Ultrasound Scans
) أي أجهزة الرصد والمسح بواسطة الموجات فوق الضوئية، مما يمكن من رسم صورة دقيقة لما يدور داخل ظلمات الجسد البشري وغيرها .. بل اكتشفوا أيضاً أن الوطواط يستطيع تحديد الجسم الموجود أمامه بدقة عن طريق خاصة أخرى هي (
Doppler Effect
)أي خاصة الدوبلر وذلك عن طريق تحليل نغمة الصوت المرتدة للأذن (وليس شدتها أو ارتفاعها فقط) .. واستعملت تلك النظرية حديثاً في عمل ما يسمى مجسات الدوبلر التي تستطيع اكتشاف حركة الدم في شرايين الجسد والرأس، بل وأكثر من ذلك تم أيضاً اكتشاف أن حشرات العثة ـ الفريسة المفضلة للوطواط ـ تمتلك آذاناً أكثر حساسية من الوطواط ذاته، حيث تلتقط إشارته فوق الصوتية من مكان بعيد، فتتمكن من الهرب، وأيضاً اكتشفوا أن تلك الحشرات أحياناً تطلق موجات فوق صوتية مضادة تتداخل مع ما يطلقه الوطواط فتربكه (خاصة التشويش الراداري) .. إذن فهناك في غياهب الظلمات والعمى صراع أبدي صوتي ـ سمعي بين الكائنات المختلفة التي خلقها العلي القدير تعلمنا منه الكثير، مما مكننا من التحرك الآن في غياهب الظلمات حيث لا نرى بعيوننا فنهتدي ولا نضل .. أي أنه ثبت أن الأسلوب الإدراكي والحركي الأمثل للعميان هو الأسلوب السمعي .. أليس ذاك هو ما ساقته تلك الآية القرآنية الوجيزة المنزلة منذ أربعة عشر قرناً، يوم تنزلت في عالم يتخبط في دياجير الظلمة والجهل.
ولعلي قبل أن أختم أود أن أذكر بحقيقة أخرى، وهي أن كل محاولات ابتكار ما يسمى بالعين الصناعية عن طريق التحفيز الضوئي لم تلق نجاحاً، وكل الأبحاث التي تجري حالياً في هذا المضمار تحاول ابتكار جهاز مساعد يساعد العميان في حركتهم عن طريق خواص مشابهة لما يستعمله الوطواط، أي أن ما يسمى أبحاث العين الصناعية أو الالكترونية في مفهومنا الحالي يقوم على خواص صوتية ـ سمعية بحتة، حيث تحاول ابتكار جهاز يمكنه رسم صورة للأعمى عن الموجودات حوله عن طريق أسلوب الرادار الذي يعتمد على الآليات الصوتية ـ السمعية.
وهنا أقول: إنه ينبغي وضع آية قرآنية أخرى في الوعي، عندما نرى تلك الحقائق والإنجازات العلمية تتوالى في الظهور على مسرح الأحداث إذ يقول تعالى:
)
والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم
(
[الأنعام : 39].
وهنا نرى الحقيقة العلمية القرآنية مركزة وواضحة بلا أي غموض، فالمثل الوعظي يوازيه مثل علمي عن الأسلوب الحركي في الظلمات، أي: عند غياب الضياء، فيصير البصر بلا فائدة، حيث إن الآية الكريمة تتحدث بصراحة عن الاهتداء للطريق المستقيم الصائب الصحيح أو الضلال عنه، فهي إذن آية تحدثنا عن الحركة الصحيحة في الحياة الدنيا، كما تحدثنا بمثل علمي يوازيه عن الأسلوب الحركي الأمثل في الظلمات، ولم تورد لنا الآية أسلوباً آخر للوصول لذلك إلا الأسلوب الصوتي السمعي
)
صم وبكم
(
،فالذي يضل طرقه في الظلمات بنص الآية هو من لا يستطيع استقبال الإشارات الصوتية عن طريق السمع
)
صم
(
كما لا يستطيع أن يطلقها
)
بكم
(
،وذلك تعزيز آخر للتأكيد على صفاء تلك الحقيقة العلمية الواردة في القرآن الكريم ، ولعلني أذكر ثانية هنا بأن أولى التجارب البشرية في هذا المضمار ـ مضمار التحرك البشري الأمثل في الظلمات ـ بدأت أول ما بدأت في القرن الثامن عشر بعد قرون طويلة من التنزيل القرآني على يد العالم الإيطالي سبالانزاني، حيث أجراها على الوطاويط الساكنة في إحدى الكنائس، وثبت منها أن إتلاف عيون الوطاويط لا يؤثر مطلقاً على مهارتها الحركية أو على قدرتها على القنص، أما سد آذانها فقد أدى فوراً لضلالها في المسير وتخبطها في الجدران ثم موتها جوعاً فيما بعد، وكانت تلك التجربة هي التي استند إليها علماء القرن العشرين فيما بعد لتطوير الأسلوب الحركي في الظلام عن طريق الخواص الصوتية ـ السمعية بالرادار أو خلافه ... وسبحان المولى العظيم الذي قال فصدق، وبقي علينا أن نتأمل آياته العظمى في قرآنه المجيد، وفي كونه المعقد الفسيح