المعالجة بالكي في عهد الرسول*
الناقل :
mahmoud
| الكاتب الأصلى :
الدكتور محمود ناظم
| المصدر :
www.55a.net
تحرق الكاويات الأنسجة حيث تفقدها ماءها وتفكك الخلايا العضوية المركبة لها.
والكاويات الفيزيائية النار، والمعادن المحماة فيها، كالحديد المحمى حتى درجة الأحمرار، والكاوي الحروري
Thermocautere
، والكاوي الكهربائي أو الغلفاني .
ومن الكاويات الكيميائية أو الأدوية الكاوية حمض الخل القابل للتبلر، وحمض الآزوت، وحمض الكروم، وحمض الصفصاف، وقلم نترات الفضة (حجر جهنم).
إن بحثي هذا لا يشمل الكيَّ بالأدوية الكاوية ولا بالأدوية المنفطة
Vesicants
كالثوم الذي استعمل مهروس لبَّه موضعياً في النقطة المراد كيّها، تمهيداً لتطبيق حمض الكيّ المشهور عند العامة، والذي يقر الطب بعض فوائده في بعض أنواع عرق النسا وبعض العصابات القطنية
[1]
.
وأما الكيّ بالبرودة بواسطة حمض الفحم الثلجي، فهو طريقة حديثة نسبياً، تستخدم في الأمراض الجلدية، ولا تدخل في نطاق بحثي.
وإنما أعني الكيّ بالنار أو الحرارة، ولقد كان الأقدمون يجرون الكيّ بقضبان حديدية مجهزة بقبضة خشبية (أو غير مجهزة ) ومنتهية بأشكال مختلفة وبعد أن تحمى هذه القضبان على النار حتى تصير بلون أحمر مبيض أو أحمر قاتم، تكون بها النواحي المختلفة.
وتختلف تأثيرات الكيّ بالنسبة لنوع المكواة ودرجة حرارتها، فالمكواة التي تكون بلون أحمر مبيض يكون فعلها سريعاً، وعميقاً فلا تلتصق بالنسج التي تكويها، بل تقطعها بسرعة ولا تقطع النزف و الألم المحدث بها أخف من المكواة وهي في درجة الأحمرار القاتم، أما المكواة التي تكون بلون أحمر قاتم ففعلها أقل عمقاً، ويلتصق بالنسيج التي تكويها وتخثر الآحينات، وتقطع النزف ويكون الألم بها أشد
[2]
.
وتختلف المكاوي في أشكال نهاياتها الكاوية وفي أحجامها بحسب مكان الكيّ والغاية منه، فمن رام الإطلاع على أشكال المياسم القديمة المستعملة إبّان حضارتنا، فهي مرسومة في باب الكي من كتاب( التصريف لمن عجز عن التأليف ) للزهراوي، ذلك الجراح العربي الإندلسي المشهور . وفي كتابه هذا فضل الكي بالنار على الكي بالأدوية المحرقة ( أي الكاوية ).
ولقد تطورت المكاوي في عصرنا، فاستنبطت المكواة الحرورية لـ باكلان
[3]
ولها نماذج مختلفة، ثم اخترعت المكواة الكهربائية
[4]
، وهذه أكثر تحكماً فيها وأسهل استعمالاً ولا سيما في الأماكن العميقة .
واستعمل الكي لمداواة بعض الآلام العصبية المختلفة في التهاب العصب الوركي والأعصاب الوربية فيستعمل لهذه الحالة الأخيرة الكي النقطي.
ولا يجوز استعمال الكي عند المصابين باستحالة العضلة القلبية وتصب الشرايين، لأن الكي يرفع الضغط الشرياني وكذلك لا يجوز استعماله عند الأشخاص المستعدين للغشي (الإغماء) .
هذا وإن الكي بالنار قد استعمل حتى يومنا هذا في باديتنا وريفنا، وإن قلّت حوادثه، إما صرفاً وإما متبوعاً بوضع شيء على الكيَّة لتأخير برئها بقصد استمرار سيلان اللنف منها، حتى يتخلص الجسم من أخلاطه السيئة ـ كما يظنون ـ وتتنبه في العضوية وسائل الدفاع كما يقصد ذلك من استعمال حمضه الكي .
ويجدر بنا في هذه المقدمة، أن نستعرض بعض المعلومات اللغوية عن الكي قبل الخوض في صلب الموضوع .
قال في القاموس المحيط : كواة يكويه كياً : أحرق جلده بحديدة ونحوها، وهي المكواة، والكية موضع الكي. والكاوياء ميسم . واكتوى استعمل الكي في بدنه، وتمدح بما ليس فيه . واستوى طلب الكي.
وقال : الوسم أثر الكي جمعه وسوم. وسمّه يسمِه وسماً وسمة فاتسم. والميسم بكسر الميم المكواة بما ليس فيه. واستكوى طلب الكي.
وقال : الوسم أثر الكي جمعه وسوم. وسمّه وسماً فاتسم . والميسم بكسر الميم المكواة جمعه مواسم ومياسم .
