الاقتصاد السياسي النيوكلاسيكي: المدرسة النمساوية
. منهجية الاقتصاد النيوكلاسيكي: يكشف الاقتصاد النيوكلاسيكي عن عدد من الملامح المنهجية السائدة لدى أعلامه والمنتشرة بينهم على الرغم من القليل من الاختلافات النوعية بين عالم وآخر. ولأن الاقتصاديين الينوكلاسيك تسيطر عليهم الأيديولوجيا، وهي المتمثلة في تحويل العلم الاقتصادي إلى مبرر للنظام الرأسمالي كما رأينا في الصفحات السابقة، فإن هذا الطابع الأيديولوجي لعلمهم ينعكس على المنهجية التي يسيرون عليها ويؤدي إلى تشويهها في النهاية، وذلك بأن تسيطر عليها نزعات صورية وفردية ووضعية كما سيتضح فيما يلي. أ. الإبستمولوجيا الوضعية: نتيجة لسعي علماء الاقتصاد الينوكلاسيك نحو جعل العلم الاقتصادي علما دقيقا منضبطا، وضعوا أمام أعينهم نموذج العلم الطبيعي الذي حاز على الدقة ودرجة الصدق العالية استنادا على اعتماده على الرياضيات، وهو الفيزياء النيوتونية. لكن محاولة التشبه بالعلم الطبيعي في إقامة علم اجتماعي إنساني مثل الاقتصاد تؤدي في النهاية إلى نزعة وضعية تختزل الحياة البشرية في قوانين تشبه القوانين الفيزيائية، وهذا ما حدث بالفعل مع النيوكلاسيك. يستند الاقتصاد النيوكلاسيكي على ابستمولوجيا مستقاة من نموذج العلم الطبيعي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أو ما يعرف بالفيزياء النيوتونية. يتكون هذا النموذج من قوانين حول حركة الأجسام واتجاهات وسرعات هذه الحركة بناء على قوانين الجاذبية والكتلة والطاقة. واعتماد الاقتصاد النيوكلاسيكي على هذا النموذج يجعله يعامل موضوعه كما لو كان أجساما وطاقة ومادة، وكما لو كان يشكل نسقا مغلقا ينـزع دائما نحو التكامل، والملاحظ أن مفهوم التكامل ظهر لأول مرة في فيزياء نيوتن لوصف ما يحدث داخل نسق جاذبية مغلق مثل المجموعة الشمسية. يصرف الاقتصاد النيوكلاسيكي نظره عن أن موضوعه الحقيقي ليس حركة فيزيائية لأجسام داخل نسق مغلق بل هو حركة البشر التي لا يمكن فهمها بالتوازي أو التشبيه بحركة الأجسام الفيزيائية. وتظهر نتيجة هذه المنهجية في تعامل الاقتصاد النيوكلاسيكي مع الإنتاج كما لو أنه طاقة، ومعاملة دوران السلع باعتبارها تسير في قنوات مثل سريان الطاقة والتي تنـزع دائما نحو التكامل، أي نحو التوزع العادل حسب قوانين الطاقة. والملاحظ أن نموذج الفيزياء النيوتونية هذا قد تجاوزه العلم المعاصر عن طريق النظرية النسبية ونظرية الكوانتم، ولذلك فإن العلمية التي يدعيها الاقتصاد النيوكلاسيكي كاذبة، نظرا لتجاوز العلم المعاصر للنموذج العلمي الذي يقلده النيوكلاسيك. لكن يظل النيوكلاسيك متمسكين بالنموذج العلمي للفيزياء النيوتونية نظرا لحاجتهم الأيديولوجية إليها، إذ تخدمهم جيدا في هدفهم الأساسي وهو إضفاء العقلانية على نظام غير عقلاني، وإضفاء الطابع العلمي على ما ليس إلا تبريرا أيديولوجيا للرأسمالية. ب. النـزعة الصورية والهوس بالرياضيات: يسعى النيوكلاسيك نحو جعل علم الاقتصاد علما تصنيفيا Taxonomic مولع باختراع الفئات والأصناف والمقولات، وبتقسيم وتوزيع كل الواقع بتنوعاته الهائلة على هذه الفئات: الإيجار العقاري والفائدة وأجر العمل، الأرض ورأس المال وقوة العمل، مقاول الأعمال والسوق الحر..