الذين يدرسون في الغرب أسباب صعود دول وتراجع أخري في هذا العصر, يكادون يتفقون علي مجموعة أساسية من العناصر, ذكرتني بها كلمات في خطاب الرئيس التشيكي في حفل منتدي مصر الاقتصادي الدولي.
كان الرئيس التشيكي فاسلاف كلاوس يشرح في خطابه, في أثناء زيارته الأخيرة للقاهرة, تجربة بلاده في التحول من النظام الشمولي إلي أن أصبحت دولة ديمقراطية, قطعت خطوات ملموسة في طريق التقدم الاقتصادي ورفع مستوي معيشة شعبها.
وحدد ثلاثة عناصر رئيسية وراء هذا النجاح هي:
(1) تحديد الهدف, الذي يوضح لنا إلي أين نحن ذاهبون.
(2) استراتيجية تأخذ بنا نحو الهدف.
(3) إقناع الشعب بما نحن فاعلون. ( أ) هدف محدد تضعه الدولة نصب عينيها, وتتحرك بكل قواها في اتجاهه. (ب) استراتيجية تقود خطاها, تسبقها دراسات لمواطن القوة ومواقع الضعف فيها, والموارد المتاحة, ماهو مستغل منها, وماهو خارج نطاق الاستخدام الكامل والأمثل, ووضع خطط التنفيذ وآلياته, ومقاييس اختيار العناصر البشرية التي ستقود وتنفذ, ثم وضع كل عنصر بشري في مكانه عندما تنطبق عليه هذه المقاييس. (جـ) وتتساوي مقولة إقناع الناس بما تفعله الدولة, ورضاهم عنه, بمفهوم الديمقراطية, عندما يكونون مشاركين في القرار, فاعلين في التأثير عليه, ليس مجرد إفساح المجال لحرية التعبير, وإنما بأن تتحول حرية التعبير إلي إرادة يستجاب لها, وتوضع في حساب صانع القرار.
وأن يدور ذلك كله في إطار دولة القانون, الذي يمثل في نظر الكثير من هذه الدراسات ما يشبه( معنويا) الكرباج بالمفهوم السياسي, الذي يلهب ظهر التقاعس والتكاسل والتهاون, في تنفيذ الخطط وبلوغ الهدف.. وبأن يظل القانون وسيلة المتابعة والمراقبة والمساءلة والمحاسبة, وضمان شعور الناس بأن الدولة لاتميز بين مواطن وآخر لأي سبب كان.
ومن خلال رصد أسباب التقدم والتراجع لاحظ الدارسون أن العالم العربي لديه من إمكانات الصعود, أكثر مما لدي كثير من الدول التي نهضت اقتصاديا, واكتسبت مكانة ونفوذا في السنوات الأخيرة كالهند, والبرازيل, وجنوب افريقيا, وتركيا, وماليزيا, وسنغافورة, وإندونيسيا.
وبالتالي فلابد أن العالم العربي يعاني خللا يبقي علي استمرارية تلك الحالة. وأن هناك عاملين يقفان حجر عثرة في طريق بلوغ العالم العربي هذه المكانة, هما: (1) ضعف البنية الاقتصادية, التي لاتقاس بحجم الثراء الاستهلاكي, والمشروعات التي لايجمعها مشروع قومي متكامل, وانما تقاس بالقدرة التنافسية مع اقتصاديات الدول الأخري, في ميادين الانتاج, والتصدير, والتجديد الخلاق للمؤسسات الانتاجية, من خلال الكشوف العلمية, والاسهام في إثراء المجتمع العالمي. (2) تقليص القدرة الذاتية للقوي الوطنية التعددية, وإبقاء قطاعات منها خارج دائرة التأثير, وحرمان الوطن من الاستفادة من ملكاتها, واستبعاد عناصر متفوقة ومتنورة سياسيا ومهنيا, وهو ما يعد خصما من رصيد الدولة, وقدرتها علي أن تتقدم وتنهض, وتحل مشاكلها اليومية, والبعيدة المدي علي السواء.
بينما النظام الدولي علي المستويين العالمي والإقليمي, أصبح قائما علي التنافس, بناء علي قاعدة القدرة الذاتية التي تستند إلي تحقيق قدر مطلوب من الاكتفاء الذاتي في الزراعة والصناعة, يوفر للدولة الأمان من ضغوط قوي خارجية, ومن أخطار حدوث ندرة في المواد الغذائية.
ان مختلف الدول التي حققت الصعود كانت نماذج للدراسات التي تعرضت لهذه القضية, ونالت الهند في السنوات الأخيرة, نصيبا كبيرا منها, بصدور عشرات الكتب في الغرب استوقفتها القفزة الاقتصادية بمعدل تنمية تجاوز نسبة9%, وسياسات تحاول توسيع نطاق عائد وثمار التنمية علي الدولة ككل, وليس علي طبقة بعينها, وبحيث تحولت الهند إلي دولة منتجة مصدرة.
أحدث هذه الدراسات كتاب الهند: العملاق البازغ, لمؤلفه البروفيسور أرفيند باناجاريا أستاذ الاقتصاد بجامعة كولومبيا الأمريكية, متناولا قفزتها الاقتصادية. .. الطريق إلي الصعود واضح المعالم, وهو ليس سباحة في بحور الظلمات, ولا هو مغامرة في المجهول, وقد سلكته دول أخري, واجتازت دروبه حتي النهاية. مع التذكير بأن الغالبية منها دول صغيرة, والبعض منها بلا موارد, بل ان من هذا البعض من كان غارقا في قاع الفقر والتخلف. لكنها خلال15 سنة فقط وان زادت فهي لاتتجاوز العشرين سنة, انتقلت من هذا القاع إلي قمة التفوق والنجاح الاقتصادي, والمكانة السياسية إقليميا ودوليا, وحين ننظر إلي مصر في إطار ماسبق, فإن مصر ليست دولة فقيرة الموارد, ففيها موارد كبري لم تستغل, وكانت قد ولدت فيها مشروعات انتاجية خطت خطوات إلي الأمام, وفجأة تقطعت أنفاسها, وسحبت طاقتها, وتوقفت وهي علي عتبات الإنجاز, وسبق لنا الكتابة عنها, ومصر لديها أكثر مما لدي دول آسيوية قفزت باقتصادها إلي القمة, وصعدت بمستوي معيشة شعبها إلي أرفع المستويات, وحلت مشاكلها, وكانت نقطة البداية عندها, بتحديد الهدف, والاستراتيجية, وإقناع الناس ورضاهم, في إطار من الديمقراطية ودولة القانون, وبخطة تراعي عدالة توزيع عائد التنمية. .. إن احتواء موارد مصر والمشروعات الإنتاجية, في مشروع للنهضة, لابد له من فتح ملفات الدراسات, وآراء كل أصحاب الخبرة والمعرفة والرؤية, للاستفادة منها في صنع نهضة حقيقية, لاتعدم مصر أسبابها.
منقول