خواطر بيولوجية من وحي القرآن الكريم
الناقل :
mahmoud
| الكاتب الأصلى :
د / عفيفي محمود
| المصدر :
www.55a.net
بدايةً أود أن أؤكد أن هذه المقالة هي مجرد خواطر من وحي بعض آيات كتاب الله... وليست بحال من الأحوال محاولة للتصدي لتفسير هذه الآيات.. ولكني كقارىء لكلام الله أوتي نصيباً من القدرة على التدبر ـ لا أملك أن أمر مرور الغافلين على ما في كتاب الله من ألفاظ أو عبارات تشير في وضوح إلى ظواهر كونية تنبه إليها بعض المفكرين من غير أهل الإسلام منذ قرون، وكنا نحن المسلمين أولى بسبق الالتفات إليها والاهتمام بها.
صحيح أن ما ورد في القرآن من إشارات إلى الظواهر الكونية لا يمثل مادة تعليمية تخصصية، إذ إن ورودها يستهدف في المحل الأول التذكرة والعبرة.. ولكن من آتاه الله قدراً من الإلمام بالعلوم الطبيعية عامة ( وهي الآن تدرس في مراحل التعليم الأزهري قبل الجامعي ) لا ينبغي له أن يتوقف تفكيره عند المستوى الذي يتوقف عنده تفكير العوام... بل عليه أن يستحضر ما وراء تلك الإشارات من حقائق علمية وخصوصاً ما لم يكن معروفاً وقت نزول القرآن.
إن تدبر معاني القرآن في ضوء الحقائق الكونية الثابتة يكشف لنا عن أبعاد جديدة لمعاني كلام الله الذي ما زال بكراً حتى يومنا هذا.. كما يعمل على تجسيد الانسجام بين الكون ـ وهو كتاب الله المنظور ـ وبين القرآن وهو كتاب الله المسطور.
خواطر من وحي آيات التكوين الجنيني:
يقول سبحانه وتعالى في الآية الثانية والثلاثين من سورة النجم:
)
هو أعلم إذا أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم
(
فأما خلق الإنسان إنشاء من عناصر الأرض فهو أمر لا نملك الخوض فيه... وأما خلق الجنين فهو أمر يجدر بنا البحث فيه، وهذا لا يتعارض إطلاقاً مع قوله تعالى:
)
... ويعلم ما في الأرحام
(
الذي يفهمه الكثيرون على أنه علم اختص الله به نفسه وحجبه عن البشر... نعم إن العلم علم الله ولكنه سبحانه يؤتي من يشاء طرفاً منه مصداقاً لقوله تعالى:
)
ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ...
(
وقد شاء الله أن يوفقنا إلى اكتشاف وسائل الفحص والكشف عما في الأرحام فمن النافع أن نستفيد بذلك في استكشاف مجاهيل هذا العالم.. إنني أتصور أن ورود ذكر بعض مراحل التكوين الجنيني في القرآن إنما هو حث لنا على البحث عن المزيد من التفاصيل.
وتحكي لنا الآيتان الثالثة عشرة والرابعة عشرة من سورة المؤمنون طرفاً من الرحلة الجنينية التي يمر بها خلق الإنسان، وذلك في إيجاز بليغ إذ يقول سبحانه وتعالى:
)
ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً
(
.
أصل الجنين:
ولكن نوفق في فهم ما وراء هذه الإشارات السريعة من دلائل وقدرة الله ينبغي أن نتذاكر معاً الحقائق الأساسية الثابتة حول التكوين الجنيني للإنسان.
ينشأ الجنين من اندماج الحيمن ( الحيوان المنوي ) مع البويضة في خلية واحدة مزدوجة تسمى الزيجوت تحتوي نواتها على المادة الوراثية للأبوين معاً. وهذا الاندماج يسمى الإخصاب ( يطلق عليه العامة اسم التلقيح وهذا اسم غير دقيق فالتلقيح علمياً هو انتقال الحيمن إلى البويضة فقط ولا ينتج عنه إخصاب )..