وفي المختار : يقال آخر الدواء الكي، ولا يقال آخر الداء الكي.
مغالات الأعراب في المداواة بالكي :
لقد أكثر العرب قبل الإسلام من استعمال الكي كواسطة علاجية، ولا سيما من قبل الأعراب سكان البادية، حيث تندر الأطباء والأدوية. ومن المتوقع عندما تفشل الأدوية المجربة أو يفقد الدواء الناجع، أن يسعى المريض هو أو ذووه للتخلص من مرضه، وأن يتقبلوا أي وسيلة، ولو كانت مشكوكة النتائج، ولو كانت مؤلمة كالكي بالنار، ويزيدهم تقبلاً للكي أنهم يرون ويسمعون عن بعض فوائده، ولو كانت بعض تلك الفوائد المشاهدة حادثة بطريقة المصادفة أو نتيجة الإيحاء الغيري أو الذاتي بالاعتقاد . ولهذا وردت الحكمة الشعبية العربية القائلة : (آخر الدواء الكي ) .
وبما أن الكي فيه ألم وشدة على مطبقيه، فقد جرت تلك الحكمة مجرى المثل عندما يبت في أمر ما، ويحسم بالشدة بعد أن جرب فيه الرفق واللين، فيقال لدى تطبيق الأمر الأشد : ( آخر الدواء الكي ّ)
[5]
.
ولقد تخطيء العامة في تطبيق حكمة الكي حدود المعقولية، وغالوا في استعماله وتوسعوا فيه شعبياً، وأصبح الكي يجري بتوسع من قبل غير الأطباء والخبراء، ولمجرد رغبة المريض أو ذويه بذلك، أو وصف المتطيب الجاهل له، وأضحى الكي ينفذ وقاية من مرض أو لتوهم أنه يحسم العلة ويمنع تفاقمها، أو لاعتقاد أن الشفاء به يمنع النكس.
لقد توارث العامة، ولاسيما أهل البداوة، هذه المغالاة في استعمال الكي مع الأخطاء في الاستطباب والتطبيق عبر العهود والعصور الغابرة حتى يومنا هذا .
ولقد أشار إلى تلك المغالاة الجراح الزهراوي المتوفى سنة 500 هـ .
فقال في كتابه التصريف : ولايقع ببالكم يا بني ما توهمه العامة وجهالة الأطباء، أن الكي الذي يبرئ من مرض ما، لا يكون لذلك عودة أبداً وتجعلوه لزاماً، وليس الأمر كما ظنوا، وقال: وأما قول العامة أيضاً: إن الكي آخر الطب فهو قول صوبا، لا إلى ما يذهبون هم، لأنهم يعتقدون أن لا علاج ينفع بدواء ولا بغيره بعد وقوع الكي، والأمر بخلاف ذلك، وإنما معنى أن الكي آخر الطب، إنما هو أننا متى استعملنا ضروب العلاج فينجع
[6]
، فمن هنا هنا وقع أن الكي آخر الطب، لا إلى المعنى الذي ذهب إليه العامة وكثير من جهال الأطباء أ هـ .
وما زلنا معشر الأطباء، نرى في زماننا أناساً من القبائل البدوية وممن جاورهم من سكان الأرياف، قد أكتوى فلم يشف لوم يخفّ ألمه، بل ضم إليه ألماً جديداً، وشوه بالكي جمال أعضائه الخلقي. وإن منهم من أصيب بالكزاز، نتيجة تشغيله الكية بورقة قذرة قاصداً ما يبتغي من حمصة الكي .
موقف الرسول العربي من تلك المغالاة:
جاء الإسلام والمغالاة في استعمال الكي شائعة، يعرضون به أجسامهم لآلام النار وتشويهها فيما لا جدوى منه، وما جاء من رسول إلا وكانت له القيادتان الدينية والدنيوية، ومن مهام الدولة نشر مناهج الطب الوقائي، وتقنين ممارسة المهن الطبية، ومكافحة الشعوذة والدجل في الطب وفي غيره.
فأبى رسول الرحمة والإنسانية أن يعذبوا أنفسهم بأوهام لا تنفع، فنهاهم عن الكي وعن الأدوية الوهمية، ووضح لهم أن استعماله مشروط بموافقة للداء، أي بوجود استطباب له .
ورغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن تعيد أمته النظر في استعمال أدويتهم الشعبية، التي يمارسون تطبيقها دون استشارة طبيب، وأن يبعدوا عنها المغالات، وأن يقتصروا في تطبيقها على مجالات معينة حيث تفيد، فنبههم إلى أن الدواء، إنما يشفي بإذن الله تعالى، إذا وافق الداء، أي لابد من تشخيص ولابد من اختيار دواء ملائم يستعمل بمقدار وبطريقة موافقين، فقال عليه السلام : " لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله عز وجل "
[7]
وأورد عليه السلام ذكر الأدوية الشعبية في زمانه، وهي الحجامة المدماة والكي والعسل، فاعترف بأنها لها فوائدها، ولكنه نبه إلى أن استعمالها طبياً، يجب أن يكون موافقاً للداء أي تابعاً لوجود استطباب، وكرر النهي عن الكي والرقى ـ وهي المعالجة الروحية بالقراءات ـ وذلك لشدة الشطط في استعمالها دون مبرر علمي .
1.
روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن كان في شيء من أدويتكم، أو يكون في شيء من أدويتكم خير، ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لدغة بنار توافق الداء وما أحبّ أن أكتوي" قال الحافظ ابن حجر في شرحه (توافق الداء) : فيه إشارة إلى أن الكي إنما يشرع عندما يتعين طريقاً إلى إزالة الداء، وأنه لا ينبغي التجربة لذلك ولا استعماله إلا بعد التحقق أ هـ .
أقول : إن الضمير المستتر في كلمة توافق يجوز رجوعه إلى (لذعة بنار) أقرب مذكور ويجوز رجوعه إلى الثلاثة (شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار) .
وهذه الرواية للبخاري هي أدق تعبيراً من الروايات الأخرى التي رواها هو أو غيره في هذا الباب .
2.
وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الشفاء في ثلاثة : في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنهى أمتي عن الكي " قال ابن حجر : ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم الحصر في الثلاثة، فإن الشفاء قد يكون في غيرها أهـ .
أي لم يرد النبي عليه السلام الحصر الحقيقي، وإنما قصد حصراً نسبياً أو إضافياً يقصده المتكلم، ويستعمله في بيانه كأسلوب من أساليب البلاغة، لجذب الانتباه إلى ما يقصده ويتكلم عنه ويتعلق به غرضه من ذلك البيان
[8]
.
3.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكي وكان يكره شرب الحميم "
[9]
يعني الماء الحار.
4.
وعن سعد الظفري (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكي، وقال : أكره شرب الحميم )
[10]
.
5.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الكي )قال : فابتلينا فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا
[11]
. وفي رواية : (نهينا عن الكي ) .
قال الخطابي : قيل إنما نهي عمران خاصة عن الكي، لأنه كان به ناصور، وكان موضعه خطراً فنهاه عن كيه، فيشبه أن يكون النهي منصرفاً إلى الموضع المخوف منه والله أعلم
[12]
وبهذه المناسبة أذكر أن الزهراوي ذكر في كتابه (التصريف) معالجة بعض نواسير المقعدة بالكي مع احتمال عدم الاستفادة .
إن النهي عن الكي في الأحاديث السابقة، ليس على عمومه وإطلاقه، فقد وردت أحاديث نبوية سنراها تفيد استعمال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه للكي، فالنهي منصبّ على الاستعمال الشعبي المغالي في تطبيقاته، دون وجود استطباب، ولذا قال ابن حجر في فتح الباري: ويؤخذ من الجمع بين كراهته صلى الله عليه وسلم للكي وبين استعماله، أنهلا يترك مطلقاً ولا يستعمل مطلقاً، بل يستعمل هذا التفسير يحمل حديث المغيرة رفعه " من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التواكل " أهـ .
وفي التعقيب على عنوان عقدة البخاري بقوله : ( باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو) . قال ابن حجر : كأنه أراد أن الكي جائز للحاجة، وأن الأولى تركه إذا لم يتعين
[13]
وأنه إذا جاز كان أعمّ من أن يباشر الشخص ذلك بنفسه أو بغيره لنفسه أو لغيره، وعموم الجواز مأخوذ من نسبة الشفاء إليه في أول حديثي الباب، وفضل تركه من قوله عليه السلام : " وما أحب أن أكتوي " أ هـ .
وقال المازري
[14]
: وقوله عليه السلام : " وأنا أنهى أمتي عن الكي " وفي الحديث الآخر : " وما أحب أن أكتوي " إشارة إلى أن يؤخر العلاج به، حتى تدفع الضرورة إليه،ولا يوجد الشفاء إلا فيه، لما فيه من استعمال الألم الشديد في دفع ألم قد يكون أضعف من ألم الكي أ هـ .
هذا وإن الاكتواء من دون استطباب علمي يعد تعلقاً بالأوهام، والتعلق بالأوهام منافٍ للتوكل على الله تعالى، كما سنرى في الحديثين التاليين .
6.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أكتوى أو أسترقى فقد برئ من التواكل "
[15]
.
7.
وروى الإمام مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : " قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، قال : ومن هم يا رسول الله ؟ قال : هم الذي لا يكتوون، ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون " وفي رواية نحوه ، وزاد فيها: " ولا يتطيّرون " .
وفي رواية للبخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، في حديث طويل عن الذين يدخلون الجنة بغير حساب.. فقال : " هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون " .
ولدى مطالعتي هذا الحديث، خلال تجميعي لمعلومات عن مفهوم التوكل في الإسلام، قلت في نفسي إن رسولنا عليه السلام لم يقل : ( هم الذين لا يتداوون وعلى ربهم يتوكلون ) بل قال : " هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون ) بل قال : " هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون "، وقال في حديث آخر :" .. نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، أو قال دواء واحداً، قالوا : يا رسول الله وما هو ؟ قال : الهرم "
[16]
.
وبما أن الأخذ بالأسباب اليقينية والعلمية لا يتنافى في الإسلام مع مفهوم التوكل، كما هو واضح لكل من له إلمام بتعاليم الإسلام، وبما أن الأعراب والعامة تجاوزوا في استعمالهم الكي والرقى حدود الطب والعلم، تمشياً مع الشائعات، كما يفعل الأعراب في معظم حوادث الكي، هو الذي تنافى مع التوكل. ثم وجدت أن الإمام الغزالي رحمة الله تعالى قد سبقني إلى هذا الذي تنافى مع التوكل (إحياء علوم الدين )، وذلك في بحثه القيم المستفيض عن التوكل، فقال تحت عنوان (الفن الرابع في السعي في إزالة الضرر كمداواة المرضى وأمثاله ) : أعلم أن الأسباب المزيلة للمرض، تنقسم إلى مقطوع به ومظنون وموهوم. والموهوم كالكي والرقية، أما المقطوع فليس من التوكل تركه، إذ به وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المتوكلين، وأقواها
[17]
الكي ويليه الرقية، والطيرة آخر درجاتها، والاعتماد عليها والاتكال إليها غاية التعمق في ملاحظة السبب. وأما الدرجة المتوسطة وهي المظنونة كالمداواة بالأسباب الظاهرة عند الأطباء، ففعله ليس مناقضاً للتوكل بخلاف الموهوم، وتركه ليس محظوراً بخلاف المقطوع .
ويدل على أن التداوي غير مناقض للتوكل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله وأمره به .. أ هـ .
ثم أورد الإمام الغزالي شواهد حديثة على ذلك .
إن الكي الذي تكلم عنه الغزالي، هو الكي شاعت المغالاة فيه عند العامة، يستعملونه دون استطباب جازم أو وصف طبيب خبير، ولذا جعله مثالاً للأسباب الموهومة، التي يتنافى الأخذ بها مع التوكل. إن ذلك الكي المغالي فيه هو الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا الكي المنفذ بناء على وصفة طبيب واستطباب علمي كما أوضحت، وكما سيأتي بيانه من فعل الرسول وصحابته له لدى وجود استطباب.
قال ابن حجر في شرحه لحديث البخاري الوارد آنفاً في التوكل : والحق أن من وثق بالله وأيقن أن قضاءه عليه ماض، لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب، ابتاعاً لسنته وسنة رسوله، فقد ظاهر صلى الله عليه وسلم في الحرب بين درعين، ولبس على رأسه المغفرة، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو أصحابه، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوتهم، ولم ينتظر أن ينزل من السماء، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك، وقال للذي سأله : أعقل ناقتي أو أدعها ؟ قال : اعقلها وتوكل، فأشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل والله أعلم أ هـ .
التكميد مكان الكي :
لقد لاحظ محمد عليه السلام أن العرب يكثرون من استعمال الكي، ولا سيما في معالجة الآلام، ولا شك أنه يفيد في بعض أنواعها كما سنرى، وكما أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : " إن كان في شيء شفاء ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو كية بنار تصيب ألماً ولا أحب أن أكتوي "
[18]
.
فأشار إلى أن الكي بالنار الموافق والمصيب لنوع من الآلام هو دواء، ولكنه غير محبوب عنده.
وكما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكي الذي يجري من دون استطباب صحيح، فإنه أشار إلى بديل عنه، والبديل واسطة علاجية فيزيائية مسكنة للألم تفيد في كثير من المجالات التي يستعمل فيها الكي عند قومه، ولكنه دون أن تضيف إلى المريض ألماً جديداً، كما يمكن استعمالها قبل الكي فلعلها تغني عنه.
تلك الواسطة هي التكميد العضو كما في مختار الصحاح تسخينه بخرق ونحوهاوكذا الكماد بالكسر.
وفي القاموس المحيط في الكمد .. والاسم الكماد ككتاب وهي أيضاً خرقة وسخة تسخن وتوضع على الموجوع يشتفي بها من الريح ووجع البطن كالكمادة، وتكميد العضو تسخينه بها.
1.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مكان الكي التكميد .. "
[19]
.
2.
وعن عبد الله بن مسعود أن ناساً أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن صاحباً لنا اشتكى أفنكتوي؟ فسكت ساعة ثم قال : إن شئتم فاكووه، وإن شئتم فارضفوه "
[20]
قال ابن الأثير في النهاية أي كمدوه بالرضف، والرضف الحجارة المحماة على النار واحدتها رضفة أ هـ .
أقول : ولا يزال الطب الشعبي حتى زماننا يعالج مغص البطن وبعض الآلام ولا سيما البرودة بالتكميد بخرقة مسخنة أو بحجرة أو فخارة مسخنة بعد لفها بخرقة، تحاشياً من حدوث حرق.
أما الطب في زماننا، فإنه يستعمل التكميد
Fomentation
لمكافحة الألم أو لغرض آخر، ويستعمل لذلك القماش المبلول بالماء الحار في حرارة محتملة، وقد يضاف إليه بعض الأدوية
[21]
.
واقعات من المداواة بالكي في العهد النبوي :
لقد بينت أن الرسول عليه السلام اعترف بالكي كدواء عندما يوافق الداء، أي عندما يكون له استطباب علمي. ولقد سجلت كتب الأحاديث النبوية إضافة إلى ما أوردت اخباراً من معالجات بالكي جرت في العهد النبوي من قبل النبي صلى الله عليه وسلم ومن قبل صحابته الكرام. أما الاستطبابات الداعية إلى الكي في تلك الحوادث المروية فهي :
أ.
قطع النزيف الدموي
ب.
معالجة الألم الجنبي
ت.
معالجة اللّقوة (أي شلل العصب الوجهي ) .
أ.
الكي لقطع النزيف:
لقد استعمل الكي بالنار لقطع النزيف منذ القديم، واستعملت لذلك المكواة التي تكون بلون أحمر قاتم، ولا يزال يستعمل الكي لذلك الغرض في عصرنا الحديث، وإن تطورت الأدلة إلى استعمال المكواة الكهربائية .
ولقد ورد في السنة استعمال الكي لقطع النزيف في حادثتين: الأولى لقطع نزيف جرح حربي، والثانية لقطع الوريد المفصود.
أما الحادثة الأولى، فقد كانت في غزوة الخندق( أي الأحزاب عندما تراشق المؤمنون والكافرون بالنبال عبر الخندق، فأصاب سهم من سهام العدو سعد بن معاذ فقطع أكحله (أي عرقاً ف وسط ساعده ) فنزف، فأسعفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكوى مكان النزيف بنصل سهم محمى على النار بغية إيقاف النزيف، ثم أخلاه من أرض المعركة، إلى مستشفى عسكري أقيم لجرحى الحرب في خيمة ضربها عليه السلام في المدينة المنورة في مسجده الشريف، وجعل فيه الممرضتين الصحابيتين رفيدة الأنصارية أو الأسلمية (نسبة إلى قبيلتها أسلم) وكعيبة الأسلمية رضي الله عنهما.
روى الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : (رمى سعد بن معاذ في أكحله، فحسمه النبي صلى الله عليه وسلم بيده بمشقص
[22]
، ثم ورمت فحسمه الثانية ) .
وروى عن عائشة رضي الله عنها قالت : " أصيب سعد يوم الخندق، رماه رجل من قريش، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد خيمة يعوده من قريب".
قال الخطابي : إنما كوى صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ ليرقأ الدم عن جرحه، وخاف عليه أن ينزف فيهلك، والكي يستعمل في هذا الباب، كما يكوى من تقطع يده أو رجله
[23]
.
أما الحادثة الثانية فقد رواها الإمام مسلم أيضاً عن جابر، قال : (بعث رسول الله إلى أبي بن كعب طبيباً فقطع منه عرقاً ثم كواه عليه ) . والكي في موضع الفصادة إنما هو لإيقاف النزيف بعد سيلان مقدار كاف من الدم .
ب.
معالجة الألم الجنبي بالكي :
ينشأ الوجع المستقر في الصدر عن آفة في غشاء الجنب، أو في الرئة وقد ينشأ عن علة في الجلد أو العضلات والأعصاب الوربية، أو عظام القوصرة الصدرية.
وعلى ذلك فقد ينشأ ألم الجنب عن علة رثوية في العضلات، فيدعى (الوجع الجنبي
Pleurodynie
) أو عن ألم عصبي وربي
Nevralgie Intercostale
أو عن التهاب عظم.
ويغلب أن يكون الوجع الناخس
Point de cost
دليل علة في غشاء الجنب أو الرئة
[24]
وبحسب اختلاف السبب يختلف شكل الوجع الناخس.
يبدو الألم العصبي الوربي في غصن واحد أو عدة غصون قدامية من الأزواج الصدرية، وهو إما محيطي وإما جذري، ولكل منهما أسباب عديدة، ومن أسباب المحيطي آفات الجنب
[25]
.
إن ذات الجنب في لغة العرب، كانت تطلق على كل ألم في الجنب، أي على كل علة صاحبت ألماً في الجنب، فإن معنى ذات الجنب صاحبة الجنب، أما بعد ترجمة الطب اليوناني، فإن أطباء العرب أضحوا يطلقونها على المراد عند اليونان، أي على التهاب غشاء الجنب
Pleuresie
وقد يسمون غيرها بذات الجنب غير الحقيقة
[26]
.
وهاكم حادثة عن ذات الجنب في العهد النبوي، وعولجت بالكي :
روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " .. كويت من ذات الجنب ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي، وشهدني أبو طلحة وأنس بن النضر وزيد ابن ثابت، وأبو طلحة كواني "
[27]
.