إلخ. صحيح أن هذه الفئات تعبر عن شئ من الواقع، إلا أنها لا تعبر عنه كله وبدقة. فغالبا ما يعمل علماء الاقتصاد على فهم الواقع الاقتصادي بناء على هذه التصنيفات المسبقة لا بناء على البحث الواقعي، وبذلك فهم يحشرون الواقع في هذه التصنيفات المقولية بصرف النظر عما إذا كانت تستجيب للواقع أم لا. تكشف تلك النـزعة التصنيفية عن فلسفة في الماهيات وعن مفهوم عن طبيعة إنسانية ثابتة ذات حاجات بيولوجية فردية، وعن تبنيهم لمفهوم عن قانون طبيعي ثابت وأزلي عبر التاريخ غير خاضع للتغيرات الاجتماعية والتاريخية. ومن هذه الخلفية يسعى علماء الاقتصاد الكلاسيك والنيوكلاسيك على السواء نحو البحث عن انتظامات Uniformities ، وعن قوانين أزلية تحكم السلوك الاقتصادي، ونحو وضع نظرية في التوازن الاقتصادي Equilibrium يدَّعون أن الواقع يكشف عنها. وهذا التوازن الذي يتكلمون عنه ليس سوى توازن وتكامل نظريتهم الاقتصادية نفسها لا توازن وتكامل الواقع، وفي النهاية تعبر فكرة التوازن لديهم عن التوازن النظري باستخدام المعادلات الرياضية والمسائل الحسابية. وبذلك ينغلق علمهم على نفسه ولا ينفتح أبدا على التنوع الاجتماعي للطبيعة الإنسانية و البعد التاريخي للنظم الاجتماعية. كما يختزل النيوكلاسيك مفهوم الثروة في مفهوم الثروة النقدية وينظرون إلى المنفعة Utility على أنها الربح المالي لا الوفرة والرخاء الإنتاجي. وهذا ما يؤدي بهم إلى التعامل مع الإنتاج والتوزيع والتبادل ودوران رأس المال بلغة الأرقام، تلك الأرقام التي يدخلونها في معادلات رياضية وجداول ورسوم بيانية. واعتقادهم أن ما توصلوا إليه من معادلات رياضية هو القوانين الاقتصادية الحاكمة لحياة البشر يجعلهم يختزلون غنى وتعقد الحياة البشرية والتتابع السببي التاريخي للحوادث إلى تتابع منطقي لخطوات البرهان الرياضي معتقدين أن هذا هو العلم في حين أنه هو الوهم بعينه. سعى النيوكلاسيك، وخاصة في الولايات المتحدة، نحو تطوير التحليلات الرياضية الاقتصادية، وكان الموجه لهم في ذلك رغبتهم في إثبات أن التكاليف الفردية والتكاليف الاجتماعية متساوية، على الرغم من عدم تساويها واقعيا. وبكلمات أخرى سعى هؤلاء نحو توضيح أن المجتمع ليس سوى مجموع أفراده المكونين له، وبالتالي ليس في حاجة إلى ترتيبات اقتصادية خاصة به مختلفة عن الآليات التلقائية للسوق والتي تضمن رفاهية الأفراد؛ وكانوا في ذلك يكشفون عن التمسك بالعقيدة الليبرالية التقليدية عن السوق الحر وعن عدم استقلال المجتمع عن الأفراد المكونين له وعدم تشكيله لكيان مختلف عن الأفراد. إن السبب الذي يجعل علماء الاقتصاد النيوكلاسيكي يلجأون إلى الرياضيات هو أنه كلما اتخذت النظرية الاقتصادية طابعا صوريا