ويتم الإخصاب في مدخل قناة أحد المبيضين وبحدوثه يدب النشاط في البويضة فتتحرك داخل قناة المبيض حتى تدخل الرحم وتظل تتدحرج على بطانته حتى تصل إلى رقعة معينة إسفنجية لينة تتخللها الشعيرات الدموية بغزارة أكثر من غيرها، فتنغرس فيها البويضة المخصبة كما تنغرس البذرة في التربة وتخرج من سطحها المدفون زوائد تمتد في داخل جدار الرحم لتقوم بعمل الجذور بالنسبة للنبات (التثبيت وامتصاص الخلاصات الغذائية ).. فينمو الزيجوت وينقسم انقسامات عددية متتابعة حتى يتحول إلى كتلة من الخلايا المتلاصقة تشبه ثمرة التوت الصغيرة ( ولعل هذا هو سر تسميتها بالتويتية )، ينشق عنها جدار الرحم فتبدو معلقة فيه بما يشبه العنق الصغير الذي يوصل إليها الخلاصات الغذائية من دم الأم، فتواصل نموها بالانقسام ولكن الخلايا الناتجة لا تتكاثر بدرجة واحدة في كل أجزاء التويتية، ولهذا تصبح بعض أجزائها أسمك من بعضها الآخر، وتظهر على سطحها بروزات وتضاريس ومنخفضات، ولهذا تسمى المضغة. وفي مرحلة لاحقة تتميز المضغة إلى منطقتين: الداخلية ( وهي المتاخمة لجدار الرحم ) وهي التي سوف تتكون منها الأعضاء الخاصة بتغذية الجنين وحمايته كالمشيمة والحبل السري ( وهي أعضاء مؤقتة ينتهي دورها بعد اكتمال تكوين جسم الجنين )، أما المنطقة الخارجية من المضغة ( وهي المعلقة في تجويف الرحم ) فتتكون منها الأعضاء الدائمة كالجلد والعظام، اللحم، الأحشاء.. إلخ...
الأطوار الجنينية الأولى في القرآن:
ونكتفي بثلاثة أطوار هي: النطفة، والعلقة، والمضغة.
النطفة: النطفة لغوياً هي ما ( نطف ) أي: استخلص من أصله.
وعلمياً: هي الخلية الناضجة المشتقة من نسل أحد الوالدين البالغين والمؤهلة وراثياً للاشتراك في تكوين فرد من ذريتهما.
وقد ورد ذكر النطفة في مواضع كثيرة من القرآن اكتفى منها بثلاثة مواضع لاحظت فيها اختلاف أوصاف النطفة ومصدرها ومكانها مما يساعد على تحديد المقصود بها في كل حالة.
النص القرآني الأول عن النطفة:
هو قوله سبحانه وتعالى في الآيتين السادسة والثلاثين والسابعة والثلاثين من سورة القيامة:
)
أيحسب الإنسان أن يترك سدى. ألم يك نطفةً من مني يمنى
(
.
نلاحظ أن الآية السابعة والثلاثين تحدد مصدر النطفة بأنه هو المني.. إذن فالنطفة المقصودة هي النطفة الذكرية أي: الحيمن. والحيمن خلية عجيبة الشكل تشبه في مظهرها العام يرقة الضفدع لحظة خروجها من البيضة ( وهي المعروفة باسم أبي ذنبة وتعيش في المياه الخفيفة الجريان ) مع الفارق الكبير في الحجم إذ أن طول الحيمن لا يجاوز جزء من مئة جزء من طول أبي ذنيبة ـ وبالفحص المجهري نتبين أن الحيمن يتميز إلى رأس يحمل في مقدمته ما يشبه القلنسوة، ويمتد من مؤخرته ذيل طويل نسبياً، وبين الرأس والزيل حلقة صغيرة يمكن تسميتها بالعنق، والرأس هو أكبر جزء لأنه يحوي النواة الحاملة للمادة الوراثية للفرد الذي خرج الحيمن من صلبه، والقلنسوة ( واسمها: العلمي أكروزوم ) تحوي إنزيمات خاصة لإذابة غلاف البويضة، والذيل هو عضو الحركة ويمتد بطوله من الداخل خيط متين يدعمه ويكسبه القوة المطلوبة للتجديف وتوجيه الحركة.
أما العنق فيحتوي على جسيمات دقيقة تسمى ( ميتوكندرات ) هي التي تولد الطاقة اللازمة لحركة الحيمن التي لا تهدأ منذ لحظة انفصاله عن الخصية وإلى أن ينجح في الالتحام مع البويضة أو يموت، أو يتم تجميده. وتحتوي كل قطرة من المني على عدة ملايين من الحيامن شوهدت تحت عدسات المجاهر وهي تسبح في السائل المنوي وتضربه بذيولها في عنف يتناسب مع حيوية صاحبها.