وبما أن ذات الجنب في لغة العرب تشمل أنواعاً مختلفة من أمراض تسبب ألماً جنبياً، فعلينا أن نفكر بالأنواع التي تستفيد من الكي. ولدينا الاحتمالات التاليان:
الأول أن تكون الإصابة رثية عضلية في عضلات الصدر ناتجة عن البرد، الثاني أن تكون الإصابة ألماً عصبياً وربياً، ولهذا أسباب مختلفة. ولم ينقل لنا التاريخ ما يمكننا من تمييز المؤدي إلى ألم الجنب عند ذلك الصحابي .
أ.
إذا كانت إصابة أنس رضي الله عنه جنبياً، أي رثية عضلية فإن التكميد والمحمرات والمراهم والطلاءات المسكنة كثيراً ما تغني عن الكي.
ولقد روينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مكان الكي التكميد" ليبدأ به الطبيب والمريض قبل استعمال الكي فلعله يغني، وإضافة إلى ذلك قد أوصى عليه الصلاة والسلام في مناسبة أخرى، أن يطلى مكان الألم الجنبي بالقسط و الزيت .
روى الترمذي عن ميمون أبي عبد الله قال : سمعت زيد بن أرقم قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتداوى من ذات الجنب بالقسط البحري والزيت
[28]
.
قال ابن طرخان: القسط البحري، وهو العود الهندي على ما جاء مفسراً في أحاديث أخرى، هو صنف من القسط إذا دق ناعماً وخلط بالزيت المسخن ودلك من مكان الريح المذكور أو لعق، كان موافقاً لذلك نافعاً أ هـ
[29]
.
قال المرحوم الشيخ محمد أنور شاه الكشميري في كتابه (فيض الباري بشرح البخاري) :
القسط الهندي يحصل من كشمير والمراد (كست) والعود الهندي (أكر) وليس بمراد هنا، فلينتبه فإنه مضر.
لقد أختلف وتبدل المراد من القسط باختلاف الأقطار والحضارات عبر العصور
[30]
حتى أنه ليعسر علينا اليوم تحديد النوع المشار إليه في الحديث النبوي. ولكن يبقى الفهم بأن الطلاءات المسكنة، يمكن استعمالها في الوجع الجنبي البردي، وفي زماننا مراهم وبلاسم كثيرة لهذا الغرض.
ب.
وإن كان الألم الجنبي عند ذلك الصحابي ألماً عصبياً وربياً فإن الطب الحديث ظل حتى أواسط القرن العشرين، يلجأ إلي الكي ولا سيما النقطي
[31]
في تسكين هذا الألم إذا لم تفند فيه الأدوية الأخرى.
ت.
تكلم الأستاذ الدكتور حسني سبح في كتابه( موجز الأمراض العصبية) عن الألم العصبي الوربي، وقال في معالجته : يكافح السبب أولاً، ويعالج الألم العصبي معالجة بقية الآلام العصبية، وقد ينجع فيه الكي أو حقن الغول بحذاء الغصون الثاقبة.
ولقد أشار إلى استطباب الكي النقطي في معالجة الألم العصبي الوربي، كل من الأساتذة الدكتور عزة مريدن في كتابه (علم الأدوية) في بحث (الكاوي الحروري)، والدكتور نظمي القباني في كتابه (الجراحة الصغرى)في بحث (الكي بالنار) والدكتور مرشد الخاطر في كتابه (فن التمريض ) في بحث (الكي) .
ولكهم أساتذة في كلية الطب بجامعة دمشق درّسوا كتبهم تلك حتى ما بعد منتصف القرن العشرين .
ولا شك أن تقدم الطب الحديث ووسائل التشخيص التفريقي وعلم الأدوية وفن المداواة، ألغى كثيراً من استعمالات الكي في مداواة الألم .
ث.
معالجة اللقوة بالكي :
اللقوة هي شلل العصب الوجهي
Paralysie Faciale
والبرد هو السبب الغالبة في إحداثها، فتنسب إليه حينئذ، وتعرف باللقوة الرثوية أو البردية.
وكان يعلل تأثير البرد بالتهاب العصب أو احتقانه وتورمه وانضغاطه في القناة العظيمة التي يخترقها، أعني قناة فاللوب حتى خروجه منها من الثقبة الإبرية الخشائية. وفي السنين الأخيرة علل حدوث اللقوة البردية، بتشنج الأوعية الدموية المغذية للعصب، ولذا أضحت الأدوية الموسعة للأوعية .
وأعتقد أن اللقوة التي استفادت من الكي في العصور الغابرة هي اللقوة الشائعة بالكي أي اللقوة البردية . وهاكم حادثتان وقعتا في عهد الرسول العربي وعولجتا بالكي، ونقلهما لنا التاريخ باختصار.
أخرج الإمام مالك في موطئه عن نافع مولى ابن عمر رحمه الله : " أن ابن عمر أكتوى من اللقوة ورقي من العقرب"
[32]
.
وعن أبي الزبير المكي قال : رأيت عبد الله بن عمر بن الخطاب وقد أكتوى في وجهه من اللقوة
[33]
.
وروى ابن سعد في طبقاته باستناد صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن أبا طلحة أكتوى وكوى أنساً من اللقوة
[34]
.
وبما أن الزميل الدكتور سلمان قطاية المتخصص بأمراض الأذن والأنف والحنجرة، له اهتمام خاص باللقوة وبالعمل الجراحي المناسب إذا اقتضى الأمر، وله اهتمام بتاريخ الطب العربي، فقد أخبرته عن الحادثة الأولى وسألته :
هل رأيت في مطالعاتك في الطب العربي ما يشير إلى مداواة اللقوة بالكي فأجاب: نعم في القانون لابن سينا، ولى تعليق على ذلك في مقالة نشرته، ثم أطلعني عليه . ثم نشر الزميل ذلك المقالة بعنوان: " أمراض الأذن والأنف والحجنرة عند ابن سينا"
[35]
.
فعلل الزميل أولاً فائدة محمرات الجلد التي وصفها ابن سينا في معالجة اللقوة، بأن سبب اللقوة هو تشنج الأوعية المروية للعصب فيسبب ذلك التشنج فقر دم موضعي ووذمة ، والعلاج هو الأدوية الموسعة للأوعية والأدوية المحمرة في اجتهادي ليست سوى ضرب من ضروب الأدوية الموسعة للأوعية أ هـ .
ثم علل الزميل فائدة الكي في معالجة اللقوة، كم وصفها ابن سينا، فقال : هذا ويشير (أي ابن سينا) إلى ضرورة " كي العرق الذي خلف الأذن " تلك المنطقة التي يخرج منها العصب الوجهي من الثقب الإبري الخشائي، وربما كان للكي تأثير موسع للأدوعية عن طريق المنعكسات. ومن يستغرب ذلك بعد أن برهن العلماء الصينيون عن فائدة الوخز بالإبر المسخنة أ هـ .
أوافق الدكتور قطاية على تعليله هذا، وأضيف تعليلاً آخر وهو إمكانية انطلاق مواد تتولد في الأنسجة المحترقة وما جاورها نتيجة للكي، لها فعل موسع وعائي أيضاً .
ويحتاج إثبات ذلك أو نفيه إلى دراسات عليا، وتجارب من قبل المتخصصين في مراكز الأبحاث العلمية .
ثم إني استعرت الزميل الكريم كتاب ( التصريف لمن عجز عن التأليف) فوجدت أن الزهراوي يشير في اللقوة بإجراء الكي في ثلاث نقاط، توافق غصون شعب العصب الوجهي المعصبة لعضلات القحف والعضلة المدارية الجفنية ولعضلات الشفتين . وإليكم نص عبارته :
قال رحمه الله تعالى : اللقوة التي تعالج بالكي إنما تكون من النوع الذي يحدث من البلغم
[36]
على ما ذكرت في تقاسيم الأمراض، ويجتنب كي النوع الذي يحدث من جفوف وتشنج العصب. متى عالجت هذا النوع من اللقوة بالارياجات والسعوطات والغراغر فلم ينجع علاجك، فينبغي أن تكوي العليل ثلاث كيات : واحدة عند أصل الأذن، والثانية أسفل قليلاً من صدغه، والثالثة عند مجتمع الشفتين. واجعل كيّك من ضد الجهة المريضة،لأن الاسترخاء إنما يحدث في الجهة التي تظهر صحيحة. وصورة الكي أن تكويه كية بإزاء طرف الأذن الأعلى تحت قرن الرأس قليلاً، وأخرى في الصدغ ويكون طولها على قدر الإبهام، تنزل بالكي يدك حتى تحرق قدر نصف ثخن الجلد، وهذه صورة المكواة وهي نوع من السكينة التي تقدمت صورتها إلا أنها ألطف قليلاً كما ترى .
ورسم جراحنا العربي المكواة ثم قال : وينبغي أن يكون السكين فيه فضل غلظ قليلاً، ثم تعالج الموضع بما تقدم ذكره حتى يبرأ إن شاء الله تعالى أ هـ .
ولقد ذكر سابقاً في بحث كي الشقيقة أن تشرّب قطنة من ماء الملح وتوضع على الكية وتترك ثلاثة أيام، ثم تحمل القطنة بالسمن ثم تعالج بالمراهم إلى أين بيرأ .
وأخيراً في أواخر عام 1976 فوجئت برسالة أتتني من الجمهورية العربية اليمنية من مستشفى الشهيد العلفي في الحديدة من اليمن الشمالية. كتبها أحد زبائني المصاب من سنين عديدة بربو قصبي، فقصّ لي أنه دخل هذا المستشفى بنوبة ربوية، فأجريت له عملية زرع الغدة تحت المخ (يعني الغدة النخامية ) لأرنب ذبح حديثاً، وذلك تحت الجلد بين الثديين بتخدير موضعي وعلى سريره فتحسن، ثم قال : لفت انتباهي معالجة الشلل من المواطنين في الحديدة من هذا الجهاز، وحبذ في رسالته استعمال هذا الجهاز الصيني في قطرنا وبلدتنا .
مما سبق يتبين لنا أن معالجة الجروح النازفة والألم الجنبي واللقوة البردية بالكي، لها وقائع في عهد الرسول العربي، أي قبل ترجمة الطب اليوناني والفارسي والهندي وقبل إشارة ابن سينا والزهراوي وغيرهما إلى تلك المعالجة.
وهذا يدل على أن للعرب طباً في جاهليتهم وبعد الإسلام قبل عصر الترجمة، وأن انشغال المسلمين السابقين بالجهاد واهتمامهم برواية تعاليم الدين الجديد، زهَّدتهم في نقل الكثير من أخبار الطب، ولعلي بإذن الله أستطيع أن أجمع باقات من تلك الأخبار أقدمها في مناسبات أخرى ف سلسلة أبحاثي عن الطب النبوي والطب في عهد الرسول العربي .
القديم النافع يطور ولا يهمل بالكلية:
كثر وشاع استعمال الكي في العصور القديمة والمتوسطة، لضعف وسائل التشخيص التفريقي وقلة الأدوية النوعية، ولا يعني وصفه بالقديم، أن ذكراه أمر تاريخي بحت. فلقد أوضحت في واقعات جرت في العهد النبوي تمت فيها المعالجة بالكي، وبقي استطباب الكي في بعضها حتى اليوم، وإن تطورت الآلة الكاوية من حديد محمى بالنار إلى مكواة حرورية، ثم إلى مكواة كهربائية يسهل استعمالها، ويمكن استخدامها في كي الأماكن العميقة أو الدقيقة من الجسم .
وأحب أن أذكر أمثلة أخرى من أستطباب الكي القديمة الباقية حتى عصرنا هذا، ولكن الآلة الكاوية تطورت وأصبحت الفن في استعمالها أرقى .
1.
لقد استعمل الكي قديماً في مداواة الجروح السامة المختلفة الناجمة عن عض الكلاب الكلبة والأفاعي السامة، بقصد تخريب مكان الإصابة بالنار فيتلف فيه العامل الممرض أو السام لسم الأفعى ، ولم يكتشف فيه اللقاح الباستوري المضاد للكلب، ولم يجهز فيه مراكز لمعاجلة الكلب ومكافحته. ولا يزال الكي وسيلة إسعاف أولية في ذلك، ولا سيما عندما يكون المصاب في مكان ناءٍ عن المراكز الصحية .
2.
واستعمل الكي لتخريب الأنسجة المريضة واستئصال بعض الأورام، كالأورام الباسورية والثآليل والتنبيتات والأورام الحليمية
[37]
وغيرها . حتى إن الزهراوي ذكر معالجة الثآليل بكيها بمكواة تشبه الميل تدخل في نفس التؤلول مرة أو مرتين . أما في عصرنا الحديث فقد حل الكاوي الحروري محل الكي بالميل الحديدين ثم حل الكاوي الكهربائي الدقيق محل السابقين في معالجة الثآليل
[38]
.
3.
ولقد أشرت إلى أن العلماء الصينين طوروا طريقتهم في المعالجة بالوخز بالإبر السخنة بواسطة حشائش تربط في عقبها ثم تحرق، واليت يعود تاريخ استعمالها إلى آلاف من السنين خلت، طوروها إلى جهاز كهربائي يستعمل فيه التيار لستخين الإبر الذهبية وهزها بلطف.
يلتزم الأطباء الصينيون التقليديون منهم بالنقاط المحددة في الكتابات القديمة، بينما يحاول الأطباء الشباب وبينهم عدد كبير من درسوا في الجامعات الغربية ـ تطبيق وتجربة هذه الوسيلة في نقاط جديدة ، وقد استعاضوا منذ عدة سنوات عن تحريك الإبر باليد بوصلها بتيار كهربي، وقد لا حظوا أن ا لنتائج أصبحت أفضل مما كانت عليه
[39]
.
فيجدر بكل أمة أن تستفيد من تراثها العلمي، فتعيد النظر فيه وفي الطرق الشعبية المبنية عليه، ثم تطور النافع منه لصالح الإنسانية وصالح نموها وإثبات شخصيتها ودعم اقتصادها. فكم من جواهر ثمينة في تراثنا أهملناها ونحن في جو من عواطف الشغف بكل جديد،وكم أضرت أدوية جديدة تحمسّ العالم، ثم تبين له بعد سنين أن لها آثاراً مسرطنة أومشوهة للجنين أو ضارة بأحد أعضاء أو أجهزة الجسم، فالعلم لا يفرق بين قديم وجديد وله وزيران هما التجارب والاستنتاج الفكري للعالم الخبير النزيه.