رياضيا كلما ظهرت كما لو أنها ابتعدت عن الأيديولوجيا، لأنها بذلك تركز على الشكل و لاتنطوي على أي مضمون يمكن أن تشوبه الأيديولوجيا. إن هذا النوع من النظريات بذلك يصبح منعزلا عن الواقع وعن كل ما هو خارج المعادلة الرياضية. فالنظرية الاقتصادية الرياضية ليست إلا معادلات لا تقول لنا الكثير عن العلاقات السببية بين الأحداث، كما أنها لا تقوم بشئ إلا أن تعطي وصفا لحالة من الاعتمادات المتبادلة بين متغيرات. إن ظاهرة الاعتماد الداخلي المتبادل بين عناصر نظام اقتصادي مصاغ بلغة رياضية مثل نظرية والراس على سبيل المثال لا تنشأ إلا لأن هذا النظام هو نظام في التوازن الثابث Static Equilibrium ، ومثل هذا النظام يقوم بتثبيت المتغيرات الاقتصادية الحقيقية التي لا تعرف توازنا ثابتا أبدا بل تشهد تغيرات دائمة؛ وإذا ما شهد الواقع شيئا من التوازن فلن يكون إلا توازنا مرحليا ومؤقتا بين تغيرين، أي توازنا ديناميا ينتقل بين تغيرات. ومن بين الأسباب التي مكنت علماء الاقتصاد من التعامل مع الاقتصاد رياضيا تطور الاقتصاد نفسه إلى الدرجة التي جعلت التعامل الرياضي معه ممكنا. وقد جاء هذا التطور في شكل مزيد من الاستقلال للمجال الاقتصادي عن مجالات الحياة الأخرى وعن الإرادة الإنسانية، مما جعل الاقتصاد عصيا على التحكم البشري الواعي وأصبحت له قوانينه الخاصة التي يخضع لها البشر أنفسهم. فمع ازدياد استقلال العملية الاقتصادية عن الإرادة البشرية، ومع ازدياد انغلاق عالم الإنتاج الرأسمالي أمام التحكم البشري الواعي يجد البشر أن ما صنعته أياديهم استقل عنهم وأصبح متحكما فيهم. وعندما ينعزل الاقتصاد عن الإرادة البشرية تتخذ قوانينه شكل القوانين الطبيعية، وعندئذ فقط تتمكن الرياضيات من التعامل معه. إن كثرة استخدام الرياضيات في التحليلات الاقتصادية يقف دليلا على اغتراب البشر عن شروط حياتهم المادية حتى أنها أصبحت تشكل كيانا مستقلا عنهم وتتحكم فيهم كما لو كانت قوانين الاقتصاد بحتميتها وضرورتها القاهرة تشكل طبيعة ثانية. ومن الأسباب التي تجعل الاقتصاد الينوكلاسيكي يحول العلم الاقتصادي إلى علم رياضي هدف أيديولوجي يتمثل في أن اللغة الرياضية الصورية والرمزية تمكن النيوكلاسيك من التعامل مع الاقتصاد شكليا وصوريا عازلين بذلك المضمون العيني لعلمهم والذي يتمثل في الحياة الحقيقية للبشر. فعلى سبيل المثال، يعتم العلم الاقتصادي الرياضي على التناقض الطبقي، بل ويلغيه تماما؛ ذلك لأن الأطراف الاجتماعية الداخلة في العملية الإنتاجية لا تظهر إلا باعتبارها رموزا متساوية القيمة؛ فيتم التعبير عن رأس المال والعمل المأجور بـ (س) و(ص). تعامل اللغة الرياضية هذه الرموز على أنها تنتمي إلى فئة واحدة، فئة المتغيرات، وبذلك ينظر من يتعامل مع الواقع إلى هذه الرموز على أنها متساوية الدلالة في حين أنها تعبر عن أوضاع طبقية مختلفة تماما بينها تراتب سلطوي وخضوع طرف للآخر. إن التعبير عن رأس المال والعمل بـ(س) و(ص) يخدم أيديولوجيا الاقتصاد النيوكلاسيكي جيدا لأنه يتفق مع الوهم الذي تنشره هذه الأيديولوجيا والقائل بالتساوي بين رأس المال والعمل المأجور باعتبارهما طرفين متساويين في علاقة تعاقد حرة وقانونية. 6. تبرير الاقتصاد النيوكلاسيكي للرأسمالية: إن المشكلة الأساسية التي تعاملت معها الليبرالية الجديدة، والتي ورثتها من الاقتصاد النيوكلاسيكي، هي مشكلة القيمة الزائدة: كيف تبرر استحواذ الرأسمالي على تلك القيمة الزائدة التي تسميها ربحا؟ كيف تبرر أرباح الرأسمالية؟ إن تبرير حصول الرأسمالي على الربح من أهم القضايا الحساسة بالنسبة لأي أيديولوجيا مبررة للرأسمالية، وذلك نظرا لأن قضية القيمة الزائدة كانت محل نقد ماركس. أعلن ماركس منذ أربعينات القرن التاسع عشر أن القيمة الزائدة نتاج للعمل البشري وحده، لكن يستحوذ الرأسمالي عليها بفضل موقعه الحاكم والمسيطر في العملية الإنتاجية، وبفضل علاقة التراتب الطبقي بين رأس المال والعمل المأجور. وبالتالي نظر ماركس إلى القيمة الزائدة على أنها نتاج عمل غير مدفوع الأجر. وفي مواجهة الهجوم الماركسي على البناء الطبقي للرأسمالية الذي يتيح لرأس المال الاستحواذ على القيمة الزائدة، إنشغل الاقتصاد السياسي النيوكلاسيكي في الدفاع عن الرأسمالية بتبرير حصول رأس المال على القيمة الزائدة المصدر الأساسي لربح الرأسمالي. وكان خطاب الليبرالية الجديدة وريث الاقتصاد السياسي النيوكلاسيكي في الدفاع عن حق الرأسمالي في القيمة الزائدة وتبرير ما يحصل عليه من ربح. وقد تمثل هذا التبرير في الحجج الآتية: أ. حجة حق الملكية: وهي أكثر الحجج سذاجة وضعفا، إذ تقول أن الرأسمالي يملك رأس المال وأدوات الإنتاج، وبالتالي فما يأتي به هذا الرأسمال من ربح من حق مالكه. وتتحول هذه الحجة إلى الثناء على الرأسمالي لكرمه ومحبته لمجتمعه وللإنسانية لسماحه لما يملكه من أدوات إنتاج أن تعمل مشغلة بذلك أيدي عاملة ومنتجة لسلع يحتاج إليها المجتمع، وقد كان يستطيع أن يحجب رأسماله عن العمل، فهذا من حقه بناء على ملكيته الخاصة لرأسماله. لكن من أين أتى الرأسمالي برأسماله وأدوات إنتاجه؟ من أرباح سابقة، فما يملكه من أدوات إنتاج ليس إلا نتيجة تراكم أرباح تحصل عليها في الماضي. ومن أين أتى بهذه الأرباح السابقة؟ من استحواذه على القيمة الزائدة التي يضفيها العمل على المادة الخام ليصنع منها سلعا وتحويل هذه القيمة الزائدة إلى تراكم رأسمالي. تتغافل هذه الحجة عن حقيقة أن ما يملكه الرأسمالي هو نتاج تراكم عمل سابق لأشخاص آخرين استحوذ عليه الرأسمالي بفضل وضعه الطبقي المسيطر في العملية الإنتاجية؛ كما ننغافل الحجة عن حقيقة أن قوى الإنتاج في المجتمع لا تصبح ملكية خاصة لأشخاص إلا في ظل نظام معين في تقسيم العمل والثروة على أساس طبقي. إن الوضع الطبقي للرأسمالي باعتباره مسيطرا على العملية الإنتاجية هو الذي يمكنه من تحويل القيمة الزائدة إلى رأس مال جديد يكون من حقه وحده طبقا لحق الملكية الخاصة. ب. حجة التوزيع العادل: تذهب هذه الحجة إلى أن الرأسمالية عادلة لأنها تعطي لكل طرف في العملية الإنتاجية ما يساوي قيمة عمله. بمعنى أن ربح الرأسمالي يكون مقابل عبقريته ومواهبه النادرة في إدارة المشروع ومبادرته ومخاطرته بأمواله..إلخ، وأجر العامل هو حقه الذي يتلقاه نظير بذل قوته. ترجع هذه الحجة إلى الاقتصادي الأمريكي جون بيتس كلارك الذي ذهب إلى التدليل على تلك الحجة بقوله أنه إذا انسحب عامل واحد من العمل فسوف تنخفض قيمة هذا العمل بمقدار أجر هذا العامل، وبذلك يصبح أجر العامل مبررا ومشروعا نظرا لأن هذا الأجر جزء أصيل داخل في صميم قيمة المنتج. والحقيقة أن هذه الحجة تفترض أن أجور جميع العمال جميعهم تساوي قيمة المشروع ككل وهذا غير صحيح؛ هذا بالإضافة إلى أنه إذا انسحب عاملان أو ثلاثة من العمل لانخفضت قيمة العمل بأكثر من مجموع أجورهم وذلك نظرا للطبيعة العضوية لتقسيم العمل الصناعي، فإسهام العمل عضوي وكيفي وليس كميا كما يعتقد النيوكلاسيك. كما تنطوي حجة كلارك على مسلمة ضمنية بأن هناك تساويا تاما بين رأس المال والعمل المأجور بحيث يحصل كل طرف على مقابل إسهامه الإنتاجي، لكن ليس هناك في العالم الحقيقي أي تساو بينهما. ج. حجة الإسهام في الإنتاج: تذهب هذه الحجة إلى أن ما يحصل عليه الرأسمالي من أرباح مشروع تماما نظرا لأنه يسهم في الإنتاج، والربح بذلك يعد مكافأة على إدارته للمشروع. والحقيقة أن صاحب رأس المال ليس منتجا، إنه لا ينتج أي شئ؛ المنشعلون بالعملية الإنتاجية من عمال وفنيين ومهندسين هم المنتجون الحقيقيون. والرأسمالي لا يفعل شيئا إلا أن يسمح لرأس المال بأن يشتغل في الإنتاج. الرأسمالي إذن هو صاحب القرار الإنتاجي وليس القائم بالعملية الإنتاجية. إن رأس المال الصناعي في صورة البنية الأساسية والمواد الخام والآلات جاهز وموجود، كما أن القوة العاملة والقدرة التقنية والفنية موجودة وجاهزة قبل أن يوجد الرأسمالي، ولا يفعل الرأسمالي شيئا سوى أن يسمح لهذه العناصر بأن تعمل. ولا يُسمح للرأسمالي بأن يكون صاحب القرار الإنتاجي إلا في ظل نظام معين في توزيع الملكية والثروة يمكن أصحاب المال من الاستحواذ على القوى الإنتاجية للمجتمع ويديرونها لجني الربح الشخصي. إن سماح الرأسمالي لعناصر الإنتاج بالعمل مبني على سماح النظام الاجتماعي-الطبقي السائد بأن يصبح هذا الرأسمالي على رأس العملية الإنتاجية وصاحب القرار الإنتاجي؛ ويصبح الرأسمالي صاحب القرار الإنتاجي بفضل نظام قانوني معين يسمح له بذلك، نظام يعترف بحق الامتلاك الخاص لقوى المجتمع الإنتاجية. ولذلك فالرأسمالي لا يحتل موقعه المسيطر في العملية الإنتاجية بفضل عبقريته ومواهبه الشخصية، بل بفضل بناء اجتماعي-طبقي معين يسمح لأصحاب المال بالاستحواذ على قوى المجتمع الإنتاجية وإدارتها لصالحهم. د. حجة المكافأة على التضحية والانتظار: بينما كانت الحجج السابقة تبرر حصول الرأسمالي على الربح، فإن هذه الحجة تبرر شيئا آخر مختلفا؛ إنها تبرر الفائدة على رأس المال نفسه، أي حق أصحاب رأس المال المالي من أصحاب رؤوس الأموال السائلة وحملة الأسهم والسندات في الأرباح والأنصبة التي يحصلون عليها عندما يودعون أموالهم في بنوك أو يستثمروها في مشاريع أو شركات مساهمة أو يضاربون بها في البورصة. تذهب هذه الحجة إلى أن الفائدة مشروعة لأنها المقابل الذي يتلقاه صاحب المال عن عدم استهلاك أمواله في الحاضر وتأجيل هذا الاستهلاك إلى المستقبل، والتضحية باستعمال حالي للمال في سبيل استعمال مؤجل. هذه التضحية وهذا التأجيل يجب أن يقابله مكافأة، وهي مكافأة مشروعة. تخلط هذه الحجة بين مستويين من الاقتصاد: المستوى الشخصي أو العائلي والذي كان يسمى بالاقتصاد المنزلي، والمستوى الاجتماعي والقومي والسياسي للاقتصاد وهو المسمى بالاقتصاد السياسي. أي أنها تخلط بين ما يحدث على مستوى الأفراد من ادخار ومن تجنيب جزء من دخلهم في سبيل الفائدة، وبين ما يحدث على مستوى عالم الصناعة والاستثمار. والحقيقة أن الادخار الشخصي شئ والقيمة الزائدة التي تتحول إلى تراكم رأسمالي شئ آخر. تهدف هذه الحجة الإيحاء بأن النظام الرأسمالي وحده هو الذي يتيح للأفراد الحصول على فوائد مركبة على إيداعاتهم وعلى أنصبة متزايدة نتيجة ارتفاع أسعار الأسهم، رابطة بذلك شريحة كبيرة من الطبقة الوسطى بعجلة الاقتصاد الرأسمالي ضامنة ولاءها وتأييدها. إن الفوائد التي تحصل عليها الطبقات الوسطى من ادخاراتها ليست إلا حماية لأموالها من الانخفاض المستمر في قيمة العملة على مر السنين ومن التضخم الذي لا ينتهي. هذه المدخرات تختلف تماما عن الكميات الضخمة من رأس المال المالي العامل في كل مجالات الاقتصاد بما فيها المضاربات. هذا بالإضافة إلى أن الإيداعات المالية للشريحة العليا في المجتمع ليست مجرد مدخرات مثلما هو الحال مع الطبقة الوسطى، بل هي قيمة زائدة في صورة أرباح تعيد هذه الشريحة استثمارها مرة أخرى؛ إنها تراكم لرأس المال يجب أن يستثمر في مشاريع جديدة. وبالتالي فهذه الشريحة لا تدخر بل تستثمر، ولا تحمي أموالها من الإنفاق ومن انخفاض قيمة العملة بل تضارب بها في البورصات، ولا تضحي باستخدام حالي للمال في سبيل زيادة على هذا المال في المستقبل، ولا تقتطع جزءا من دخلها ولا تؤجل الإنفاق، بل تحول الأرباح السابقة إلى استثمارات جديدة. هـ. حجة المخاطرة: تذهب هذه الحجة إلى أن الرأسمالي يخاطر بأمواله وبالتالي فهو يستحق مكافأة على هذه المخاطرة. لكن هل يخاطر الرأسمالي بالفعل؟ إنه في الحقيقة لا يخاطر بفقدان رأس المال نفسه، بل بهامش الربح الذي سيحققه، ولا يفقد الرأسمالي كامل رأسماله إلا في حالات نادرة، كأن يكون مضاربا في البورصة. والمضارب في البورصة يدخل في لعبة أشبه بالقمار، وهو يعلم جيدا إمكانية فقدان رأسماله قبل أن يبدأ اللعب. أما على مستوى المشروع الصناعي فإن المخاطرة هي الفشل في تحقيق الربح المنتظر، أما رأس المال نفسه باعتباره أدوات الإنتاج والأرض فليس هناك مخاطرة في فقدانها، إلا إذا كانت مشتراة بقروض من البنوك أو تم إصدار أسهم وسندات بإسمها مستحقة الأرباح والأنصبة، إي إلا إذا دخل المشروع الصناعي استثمار مالي. ليست المخاطرة إذن تكمن في عملية الإنتاج ذاتها، بل في عملية الاستثمار المالي؛ فالرأسمالي باعتباره رجل صناعة لا يخاطر، بل يخاطر باعتباره مستثمرا لأموال أناس آخرين. و. حجة الكفاءة: تذهب هذه الحجة إلى تبرير النظام الرأسمالي من منطلق أنه النظام الأكفأ في تعبئة الموارد وتوظيفها، وفي إبداع التكنولوجيا الجديدة وتطبيقها في الإنتاج، وفي الإقلال من تكاليف الإنتاج والوصول إلى إنتاج كمي هائل. تعتمد هذه الحجة على نظرية من نظريات الاقتصاد النيوكلاسيكي تذهب إلى أن السوق الحر يتمتع بكفاءة في إنتاج السلع الاستهلاكية نظرا لأنه يزيد من إنتاج السلع التي يجد عليها طلب. ومعنى هذا أن البيع الضخم لسلعة ما سوف يقلل من أسعارها، لكن الذي يحدث في العالم الواقعي أن سعر هذه السلعة يزيد ولا ينقص، لأن الطلب المتزايد عليها يدفع رؤوس الأموال لأن تتدافع على إنتاجها؛ وعند زيادة السعر يحدث انكماش في الطلب، وهذا الانكماش يؤدي إلى زيادة في السعر أيضا، نظرا لرغبة المنتجين في تعويض ما فقدوه من البيع الموسع. إن ترك الأسعار لآليات التنافس الاقتصادي لا يمنع من ارتفاعها ولا يمنع أيضا من ظهور الاحتكارات. إن حجة الكفاءة التي يستخدمها النيوكلاسيك وورثتها عنهم الليبرالية الجديدة تركز على الكفاءة الإنتاجية والتقنية والربحية، لكنها تتناسى كفاءة أخرى أهم، ذلك لأن مقياس الكفاءة الحقيقي في اقتصاد ما ليس مجرد تحقيق الربح بل قدرته على توظيف العمالة وتأمين العاملين به. إن الأمن الاجتماعي للعمال والحد الأدنى للأجور أهم بكثير من قدرة المشروع على تحقيق الأرباح. فالذي يتناساه المدافعون عن الرأسمالية كفاءة في تعبئة الموارد البشرية وفي تأمينها، وكل ما يهمهم تعبئة الاستثمارات. لكن لم يعد علم الاقتصاد السائد يعير شأنا بالكفاءة في تعبئة العمل البشري وتأمينه. تثبت الرأسمالية كل يوم أنها الأسوأ في قضايا تأمين العمل والحد الأدنى للأجور والأمن الاجتماعي للقوة العاملة، ناهيك عن سجلها السئ في قضايا البيئة. ليست هناك أية كفاءة في النظام الذي يلوث البيئة ويقضي على الثروات الطبيعية ويقطع الغابات ويملأ الأرض بالنفايات الذرية والكيماوية. أما عن ما تقوله الحجة من أن الرأسمالية هي التي تتيح للتكنولوجيا أن تتقدم وتطبق في مجال الإنتاج، فإن هذه الحجة مردود عليها من جهتين: الأولى أن تقدم العلم والتكنولوجيا هو تقدم للبشرية ذاتها في معرفتها وأدواتها وليس مرتبطا بأسلوب معين في الإنتاج، والحجة بذلك تدعي أن ما حققته البشرية من تقدم علمي وتكنولوجي في القرون الأخيرة يرجع الفضل فيه إلى الرأسمالية، وهذا خطأ. والجهة الثانية للرد على هذه الحجة هي استعراض ما حققته الأنظمة الاشتراكية السابقة من تصنيع سريع لمجتمعاتها في سنوات معدودة، خاصة في الاتحاد السوفييتي. إن نظرة سريعة على تاريخ النظام السوفييتي منذ نشأته يقدح في صحة هذه الحجة؛ ذلك لأن الاتحاد السوفييتي نجح في عقوده الأولى الممتدة من ثورة 1917 وحتى الخمسينات في بناء هيكل صناعي ضخم وتحقيق كفاءة إنتاجية عالية من حيث الكم والكيف. لقد نجح النظام هناك في تصنيع روسيا التي كانت متخلفة صناعيا وتكنولوجيا عن أوروبا الغربية وأمريكا بمراحل، إذ نجح بالفعل في تصنيع بلد متخلف انحدر في أواخر عهد النظام القيصري إلى مستوى بلدان العالم الثالث؛ كما نجحت روسيا في تفادي أزمة الكساد الكبير الذي أصاب العالم الغربي في الثلاثينات. وليست الإنجازات الأخرى للاتحاد السوفييتي بخافية بل يتناساها المدافعون عن الرأسمالية، مثل تصنيع أكبر جيش بري في العالم مع نهاية الحرب العالمية الثانية والذي مكن روسيا من هزيمة الجيش الألماني وإخراجه من شرق أوروبا، واللحاق بالولايات المتحدة في تصنيع القنبلة الذرية سنة 1949، وإطلاق أول قمر صناعي (سبوتنيك سنة 1955) وإطلاق أول رائد فضاء خارج الغلاف الجوي سابقة الولايات المتحدة في ذلك، وتحقيق المركز الثاني في العالم في تصنيع الغواصات والجرارات الزراعية..إلخ إذا كان المدافعون عن الرأسمالية يتحججون بأنها الأكفأ تكنولوجيا وإنتاجيا، فإن هذه الحجة تنهار أمام ما أنجزه الاتحاد السوفييتي في العقود الأربعة الأولى من تاريخه. لكن الذي حدث ابتداء من منتصف الخمسينات أن بدأ النظام السوفييتي في الضعف وموجهة الأزمات الاقتصادية، وبالتالي واجه قلة الكفاءة الشهيرة عنه لدى الغرب، حتى واجه انهيارا داخليا في السبعينات والثمانينات انتهى بالسقوط في أوائل التسعينات. إن حجة المدافعين عن الرأسمالية حول عدم كفاءة الإشتراكية لا تنطبق على الاتحاد السوفييتي في العقود الأربعة الأولى من تاريخه، ولا على التجارب الاشتراكية الأخرى في شرق أوروبا ويوغوسلافيا على وجه الخصوص، ولا على النظام الناصري في فترة حياته القصيرة الممتدة من منتصف الخمسينات وحتى منتصف الستينات. إن المرحلة الأولى الناجحة من النظم الاشتراكية تعطي دليلا واضحا على إمكانية تصنيع بلاد لم ينتشر بها النظام الرأسمالي، وباتباع طرق غير رأسمالية. لقد حققت الأنظمة الإشتراكية كفاءة عالية في بداياتها لكنها واجهت الأزمات بعد ذلك، ثم الانهيار. والمطلوب تفسيره هو النجاح الأول الذي تلاه إخفاق كبير؛ المطلوب هو معرفة أسباب إخفاق نظام كان ناجحا في بداياته. وليست هذه الأسباب منفصلة عن الحرب الباردة التي دفعت الولايات المتحدة إليها الأنظمة الاشتراكية في العالم، وسلسلة الحروب الساخنة التي شنتها الإمبريالية العالمية على دول العالم النامي الصغيرة طوال القرن العشرين: كوريا 1951، كوبا 1961، فييتنام 1963-1974، مصر 1956/1967/1973، الجزائر 1958-1962، لبنان 1982-1984، حروب الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية في الثمانينات والتسعينات، الكويت 1991، أفغانستان 2002، العراق 2003.