وفي السائل المنوي مواد تغذي الحيامن وتحميها من الميكروبات بحيث تحتفظ بحيويتها وقدرتها على الإخصاب لمدة ثلاثة أيام بعد انفصالها عن جسم صاحبها ( ما لم يتم تجميدها ).. ولكي ينجح الحيمن في هذه المهمة عليه أن يقطع رحلة طويلة من مكان القذف إلى قناة المبيض...وهي مسافة إذا قورنت بحجم الحيمن فإنها تعادل المسافة بين الأرض والقمر بالنسبة لرائد الفضاء الكوني.
والنص القرآني الثاني عن النطفة:
هو الآية الثالثة عشر من سورة المؤمنون:
)
ثم جعلناه نطفة في قرار مكين
(
.
وخلافاً لما في آية سورة القيامة لا يوجد هنا ذكر لمصدر النطفة، وإنما يوجد وصف لمكانها بأنه قرار مكين، وهو وصف لا أراه يتفق كثيراً مع ما نعلمه عن النشاط الحركي للنطفة الذكرية أو الحيمن، ولا على مكان تكوينها في الخصية التي نعلم جميعاً موضعها الظاهر خارج الجسم... أما النطفة الأنثوية وهي البويضة فتتكون داخل حوصلة في أعماق نسيج المبيض الذي يقبع في مكان غائر بين الأحشاء يحيط به جدار البطن ذو الطبقات المتراكبة... وحتى عندما يكتمل تكوين البويضة وتنفجر الحوصلة فإن البويضة المتحررة لا تنفصل عن جسم المرأة بل ولا تغادر تجويف البطن.. وأقصى مكان تصل إليه بحركتها الزاحفة البطيئة هو فوهة قناة فالوب المؤدية إلى الرحم، ولا تتجاوز هذا المكان إلا إذا تم إخصابها ونشطت حركتها قليلاً، ولكن لتستقر في بطانة جدار الرحم وهذه هي نهاية المطاف بالنسبة لها.. وإذا كان هناك ما يستحق الإضافة فهو أن البويضة قبل انطلاقها من الحوصلة تحاط بغلاف من مادة لا تذوب إلا بفعل الأنزيمات الموجودة في قلنسوة الحيمن والتي يطلقها عند ملامسته للبويضة تمهيداً لإخصابها...
صورة لحيوانات منوية تلتف حول بويضة أنثوية تمهيداً لإخصابها
وفوق كل ذلك فإن البويضة ـ بمجرد أن يدخلها رأس الحيمن ـ تحاط بغلاف جديد لا يذوب حتى في نفس الأنزيمات التي أذابت غلافها الأول.. كل هذه الاستحكامات لضمان المحافظة على الكنز الموجود داخل نواة البويضة وهو المواد الوراثية للأم قبل الإخصاب مضافاً إليها المادة الوراثية للأب بعد الإخصاب، والتي بها تحولت النطفة الأنثوية إلى بذرة الإنسان الجديد المكنونة في هذا القرار المكين.
والنص القرآني الثالث الذي ذكرت فيه النطفة:
هو الآية الثانية من سورة الإنسان
)
إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً
(
.
والأمشاج جمع مشيج، وهو: ـ لغوياً ـ ما ينتج عن عملية المشج ( وهو المزج المتقن المقنن).
وللمشيج أيضاً معنى علمي هو النطفة سواء أكانت ذكرية أم أنثوية لأنها في كلتا الحالتين خلية من جسم فرد نشأت جميع خلاياه ـ وهو جنين ـ من امتزاج المادة الوراثية للجد مع الجدة وهكذا في سلسلة متصلة ترجع أصولها إلى أول عملية تزاوج في تاريخ البشرية.
ومنذ ذلك الحين وكل فرد يتم خلقه بهذه الطريقة ـ وهي مشج المادة الوراثية في بذرته الجينية ثم استنساخها في جميع خلايا جسمه بحيث تحملها حيامنه ( إذا كان ذكراً ) أبو بويضاته ( إن كان أنثى ) إلى بذرة ذريته ثم ذرية ذريته جيلاً بعد جيل إلى أن تنتهي الحياة بأمر خالقها.
وعلى الرغم من انطباق صفة المشيج على الحيمن وعلى البويضة، إلا أن إطلاقها بصيغة الجمع ( أمشاج ) التي وردت في الآية الكريمة التي نتحدث عنها ـ هذا الوصف ينطبق بشكل أكثر دقة على ( الزيجوت ) أو البويضة المخصبة التي تستقر في بطانة الرحم إلى أن يخلق الله منها بشراً سوياً.
من نطفة إلى علقة:
عندما تصل النطفة الأمشاج إلى طور التويتية تنشق عنها بطانة الرحم كما تنشق التربة عن النبتة الصغيرة، فتبرز من جدار الرحم ولكنها تبقى معلقة فيه بما يشبه العنق الذي يوصل إليها المواد الغذائية المستخلصة من دم الأم المتدفق في شعيراتها الدموية المنتشرة في القرص المشيمي.. إن هذه الطريقة في الحصول على المادة الغذائية وفي الاتصال بمصدر الغذاء تشبه طريقة الديدان الطفيلية وأشهر أنواعها هي دودة العلق.. وهذه الحقائق متطابقة لفظاً ومعنى مع قوله تعالى في سورة العلق:
)
اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق
(
.وقوله سبحانه في سورة المؤمنون:
)
خلقنا النطفة علقة
(
.ولئن كان هناك إجماع بين اللغويين على أن العلقة هي الدم المتجمد فإن هذا لا يتناقض مع الحقيقة العلمية لأن الدم الوارد من جسم الأم لا يتجمد بالطريقة المألوفة وهي التبريد ولا بالتجلط.. وإنما يتحول الدم السائل المتدفق من عروق الأم إلى هذا الكيان المتماسك نتيجة لتحول عناصره إلى مادة البروتوبلازم التي هي مادة الخلايا الحية التي يتكون منها جسم الجنين.
المضغة المخلقة وغير المخلقة:
تواصل العلقة النمو عن طريق انقسام الخلايا وتكاثرها الذي سبق أن ذكرنا أنه بعد طور التويتية تختلف معدلاته واتجاهاته في أجزائها المختلفة مما يؤدي إلى شكل المضغة. والمضغة طور تحولي خطير في رحلة التكوين الجنيني حيث يبدأ النشاط التخليقي في اتخاذ معدلات متنامية سرعان ما تؤدي إلى التخليق أي: تكوين بداءات أو ( بواكير الأعضاء
organ rudiments
)،وأولى خطوات التخليق هي تميز الجسم إلى مناطق في كل منها مجموعة خلايا متخصصة هي التي ستتكون منها أعضاء جديدة، أي: أنها في هذه المرحلة قد تقرر مصيرها.
وقد تمكن علماء الأجنة من عمل خرائط لأجنة حيوانات التجارب في هذه المرحلة تسمى (خرائط المصير
fate maps
)...وبعد هذا التميز بين الخلايا شكلاً وحجماً وتوزيعاً يكون الاختلاف في معدلات انقسامها واتجاهاته... وهذا ما يسمى عملياً بالتمايز (
differentiation
).وهو أول علامات التخليق ( ولا أقول التخلق )... وتقدم لنا الآية الرابعة عشرة من سورة المؤمنون عرضاً سريعاً للتخليق الجنيني المبكر إذا يقول الخالق سبحانه:
)
ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً
(
... والمضغة الوارد ذكرها هنا كيان محدد هو محل التخليق إلى الطور التالي المؤدي إلى تكوين الأعضاء الجنينية.
ولكن المضغة قد ورد ذكرها في نص قرآني آخر بصفة مزدوجة، وذلك في صدر الآية الخامسة من سورة الحج إذ يقول سبحانه وتعالى:
)
ثم من علقةٍ ثم من مضغةٍ مخلقة وغير مخلقة
(
.
في هذه الآية وصف لشيء واحد بصفتين متناقضتين.. وكلام الله منزه عن شبهة التناقض.. ولو كان المقصود مضغتين مختلفتين إذن لكان التعبير الصحيح: ( ثم من مضغة مخلقة وأخرى غير مخلقة ) أسوة بقوله تعالى في سورة يوسف:
)
وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات
(
... ولكننا هنا أمام نص شديد الوضوح في وصف المضغة الواحدة بأنها مخلقة وغير مخلقة في نفس الوقت.. ولا تفسير لذلك إلا أن تكون هذه المضغة مخلقة في بعض أجزائها وغير مخلقة في أجزاء أخرى.. هذا هو التأويل الوحيد الذي يتفق مع حقيقة علمية هي: أن المضغة بمجرد تكوينها سرعان ما تتميز إلى منطقتين: الداخلية المتاخمة لجدار الرحم والمتصلة به مباشرة هي التي سوف تتكون منها أعضاء الجنين المؤقتة.. والمنطقة الخارجية وهي المعلقة في تجويف الرحم هي التي سوف يخلق منها الأعضاء الدائمة وتنمو معه ما دام حياً.. وقد سبق ذكر هذه الأعضاء وتلك الأعضاء في مستهل حديثنا... وبدا لي أن هذا التأويل كافٍ لإزالة أي تناقض بين التعبير القرآني والحقائق العلمية... ( ولو تحقق ذلك لأرحت واسترحت )... ولكني بعد تأمل طويل مصحوب بالنقد الذاتي اكتشفت مطعناً علمياً في هذا التفسير.. فالأعضاء المساعدة أو المؤقتة التي تتكون من المنطقة الداخلية للمضغة والتي اعتبرناها غير مخلقة.. هذه الأعضاء إنما تتكون أيضاً بطريقة توالي الانقسام الخلوي وترتيب الخلايا الناتجة لتشكل العضو الناتج عن هذه العمليات.. وهذا هو أيضاً تخليق، وإن كان يتم بصورة أقل تطوراً مما يحدث في المنطقة الخارجية للمضغة والذي تنتج عنه بواكير الأعضاء الدائمة.. إذن فالمضغة مخلقة في كل أجزائها طبقاً لهذه الحقيقة... هنا شعرت بشيء من خيبة الأمل... لم أتغلب عليها إلا بعد أن استعذت بالله من الشيطان الرجيم ورحت أعيد تلاوة الآية الخامسة من سورة الحج إلى ما بعد الكلمتين اللتين أوقعتاني في هذه الحيرة ـ هكذا:
( ثم من مضغة مخلقة، وغير مخلقة لنبين لكم... ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً )... عند هذا الموضع من الآية استقر في وجداني مفهوم آخر ارتحت إليه كثيراً... وعثرت فيه على التوافق المنشود بين التعبير القرآني والحقيقة العلمية.
تخليق المضغة ليس موضعياً... وقد يكون جزئياً أو مرحلياً:
في الأحوال العادية يبدأ تخليق المضغة شاملاً كل أجزائها ليتكون من كل جزء ما خصص له من أعضاء ( مرحلية كانت أو دائمة ). وإذا سارت الأمور على ما يرام وبلغ الحمل غايته خرج المولود سوىّ الخلقة متناسق الأعضاء.. وهذه هي الأحوال الشائعة التي ألفها الناس فلم يعودوا يتوقعون غيرها.. ولكن في بعض الأحوال يضطرب سير التكوين الجنيني نتيجة علّة تصيب الأم وينتقل أثرها إلى الجنين، فتختل عملية تخليق الأعضاء في هذا الجزء أو ذاك من جسم الجنين وبذلك يتكون عضو غير سويّ. وتخف درجة التشوه كلما كانت العلة طفيفة أو كلما تأخر بدء حدوثها إلى وقت تزداد فيه قوة الجنين وقدرته على المقاومة.. وفي جميع هذه الحالات يكون خروج المولود ( مبتسراً ) لفتاً لأنظار الآباء والأمهات الذين ألفوا نعمة الذرية السوية فلم يعودوا يشكرون الله عليها، وبخاصة منهم من يبالغون في الاهتمام بالجمال الشكلي دون التفات لكمال الأداء الوظيفي.. وهي حالات نادرة بحمد الله.
وفي حالات أخرى أكثر ندرة يكون الاضطراب في عملية التخليق جسيماً، نتيجة لعدم التوافق البيولوجي بين جسم الأم وجسم الجنين أو بتأثير عوامل وراثية.. وهنا قد يتوقف تخليق الجنين في مرحلة مبكرة ويحدث الإجهاض طوعاً أو كرهاً وتكون ثمرة الحمل مسخاً شائها أو مضغة لم تتخلق إلى الحد الذي تشكل فيه الأعضاء ويظهر معالم الكيان البشري.. هذه الحالات هي صرخة إنذار للغافلين عن قدرة الله أو الجاحدين نعمته.. انظروا.. هكذا كنتم في بطون أمهاتكم.. فاعتبروا.. واحمدوا خالقكم الذي عافاكم من هذا... وما زال قديراً على أن يبتليكم به في ذريتكم.
وبهذا اطمأن قلبي فرحت أعيد تلاوة قوله تعالى:
)
ثم من مضغة مخلقة، وغير مخلقة لنبين لكم... ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى...
(
وسبحان من هذا كلامه وسبحان من هذه صنعته وتبارك الله أحسن الخالقين.. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله