• مدخـــــــــل:
إن المطلع على سلوك الناس في الغرب الأوروبي أو الأمريكي، أو من عاش أو يعيش فيما بينهم، يراهم ينشئون جمعيات للرفق بالحيوان، ومنظمات لحقوق الحيوان، وما شابهها، في حين أنهم يصعقون الحيوان بالكهرباء لقتله، أو يطلقون النار عليه، أو يضربونه بآلات حديدية على رأسه، بل والبعض يقوم بسلخ جلود الحيوانات وهى حية..!! هذا، إضافة إلى أن التاريخ يروي حكايات مضحكة وتصرفات ساخرة للشعوب الغربية، ومن الأمثلة لذلك ما تعرّض له الحيوان والحشرات من أحكام قضائية ونفي وتشريد، فلقد مثلت الديدان البيضاء (وهى من آفات التربة الخطيرة) في عام 1449م أمام المحكمة الكنسية في لوزان (بسويسرا) وحُكم عليها بالنفي... ولم تنته محاكمات الحرمان والنفي ضد الحشرات والحيوانات والطيور التي كانت تجريها السلطات الدينية في أوروبا إلاّ في بداية القرن الثامن عشر الميلادي..!! وبالرغم من كل هذا يتهمون الإسلام بالقسوة على الحيوان، ويتهمون المسلمين بالتجرد من الرحمة حين يذبحون الحيوان بغرض الطعام، أو لأضحية، أو لعقيقة، أو لغيرها من الأغراض المشروعة...
وعلى النقيض من هذا، نرى بعض أهل الشرق من الهندوس وغيرهم يعلون من قدر الحيوان حتى أنهم يعبدون أصنافا كالبقر... إلاّ أن الإسلام، وهو دين الوسطية في كل منحى من مناحي الحياة، كانت شريعته – ولا تزال – معتدلة، فيها الرفق والرحمة والحقوق للحيوان، وفيها أيضا حسن الاستفادة منه والإفادة به.
وهناك العديد من أوجه الرحمة في العناية بالحيوان في الشريعة الإسلامية، ولعلّ القرآن الكريم حين يصف أصنافا من الحيوان بالنعم والأنعام فإنه يكرّم هذه المخلوقات، كما تسمّت سور عديدة بأسماء عدد من الحيوانات، كسور البقرة والأنعام والنحل والنمل... إلخ. كما ذكر العديد من الحيوانات والطيور وربطها القرآن بالإنسان عامة، وبالكثير من الأنبياء والصالحين خاصة، واستعملها القرآن الكريم كمضرب للأمثال، مثل: ناقة صالح، حوت يونس، غنم داود، هدهد ونمل سليمان، وطير إبراهيم... كما ضُرب بالحمار مع الرجل الصالح دليلا على "البعث"، وضُرب المثل بالكلب في مواقف، وبالذباب في مواقف، وبالطير في مواقف...إلخ
وأوضح القرآن الكريم في العديد من آياته مكانة الحيوان، وحدد موقعه لخدمة الإنسان، فبعد أن بيّن الله تعالى في سورة النحل قدرته في خلق السماوات والأرض، وقدرته في خلق الإنسان، أردف قائلا: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ{5} وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ{6} وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ{7} وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ{8}) [سورة النحل]. ويقول في نفس السورة أيضا: (وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ{80})...
ووردت آيات قرآنية تدعو إلى وجوب الاهتمام بالحيوانات ورعايتها، فهى مخلوقات عجماء لا يمكنها أن تطلب أكلا أو تنادي على سقيا، ومن هذه الآيات قول الله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى{53} كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى{54}) [سورة طه]، وقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ{27} [سورة السجدة]، وقوله تعالى: أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا{31} وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا{32} مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ{33}) [سورة النازعات]...
ونهى الإسلام حتى عن سبّ الحيوان والطير، مجرّد سبّه باللفظ، فقد روى أبو داود وابن حبان عن زيد بن خالد الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تسبوا الديك، فإنه يوقظ للصلاة). وعند ابن حبان في صحيحه: (.. فإنه يدعو للصلاة)... كما أن هناك العديد من الأحاديث النبوية التي تكرّم بعض الحيوانات، فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة). ووقع في رواية ابن إدريس عن حصين في هذا الحديث من الزيادة قوله صلى الله عليه وسلم: ( والإبل عزّ لأهلها، والغنم بركة)...
وعندما حرّمت الشريعة الإسلامية أكل لحوم المنخنقة والموقوذة والنطيحة والمتردية وما أكل السبع إن لم يدركه الإنسان بالتذكية (أي الذبح)، كان من أهم أهداف هذا التحريم وجوب المحافظة على الأنعام ورعايتها حتى لا تتعرّض لمخاطر تؤدي إلى موتها دون الانتفاع بها...
هذا الدين الحنيف هو الذي ضرب للعالمين المثل الأعلى في الرحمة والرفق بالحيوان، حتى جعل القسوة عليه بابا لدخول النار، فحرّم إرهاقه بالأثقال والأعمال الشاقة، وحرّم التلهي بقتل الحيوان، كالصيد للتسلية لا للمنفعة، ونهى عن كي الحيوانات بالنار في وجوهها للوسم (للإشارة والترقيم مثلا)، أو تحريش بعضها على البعض بقصد اللهو أو التربّح المالي، وأنكر العبث بأعشاش الطيور وإحراق قرى النمل.... إلخ... وهذا الرسول الكريم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم هو أول من دعى إلى الشفقة بالحيوان، والرفق به، ومساعدته في مطعمه ومشربه، وفي صحته ومرضه، بل وأثناء ذبحه... وهذه الشريعة الغرّاء هى التي قننت للحيوان حقوقا، لم تعرفها غيرها من الشرائع، ولم يصل إلى بعضها البشر، على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم، الشريعة التي كانت أساسا في بناء حضارة عالمية لمع نجمها طوال ألف عام – تقريبا – في أنحاء العالم، وتعلم منها القاصي والداني الفضائل والقيم والحقوق والواجبات والعلم والتكنولوجيا...
وفي كتابه "السنّة مصدرا للمعرفة والحضارة" يوضّح العلامة الدكتور يوسف عبدالله القرضاوي كيف دفع الإسلام نحو المحافظة على الأجناس الحية للمخلوقات من الانقراض، ويقول:.. ونجد ذلك صريحا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها الأسود البهيم)، أي شرارها والتي تعضّ الناس... فهذا الحديث النبوي الشريف يشير إلى حقيقة كونية قررها القرآن الكريم، وهى أن الكائنات الحية الأخرى – غير العاقلة – لها كينونتها الاجتماعية الخاصة، التي تميّزها عن غيرها، وتربط بعضها بالبعض، وبتعبير القرآن الكريم كل منها أمة مثلنا، يقول الله تعالى: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ{38}) [سورة الأنعام ]... ويشير الدكتور القرضاوي إلى أن المثلية التي ذكرها القرآن الكريم لا تقتضي المشابهة في كل شئ، فالمشابه لا يقتضي أن يكون كالمشبه به في جميع الوجوه، بل في وجه معين يقتضيه المقام، وهو هنا (الأممية) فكل منها أمة لها كيانها واحترامها، وحكمة الله تعالى في خلقها وتمييزها عما سواها من الأجناس والأمم الأخرى... فأمة النمل غير أمة النحل، غير أمة العنكبوت، وأمة الكلاب غير أمة القطط، غير أمة أبناء آوى... ومادامت أمة فلا ينبغي أن تستأصل، لأن هذا ينافي حكمة الله سبحانه في خلقها.
• لماذا اهتمّ الإســــلام بالحيوان:
فيما يلي أبرز الأسباب التي من أجلها دعى الإسلام إلى الاهتمام بالحيوان والطير:
1) يدعو الله تعالى في آيات القرآن الكريم المتعلقة بالحيوانات، الإنسان إلى النظر في بديع خلقه وعظيم صنعه، ويدعوه في ذات الوقت إلى دراسة هذه الكائنات، وأخذ العبر والعظات من سلوكياتها المختلفة، في مثل قوله تعالى: (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ{17}) [سورة الغاشية].
2) العمل على استخدام هذه الحيوانات، وإجراء الدراسات والبحوث التي تهدف إلى استغلال أقصى ما يمكن استغلاله من طاقات هذه الحيوانات، مع العناية بها والحفاظ عليها وعلى أنواعها من الانقراض، وذلك لأن كثيرا من اعتماد الإنسان في غذائه يكون على الحيوانات.
3) لم يأت ذكر الحيوان في القرآن الكريم بأسمائه فقط، بل أورد القرآن الكريم حقائق علمية عنه، وتلك الحقائق عديدة، منها مثلا: لهاث الكلب، تكوين اللبن في الحيوان المجتر، التفكك الأسري في بيت العنكبوت... إلخ.
4) ارتباط الإنسان منذ أن خلق بالحيوانات، يأكل من لحومها، ويشرب ألبانها، ويستعمل جلودها بيوتا له، ويستدفئ بأصوافها وأوبارها وفرائها، فيقول الله تعالى: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ{5} [سورة النحل]، ويقول: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ{8}) [سورة النحل]... كما يتخذ الإنسان من منتجات هذه الحيوانات دواء لأمراضه، كما يقول الله تعالى: (ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ{69}) [سورة النحل]، حتى أن أول مرة تعلم فيها الإنسان كيف يدفن إنسانا ميتا، كانت عن طريق محاكاته للغراب، كما قال قال الله في ذلك: (فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ{31}) [سورة المائدة]... كما تعلم الإنسان من الحيوانات البكور في السعي على الرزق، وتعلم كثيرا من نظم حياة الأسر، وتقنيات الحرب والدفاع، والصبر على العمل، كالنحل والإبل، وبناء المنازل وهندستها، كما تفعل الطيور، ونظام المعيشة وادخار الأقوات، كما يفعل النمل... وتعلم الطيران من الطائر حتى وصل الإنسان إلى اختراع الطائرة يحاكي بها الطائر... كما تعلم الإنسان من الحيوانات المائية والبرمائية كثيرا من الصناعات والاختراعات، كالسفن والغواصات وغيرها...
5) يذكر الله تعالى في العديد من آيات القرآن الكريم بعض الحيوانات، ليضرب بها المثل في موضوع ما، حتى يقرّب المطلوب إلى ذهن الإنسان، ومن بين هذه الآيات قول الله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ{41}) [سورة العنكبوت]...
لهذه الأسباب، وغيرها، شرّف الله تعالى الحيوانات بإطلاق أسماء بعضها على سور القرآن الكريم، ومنها السور الطويلة مثل سورة البقرة، وسورة الأنعام، وسورة النحل، والسور المتوسطة كسورة النمل، وسورة العنكبوت، ومنها السور القصيرة، كسورة العاديات (أي: الخيل)، وسورة الفيل... إضافة إلى ذكر أكثر من تسع وتسعين نوعا من أنواع الحيوانات والطيور والحشرات التي لا تزال بيننا إلى الآن...
• ما ورد في الأحــاديث النبوية من حقــوق للحيوان:
1) الرحمــة والرفــق بالحيوان:
شملت الرحمة في الإسلام كل مناحي الحياة، وعمّـت جميع المخلوقات، حتى أن الحيوانات التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها كان الأمر لسبب إيذائها وخطورتها على الإنسان، فحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أربع كلهن يقتلن في الحلّ والحَرَم: الحدأة، والغراب، والفأرة، والكلب العقور) أخرجه البخاري ومسلم، واللفظ له، وفي لفظ لمسلم، أيضا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خمس فواسق يُقتلن في الحلّ والحَرَم: الحية، والغراب الأبقع، والفأرة، والكلب العقور، والحدأة)، فإن قتلها لما يتحقق به مصلحة الناس، لأن الغالب في طباعها الضرر والأذى، فإذا لم يصدر منها ذلك فلا داعي لقتلها أو إزهاق أرواحها... وهناك أحاديث نبوية بالنهي عن قتل حيوانات أخرى، ومن ذلك ما رواه ابن عباس رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم: ( نهى عن قتل أربع من الدواب: النمل، والنحلة، والهدهد، والصّرد) أخرجه أبو داود وابن ماجه والدارمي...يقول الشيخ حسنين مخلوف (مفتي الديار المصرية الأسبق) – رحمه الله (في كتابه " الرفق بالحيوان في الشريعة الإسلامية"): وردت أحاديث في الرفق بأفراد وبأصناف معينة من الحيوانات، ولكن الحكم عام في سائرها... ثم ذكر أحاديث في الإبل والخيل والغنم والطيور والهرر والكلاب، وقال: هذه الأحاديث تدلّ على أنه لا فرق بين مأكول اللحم منها وبين غير مأكول اللحم، من حيث الرفق بها والتحذير من تعذيبها. وقال: إن على ولاة الأمر تعزير من يقسو على الحيوان، لأنه كما يقول ابن خلدون (في مقدمته)، يدخل في باب وظيفة الحسبة في الدولة الإسلامية.
وقد يقول قائل: إن الإسلام أمر بالرفق بالحيوان من ناحية، ومن ناحية أخرى بقتل خمس منها في الحلّ والحَرَم، وسمّاهن فواسق؟ يقول الشيخ مخلوف (نقلا عن الكاساني، في كتابه "بدائع الصنائع"): إن علة الإباحة في قتلها هى الابتداء بالأذى والعدو على الناس، وهذا المعنى موجود في الحيوانات المفترسة كلها، وكذلك في الهوام (الخطرة) والحشرات (الضارة)، فيقاس عليها لأنها من باب المؤذيات، ولذلك فإن الحديث الشريف سمّى بعضا منها، كالكلب العقور، والغراب، والحدأة، والحيّة (والعقرب)، والفأرة، بالفواسق.
واتسعت دعوة الإسلام للرحمة بالحيوان إلى الأمر حتى شملت الرحمة الحيوان حتى وإن لم تصلنا منه منفعة مباشرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عُذبت امرأة في هرّة، سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هى أطعمتها ولا سقتها، إذ حبستها، ولا هى تركتها تأكل من خُشاش الأرض) أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنه... وخشاش الأرض هو ما تعثر عليه الهرة وتجده مناسبا لطعامها، كالحشرات وغيرها... وأخرج البخاري وأبو داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئرا فشرب منها، ثم خَرَج، فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خُفّـه ثم أمسكه بفيه ثم رقى، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له)، قالوا: يا رسول الله: وإنّ لنا في البهائم أجرا؟ قال: ( في كل كبد رطبة أجر)... ولهذا الحديث روايات عديدة. وبالرغم من أن الكلب هنا قد يكون من الكلاب غير النافعة، إلاّ أن دعوة الإسلام إلى الرحمة شملته، ففي الحديث دعوة إلى رفع المعاناة عن الحيوان، حتى وإن تطلّب الأمر من الإنسان بذل جهد. وبالتالي، فإن ذلك الرجل استحقّ الشكر من الله، وغفران ذنوبه...كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلاّ كان له به صدقة) رواه مسلم...
وإذا كان الله سبحانه قد شبّه الذين ضلوا عن سبيل الحق، بالرغم من وضوحه لهم، وحادوا عنه عنادا من عند أنفسهم، فقال: ... (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ{176}) [سورة الأعراف]، فإن هذا ليس ذمّا للكلب، أو تحقيرا له، بل ذمّ وتحقير لمن ضلّ عن سبيل الله، ولم يقم بالدور المنوط به، من الناس الذين عاشوا عيشة الحيوان الضال، ولم يعيشوا أدوارهم هم...
ومن الأحاديث النبوية الشريفة التي تأمر برحمة الإنسان للحيوان، ما روى عن سهل بن الحنظلة قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعير قد لصـــق ظهره ببطنه – من شدّة ضعفه وهزاله – فقـــال: ( اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة)، وفي رواية: ( اركبوها صحاحا، وكلوها سمانا). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها، فقالت: إنّـا لم نُخلق لهذا، بل خُلقنا للحرث...) رواه أبو داود.
ومن رحمة الإسلام بالحيوان، ومنها حيوانات الركوب، نهى رسول الله ص عن المُكث فوق ظهورها طويلا، فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: ( إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر، فإن الله تعالى إنما سخّرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلاّ بشقّ الأنفس، وجعل لكم الأرض، فعليها فاقضوا حاجاتكم). وعن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( اركبوا هذه الدواب سالمة، وابتدعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي). وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم مرّ على قوم وقوف على ظهور دوابهم ورواحلهم يتنازعون الأحاديث، فقال صلى الله عليه وسلم: ( لا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق، فربّ مركوب خير من راكبه). وفي مسند أحمد بن حنبل، ومستدرك الحاكم النيسابوري، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تتخذو ظهور دوابكم كراسي)... وفي هذا نهى عن قضاء أوقات السمر والحديث فوق ظهور الدواب، رحمة بها، وإنما تتخذ هذه الدواب لقضاء الحاجات الضرورية، كالسفر وحمل الأثقال المناسبة، وما شابه هذا أو ذاك...
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تتخذو ظهور دوابكم كراسي)
وخرجت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فركبت بعيرا، فكانت ترجعه بشدة، فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: ( عليكِ بالرفق) رواه مسلم في صحيحه. وفي رواية أن السيدة عائشة رضي الله عنه ركبت بعيرا فيه صعوبة، فجعلت تردده وتزجره، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يحبّ الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه).
ومن نافلة القول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كنّى أحد كبار صحابته، وهو عبدالرحمن بن صخر الدوسي، بأبي هريرة، وذلك لعطفه ورفقه بهرّة كانت تلازمه...
وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في الرفق بالحيوان وعدم القسوة عليه، فقد ابتسم عندما حَرَن الحمار الذي كان يركبه إلى حدّ أنه رفس الهواء فأسقط النبي من فوقه ولم يضربه صلى الله عليه وسلم، بل إنه عاد إلى ركوب الحمار الذي يصرّ على عناده ويسقط النبي من فوقه مرّة ثانية، فما كان من النبي إلاّ أن ضحك حتى بدت أضراسه...
2) النهي عن القسوة وتحميل الحيوان ما لا يطيق:
القسوة نقيض الرحمة، وقد تعرّفنا على طرف من الهدي النبوي في الرحمة بالحيوان، فكيف نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القسوة على الحيوان ن أو تجويعه وضعفه وهزاله ؟؟ عن عبدالله بن جعفر رضي الله عنه قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم، فأسرّ إلىّ حديثا لا أحدّث به أحدا من الناس، وكان أحبّ ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم– لحاجته: هدف أو حائش النخل، فدخل حائطا لرجل من الأنصار، فإذا جمَل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي ص فمسح سراته إلى سنامه وذفراه، فسكن، فقال: ( من ربّ هذا الجمل؟)، فجاء فتى من الأنصار، فقـــال: لي يا رسول الله ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملّكك الله إياها؟! فإنه شكا إلىّ أنك تجيعه وتدئبه) رواه أبو داود وأحمد. تدئبه: أي تتعبه وترهقه... وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تبارك وتعالى رفيق يحبّ الرفق، ويرضى به، ويعين عليه ما لا يعين على العنف، فإذا ركبتم هذه الدواب العُجم – أي التي لا تتكلم - فأنزلوها منازلها – أي أريحوها في المواضع التي اعتدتم الاستراحة فيها أثناء السفر ) رواه مالك...
كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتمهّل في المسير بالدواب في حالة الخصب، حتى تأخذ حقها من الطعان والشراب، ولكمه نهى عن ذلك في حالة الجدب، بل أمر الصحابة بالإسراع في المسير إنقاذا لهذه الحيوانات من البقاء في أرض لا يُرجى لها فيها طعــام أو شــــراب، فقال صلى الله عليه وسلم: ( إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حقها، وإذا سافرتم في الجدب فأسرعوا السير...) رواه أبو داود.
3) عـدم وسـم الحيوانات أو تعذيبها أو اتخاذها أغراضا للرمي:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تحريق الحيوان حيّا، فقد ورد أنه رأى قرية نمل قد أحرقها مجموعة من الصحابة، فقال لهم: (من أحرق هذه؟)، فقالوا: نحن، قال: ( إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلاّ الله) أخرجه أبو داود. كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن رمي الحيوانات بصيد، فقد روى جابر بن عبدالله رضي الله عنه حديثا نبويا قال فيه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقتّــل شئ من الدواب صبرا (رواه مسلم في صحيحه). وروى مسلم، أيضا، عن عبدالله بن عباس رضي الله عنه أن رسول الله قال: ( لا تتخذوا شيئا فيه روح غرضا)، أي هدفا للضرب والتصويب، أي هدفا للتسلية أو للتدريب على الرماية والصيد. ورأى أنس غلمانا ربطوا دجاجة، وأخذوا يرمونها بنبالهم، فقال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تُصبّر البهائم (أي تُتخذ هدفا) رواه البخاري في صحيحه. وروى مسلم عن سعيد بن جبير قال: مرّ ابن عمر رضي الله عنه بفتيان من قريش قد نصبوا طيرا وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر رضي الله عنه: من فعل هذا؟ ! لعن الله من فعل هذا !! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئا في الروح غرضاً....
وفي نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصبّر البهائم، قال النووي – رحمه الله – في شرح صحيح مسلم: قال العلماء: صبر البهائم: أن تحبس وهى حيّة لتقتل بالرمي ونحوه، وهو معنى: لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا، أي لا تتخذوا الحيوان الحي غرضا ترمون إليه، كالغرض من الجلود وغيرها، وهذا النهي للتحريم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في رواية ابن عمر بعد هذه: ( لعن الله من فعل هذا)، ولأنه تعذيب للحيوان وإتلاف لنفسه، وتضييع لماليته وتفويت لذكاته إن كان مذكى، ولمنفعته إن لم يكن مذكى. اهـ.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وسم الحيوانات في وجوهها، بالكي بالنار، أي كيّـها بالنار لتمييزها بين الحيوانات الأخرى، فقد مرّ صلى الله عليه وسلم على حمار قد وُسِم في وجهه، فقال: (لعن الله الذي وسَمه) رواه الطبراني. كما روى ابن حبان في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على حمار قد وُسم على وجهه (أي كُوى لكي يُعلّم) فقال: (لعن الله الذي وسَمه). ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوسم حماره في جاعرتيه (أي الوركين حول الدبر)، اتقاء للوجه وتكريما للحمار، وهو حيوان...وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الضرب في الوجه، وعن الوسم في الوجه، فقد مرّ أمام النبي صلى الله عليه وسلم حمار قد وُسم وجهه (أي رُسمت على وجهه علامة بالكيّّ )، فقال: (أما بلغكم أني لعنت من وسم البهيمة في وجهها، أو ضربها في وجهها؟).
4) النهى عن قتل الحــيوان إلاّ لضرورة، والنهى عن التمثيل به:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أي حيوان دون سبب مشروع أو عذر مقبول، فقد روى أحمد في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من قتل عصفورا عبثا جاء يوم القيامة وله صراخ تحت العرش، يقول: ربّ سل هذا فيم قتلني من غير منفعة). روى النسائي وابن حبان عن عمرو بن الشريد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من قتل عصفورا عبثا عجّ إلى الله عزّ وجلّ يوم القيامة يقول: يا ربّ إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني لمنفعة). وفي رواية أخرى عن عبدالله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها – بغير حقّها – إلاّ يسأله الله يوم القيامة)، قيل: يا رسول الله: وما حقّها؟ قال: ( حقّها أن تذبحها فتأكلها، ولا تقطع رأسها فترمي به). وفي رواية أخرى: ( ما من إنسان قتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إلاّ سأله الله عزّ وجلّ عنها)، قيل: يا رسول الله وما حقها؟ قال: ( يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها ويرمي بها) رواه النسائي والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قتل عصفورا عبثا جاء يوم القيامة وله صراخ تحت العرش، يقول: ربّ سل هذا فيم قتلني من غير منفعة) ـ الصور فوق تظهر مصارع ثيران يقوم بقتل ضحيته كنوع من الرياضة
وفي قتل الحيوان بدافع الرحمة، أفتى المجلس الإسلامي للإفتاء بما يلي:
اختلف العلماء في جواز قتل الحيوانات بدافع الرحمة على قولين: الأول: نصّ الشافعية على أنه لا يجوز ذبح ما لا يؤكل، كالحمار الزمن – العجوز – ولو لإراحته عند تضرره من الحياة (حاشية الشرقاوي على التحرير). الثاني: وأجازه المالكية: قال الدردير في شرحه على مختصر خليل: كذكاة ما لا يؤكل لحمه، كحمار أو بغل إن أيس منه، فيجوز تذكيته، بل يُندب لإراحته. وقال الدسوقي في حاشيته: أي أيس في الانتفاع به حـقيقة لمرض أو عمى، أو حُـكما بأن كان في مغارة من الأرض لا علف فيها ولا يُرجى أخذ أحد له...
ويرى المجلس أن تُرسل هذه الحيوانات إلى جمعيات أو مراكز رعاية الحيوان إن وُجدت لتقوم برعايتها والانتفاع بها، فإن تعسّر ذلك فإنه يجوز قتل الحيوان المأكول لحمه عند العجز من القيام بحقه، من إطعامه أو علاجه، أو يصبح الإنفاق عليه ضربا من إضاعة المال، أو انتقال المرض إلى غيره، أو إلى الناس كالطيور التي تصيب بالأنفلونزا، أو صغار الدجاج المرضى أو الضعيفة التي في تربيتها أو الإبقاء عليها ضرر محض. أما الحيوان الذي إذا كسر لا يُجبر، فمثل هذا يُذكى ويُوزع على المحتاجين والفقراء، وينتفع بكل شئ فيه يمكن الانتفاع منه، كحصان كُسرت رجله ولا أمل في شفائه، فلا يُقتل عبثا، بل يُذكى ويوزع لحمه على المحتاجين لأنه مأكول اللحم.
وأما الحيوانات التي لا يؤكل لحمها، فلا حرج في قتلها عند عدم القدرة على المحافظة عليها أو علاجها أو إطعامها وإسقائها، أو رفضها تقبّل العلاج، أو الإنفاق عليها من غير طائل، فلا بأس بقتلها وتوزيعها على الحيوانات التي في حديقة الحيوانات، مثلا... كل هذا بشرط الإحسان في القتل وتجنّب أي لون من ألوان التعذيب والأذى، ولا تلقى في الطرقات فيتأذى الناس برائحتها، ولا تقدم طعاما للحيوانات المفترسة وهى حية، وبذل الجهد في الانتفاع بها ما وُجد إلى ذلك سبيلا، كالانتفاع بجلودها أو عظامها أو غيرها، لأن غير ذلك يُعدّ من تضييع المال الذي نهى عنه الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله حرّم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) رواه البخاري.
وإضافة إلى هذا، فإن قتل الحيوانات بدون دراسة للموقف بعناية قد يؤدي إلى إلحاق الضرر بالإنسان، صحته وماله وممتلكاته، فقد يؤدي سوء التعامل مع بعض الحيوانات إلى الإخلال بالتوازن البيئي، ومثال ذلك أن قتل القطط في بعض المناطق أدى إلى تزايد أعداد الفئران، حتى أصبحت خطرا كبيرا يحدق بالمحاصيل، بالتالي إلى وقوع خسائر اقتصادية كبيرة للإنسان، أو تحمله أعباء مالية في صنع سموم ومبيدات للتخلص من الفئران...
ومما يُذكر في هذا المقام، أن أهل الجاهلية كانوا يأكلون أسنمة الإبل، وهى حيّة، وكذلك إليات ( جمع: إلية ) الغنم، وكان ذلك يسبب ألما شديدا لتلك الحيوانات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما قطع من البهيمة وهى حية فهو ميتة) رواه ابن ماجه، أي ينطبق عليه حُكم الميتة، أي لا يجوز أكله، وفيه نهى عن تعذيب الحيوان أو إيلامه... كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إيذاء الحيوان بقطع أذنه أو عضو من أعضائه وهو حى، فقال: (من مثّـل بحيوان فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) رواه الطبراني.
ولقد عاب القرآن الكريم على أهل الجاهلية ما كانوا يفعلونه من شقّ آذان الأنعام، وجبّ سنام الجمل، وإلية الشاة، وهى حيّـة، فنزل النهي الإلهي عن هذه الأفعال، فقال الله تعالى: (إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً{117} لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً{118} وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً{119}) [سورة النساء]. ومعنى قوله تعالى: "فليبتكنّ": فليقطعن أو فليشقنّ آذان الأنعام. وبيّـن القرآن الكريم أن هذا من عمل الشيطان...
كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأضحية التي قُطعت أذنها أو جزء منها، أو المشقوقة، أو المثقوبة، أو مقطوعة الذنب... كما ذهب الإسلام إلى ما هو أبعد من ذلك، فنهى عن قطع أي جزء من الحيوان قد يضرّ به في المستقبل، كأن يُطع ذيله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تقصوا نواصي الخيل ولا معارفها ولا أذنابها، فإن أذنابها مذابّها، ومعارفها دفاؤها، ونواصيها معقود فيها الخير) رواه أبو داود.
5) النهى عن التحريش بين البهائم، وعن التفريق بين الأم وفراخها:
التحريش هو الإغراء فيما بين الحيوانات وتحريض بعضها على البعض الآخر... وهو ممارسة ضاربة في التاريخ بين الشعوب المختلفة، ولا يزال عدد من شعوب العالم يمارسه إلى الآن، كالإسبان الذين يمارسون مصارعة الثيران، ويصدّرونها إلى أهالي البلاد التي كانوا يستعمرونها، ومصارعة الخيول، ومصارعة الديكة، ومصارعة الكباش، ومصارعة الكلاب... وهناك في إسبانيا (الأندلس سابقا) تؤسس الحظائر لثيران المصارعة، وتقام المهرجانات والمباريات لمصارعتها، وفي كل مرة لابد أن يثخن ثور أو أكثر بجراحه ويموت. وفي الفيليبين تقام حلبات مصارعة الديكة (التوباداي)، وتجري المصارعة في يوم محدد أسبوعيا، ويجري التحريش فيما بينها لتتصارع ويقتل أحدها الآخر، ويربح من يراهن على ديك بعينه.. !! ولقد نهى الإسلام عن التحريش بين الحيوانات، فعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا السلوك غير القويم.
كما وردت أحاديث نبوية شريفة في حفظ أعشاش الطيور بدون عبث، ونهت عن التفريق بين الأم وفراخها، ومنها: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فدخل رجل فأخرج بيض حمرة ( وهى صنف من الطيور أحمر اللون)، فجاءت الحمرة ترفّ على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أيكم فجع هذه؟)، فقال: أنا يا رسول الله، أخذت بيضها. وفي رواية الحاكم: أخــذت فرخها، فقال ً: (ردّه، ردّه، رحــمة لها). وفي رواية أبي داود: (.. ردّوا ولدها إليها).
وفي سنن أبي داود من حديث عامر قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل رجل عليه كساء، وفي يده شئ قد لفّ عليه طرف كسائه، فقال: يا رسول الله: إني لما رأيتك أقبلت فمررت بغيضة شجر، فسمعت فيها أصوات فراخ طائر، فأخذتهن فوضعتهن في كسائي، فجاءت أمهن فاستدارت على رأسي، فكشفت لها عنهن، فوقعن عليهن، فلففتها معهن، وهاهن فيه معي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أتعجبون لرحمة أم الفراخ فراخها؟ )، قالوا: نعم يا رسول الله، فقال: (فوالذي بعثني نبيا لله أرحم بعباده من أم هؤلاء الأفراخ بفراخها، ارجع بهن حتى تضعهن من حيث أخذتهن)، فرجع بهن وأمهن ترفرف عليهن...
6) الإحســان إلى الحيوان عند ذبحــه:
لدينا في الإسلام مجموعة من الآداب التي يجب أن يتأدّب بها المسلم عند ذبحه بهيمة أو طير، للضرورة، وذلك حتى لا تتألم الذبيحة، أو تشعر بالتعذيب، المادي أو المعنوي. فقد روى مسلم وأبو داود والترمذي عن شداد بن أوس قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شئ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته).... وإلى رحمة النبي بالحيوان عند ذبحه يشير حديث آخر رواه الطبراني والحاكم (في "المستدرك") عن ابن عباس رضي الله عنه قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل واضع رجله على صفحة شاة ( أي جانب وجهها)، وهو يحدّ شـفـرته، وهى تلحــظ إليه ببصرها، فقال: ( أفلا قبل هذا ؟! أوَتريد أن تميتها موتتين؟!)... وبهذا تأسى الصحابة الكرام، وتهذبت نفوسهم، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرى رجلا يسحب شاة برجلها ليذبحها، فقال له: قدها إلى الموت قودا جميلا..
وقد يسأل جاهل: أليس في الأمر بذبح الأضاحي والهدي في الشريعة الإسلامية تعدي على الطبيعة أو سبيل إلى انقراض أنواع معينة من الحيوان؟ والجواب عليه سهل ميسور، فالبشر منذ بدء الخليقة وهم يتغذون بالحيوان والنبات، ومع ذلك فهى تكاثر وتنام وتزايد، ما لم يكن القتل عشوائيا، وبلا هوادة ولا رحمة بالحيوان، فإن حصل ذلك فقد تنقرض أصناف أو سلالات معينة من الحيوان، أو على الأقل تتناقص تناقصا ينذر باختفائها من الطبيعة... ولكن لما كان الأمر من الله عز وجل، واتباعا لسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا شك أن هناك حكمة علمها من علمها، وجهلها من جهلها، ومن أعظم ذلك أن في إزهاق روح بعض الحيوان تقرّبا إلى الله، وفي بعضها دفعا لضررها، وهكذا تتضح الحكمة، وتزول الغشاوة... فلا مبرر، إذن، لما يتشدق به أدعياء الرفق بالحيوان أو أنصار صون الطبيعة، الذين يتهمون المسلمين أنهم بتشريع ذبح الأضاحي والهدي يساهمون في انقراض أصناف من الحيوان، وهذا محض افتراء، فلماذا لم تنقرض هذه الأصناف والأنواع من الحيوان بالرغم من مرور أكثر من 1400 سنة على نزول الشريعة الإسلامية...؟!!
نعود إلى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرحمة بالحيوان عند ذبحه، فقد روى الطبراني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من رحم ولو ذبيحة عصفور، رحمه الله يوم القيامة). وعن معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال رجل: يا رسول الله: إني لأذبح الشاة فأرحمها، فردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والشاة إن رحمتها، رحمك الله)...
وقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحمته بالذبيحة إلى أبعد حدّ من الإسراع بالذبح واستعمال سكين حادّة، فقد أمر بعدم رؤية حيوان لحيوان آخر يجري ذبحه، فروى عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحدّ الشفار (أي آلة الذبح) وأن نواري عن البهائم... وقال صلى الله عليه وسلم: ( إذا ذبح أحدكم فليجهز) رواه ابن ماجه.
7) حـقوق أخـرى متنوعة:
ومن حقوق الحيوان في لشريعة الإسلامية، أيضا، حقه في الوقاية من المرض وعلاجه، وحمايته من الأمراض المعدية، وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يوردنّ ممرض على مصحّ)، والممرض هو الحيوان المريض الذي يعدي جاره من الحيوانات الأخرى بمخالطتها... ومن حقوقه، أيضا، توفير بيئة نظيفة لمعيشته، فقد نهى الإسلام عن تلويث الماء والنبات والهواء والتربة، حتى لا تفسد صحة الحيوان... ومن حقوقه، أيضا، الاستفادة منه بأفضل أسلوب، لقول الله تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ{3} خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ{4} وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ{5} وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ{6} وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ{7} وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ{8} وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ{9}[سورة النحل]، وقوله تعــالى: (وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ{80}[سورة النحل]... ومن حقوقه، أيضا، دراسته علميا، لقول الله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{45}[سورة النور]، وقوله تعالى: (ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ{69})[سورة النحل]، وذلك للتفكير في خلقه وسلوكه ومنافعه...
وهناك حقوق معنوية للحيوان في الشريعة الإسلامية، فقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى ناقة لزوجة أبي ذر الغفاري لكي تنقلها من مكة إلى المدينة، فحلفت لتذبحنّها لله إذا ما أوصلتها آمنة إلى المدينة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا قلت؟! أهذا حقّ وفائها؟!)، أي أبَعد صُحبتها لك يكون جزاء الناقة هو الذبح؟! كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذبح الشاة الحلوب، لما فيه من إعدام الانتفاع بلبنها بلا ضرورة، مادام غيرها يُغني عنها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( إياك والحلوب)، وفي لفظ آخر: (إياك وذات الدر).
• الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين في رعاية الحيوان:
اقتدى الصحابة والتابعين والبعض ممن تلاهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فاهتموا بالحيوان اهتماما ملحوظا، رحمة ورفقا ورعاية وعناية، والآثار الواردة في هذا الموضوع كثيرة، نذكر منها:
يقول مالك: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مـرّ بحمار عليه لبن (أي طوب من الطين)، فوضع عنه طوبتين، فأتت مالكته لعمر فقالت: يا عمر: مالك وحماري؟ ألك عليه سلطان؟ فقال عمر: فما يقعدني (أي يمنعني) في هذا الموضع ( أي الوقف أو الحالة)؟! وعقّب ابن رشد على قول عمر، فقال: المعنى في هذا واضح، لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: ( كلكم راع وكلكم مســئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته... ). وقد قال عمر رضي الله عنه - في مثل هذا -: لو مات جمل بشاطئ الفرات ضياعا لخشيت أن يسألني الله عنه. وفي طبقات ابن سعد عن المسيب بن دايم، قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب حمّالا، وقال: لم تُحمّل بعيرك مالا يطيق ؟!
وعن وهب بن كيسان أن عبدالله بن عمر رضي الله عنه رأى راعى غنم في مكان قبيح، وقد رأى ابن عمر مكانا أمثل منه، فقال ابن عمر: ويحك يا راعى الغنم!! حوّلها، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( كل راع مسئول عن رعيته...). وعن عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلا حدّ شفرة وأخذ شاة ليذبحها، فضربه عمر رضي الله عنه بالدرّة، وقال: أتعذب الروح ؟! ألا فعلت هذا قبل أن تأخذها ؟
وفي فضائل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ( وهو من خلفاء الدولة الأموية، ومن كثرة صلاحه وانتشار عدله سمّاه المؤرخون: "خامس الخلفاء الراشدين"، وهو حفيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ) لابن عبد الحكم أن عمر كتب إلى صاحب السكك (أي رئيس، أو مدير، إدارة المرور والسير) ألاّ يسمحوا لأحد بإلجام دابته بلجام ثقيل، ولا بنخسها بمقرعة في أسفلها حديدة... وكتب، أيضا، إلى عامله (مندوبه أو واليه) بمصر: بلغني أن بمصر إبلا نقّالات يُحمل على البعير منها ألف رطل، فإذا أتاك كتابي هذا، فلا أعرفن أنه يُحمل على البعير أكثر من ستمائة رطل... وأمر المحتسب (الشرطي) أن يمنع تحميل الدواب فوق ما تطيق، أو تعذيبها وضربها أثناء السير، ولديه الصلاحية لتأديب ومعاقبة من يراه يفعل ذلك.... وعن أبي عثمان الثقفي قال: كان لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه غلام يعمل على بغل له يأتيه بدرهم كل يوم، فجاء يوما بدرهم ونصف، فقال: أما بدا لك ؟ قال: نفقت السوق، قال: لا، ولكنك أتعبت البغل ! أجمه (أي أرحه) ثلاثة أيام...
وروى معاوية بن قرة أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال لجمله "دمون" عندما حضرته الوفاة، يا دمون: لا تخاصمني عند ربي، فإني لم أكن أحمل عليك إلاّ ما تطيق...
وقد بلغ الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله - أن رجلاً وراء النهر يروي أحاديث ثلاثة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرحل إليه، ولما ورد عليه وجده يطعم كلباً، فسلم عليه، فردّ الرجل السلام، ثم اشتغل بإطعام الكلب، ولم يلتفت إليه، حتى انتهى، فقال: لعلك وجدت في نفسك إذ أقبلتُ على الكلب ولم أقبل عليك، قال الإمام أحمد: نعم، فقال الرجل: حدثني أبو الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قطع رجاء من ارتجاه قطع الله رجاءه يوم القيامة، فلم يلج الجنة ). ثم قال الرجل: وأرضنا هذه ليس فيها كلاب، وقد قصدني هذا فخفت أن أقطــع رجاءه، فقال الإمام أحمد: يكفيني هذا الحديث...
• جولة مع الأحــكام الفقهية المتعلقة بالحــيوان:
شغل الحيوان في الفقه الإسلامي أبوابا غير قليلة، ومنها: "باب الطهارة"، فتحدث الفقهاء عن: سؤر ما يؤكل لحمه، سؤر البغل والحمار وجوارح الطير، سؤر الهرة، سؤر الكلب والخنزير... ومنها: "باب النجاسة"، فتحدث الفقهاء في: الميتة، الدم، لحم الخنزير، بول وروث مالا يؤكل لحمه، الجلاّلة، الكلب، تطهير جلد الميتة... ومنها: "باب الزكاة"، فتحدث الفقهاء في: زكاة الحيوان، وأفردوا لكل صنف من أصناف الحيوان بابا، وحددوا نصاب كل نوع منها، سواء في ذلك الأنعام أم غيرها. وقد تضمنت كتب الفقه الإسلامي: زكاة الإبل، زكاة البقر، زكاة الغنم، زكاة غير الأنعام... ومنها: "باب الهَدي"، ويتناولون فيه: الأفضل في الهدي، ما يجزئ في الهدي، متى تجب البدنة، شروط الهدي، مكان الذبح، استحباب نحر الإبل وذبح غيرها،... ومنها: "باب الحدود"، فتحدث الفقهاء في: إتيان البهيمة،... ومنها: "باب الجنايات"، فتحدث الفقهاء في: ضمان (أي مسئولية) صاحب الدابة، ضمان القائد والراكب والسائق، الدابة الموقوفة، ضمان ما أتلفته المواشي، ضمان ما أتلفته الطيور، ضمان ما أصابه الكلب أو الهرّ،...ومنها: "باب الإجارة"، فتحدث الفقهاء في: استئجار الدواب،...ومنها: "باب الأطعمة"، فتحدث الفقهاء في: الحلال من الحيوان البحري، الحلال من الحيوان البري، ما نصّ الشارع على حرمته، والمسكوت عنه، إباحة كل ما حُرّم عند الاضطرار، الزكاة الشرعية (الذبح أو النحر)، وما يجب فيها، ذبائح أهل الكتاب،... ومنها: "باب الصيد"، فتحدث الفقهاء في: الصيد الحرام، شروط الصائد، شروط الصيد بالجوارح، شروط الصيد بالسلاح، إدراك الصيد حيّـا،... ومنها: "باب الأضحية"، فتحدث الفقهاء في: حكمة الأضحية، ما لا يجوز أن يُضحّى به، وقت الذبح، توزيع لحم الأضحية، ما يُجزئ عن أهل البيت الواحد،... ومنها: "باب المسابقة"، فتحدث الفقهاء في: حرمة إيذاء الحيوان، والتحريش بين البهائم،،... ومنها: "باب العقيقة"، "باب النفقة"، وغيرها من الأبواب المتعلقة بالحيوان...
وذهب الفقهاء المسلمين في الرفق بالحيوان ورعايته إلى درجة لا ولن تستطيع منظمات حقوق الحيوان، أو جمعيات الرفق بالحيوان، أن تبلغه... فقد وضعوا الأحكام – المستنبطة من القرآن والسنّة – وقرروا القواعد، وفـرّعوا المسائل الدقيقة بما يفوق العدّ ويزيد على الحصر، ويذهل فقهاء القانون المدني في العصر الحديث...
وفي كتابه " السنّة مصدرا للمعرفة والحضارة"، يوضح العلامة الدكتور/ يوسف عبدالله القرضاوي أن الفقهاء المسلمين فصّلوا ما يجب على مالك الدابة من النفقة والرعاية، في كتاب "النفقات" – وهو من كتب الفقه – كما فصّلوا ما يجب على الإنسان نحو الكلاب والطير ونحوها، تفصيلا لم يخطر ببال أحد من البشر في تلك الأعصار، وهو تفصيل لم تدفع إليه المنفعة المادية أو المصلحة الاجتماعية فحسب، بل الدافع إليه – فوق ذلك كله – دافع أخلاقي محض، هو رفع الظلم والأذى والضرر عن كل كائن حي ذي كبد رطبة، يحس ويشعر ويتألم، وإن لم يكن له لسان يتكلم به ويشكو...
ومن هذا التفصيل، نراهم يحددون متى يجوز ضرب الدابة؟ وأين تُضرب؟ وبم تُضرب؟ وكيف تُضرب؟ فنراهم يقولون: تُضرب الدابة على النفار (أي عندما تنفر) ولا تُضرب على العثار (أي التعثر)، لأن العثار لابد لها فيه، بخلاف النفار والحرونة... ويقولون: لا تُضرب في الوجه، ولا تُضرب بحديدة، ولا تُضرب بمقرعة في أسفلها حديدة...
وينقل الدكتور القرضاوي عن صاحب كتاب "شرح غاية المنتهى" قوله: وعلى مالك البهيمة إطعامها ولو عطبت (أي لم يُرج منها نفع)، وعليه سقيها، حتى تنتهي إلى أول شبع وأول ري، دون غايتهما، لحديث ابن عمر رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عُذبت امرأة في هرّة، حبستها حتى ماتت جوعا... الحديث)، فإن عجز عن نفقتها أجبر على بيع أو إجارة، أو ذبح مأكول (إزالة لضررها وظلما)، ولأنها تتلف إذا تُركت بلا نفقة، وإضاعة المال منهى عنه. فإن أبى فعل شئ من ذلك فعل الحاكم الأصلح من الثلاثة، أو اقتراض عليه، وأنفق عليه، كما لو امتنع من أداء الدّين...
ويحرم لعن البهيمة، لما رُوى عن عمر رضي الله عنه أنه كان في سفر، فلعنت امرأة ناقة، فقال: خذوا ما عليها ودعوها، فإنها ملعونة، فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد. ومن حديث أبي برزة: لا تصحبنا ناقة عليها لعنة الله. ولمسلم (في صحيحه) من حديث ابن الدرداء أنه ( أي عمر بن الخطاب) قال: لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة...
ويحرم تحميلها – أي البهيمة- ما يشق عليها، لأنه تعذيب لها... ويحرم حلبها ما يضر (أي إذا كان ذلك) ولدها، لأن لبنها مخلوق له، أشبه ولد الأمة، ويُسنّ للحلاّب أن يقصّ أظفاره لئلا يجرح الضرع (ثدي البهيمة)... ويُكره جزّ معرفة وناصية وجزّ ذنب، وتعليق جرس، أو وتر، ويُكره له إطعامه فوق طاقته وإكراهه على الأكل، على ما اتخذه الناس عادة لأجل التسمين...
ولفقهاء المسلمين كلام مفصّل في أحكام حبس الحيوان، ومن ذلك:.. ويجب على مقتني الكلب المباح أن يطعمه ويسقيه، أو يرسله (أي يطلق سراحه)، لأن عدم ذلك تعذيب له، ولا يحلّ حبس شئ من البهائم لتهلك جوعا أو عطشا، لأنه تعذيب...وقد تحدث العلامة المغربي المالكي الشيخ أبو علي بن رحال في حبس الطير بالتفصيل، وذلك في كتابه "التراتيب الإدارية".
وورد في كتاب "التحرير" للعلامة الحلي (أحد علماء الإمامية الشيعية بالقرن السابع الهجري) قوله: يجب النفقة للبهائم المملوكة، سواء أكانت مأكولة اللحم أم لا، فإن امتنع صاحبها أجبره الحاكم على بيعها، ولو كان لها ولد ولم يفضُل عنه من لبنها لم يجز أخذ شئ من لبنها، ولو أجدبت الأرض وجب علف البهائم، ولو امتنع مالكها أجبر على بيعها... لو أخذ أحد طعام إنسان في بريّـة أو مكان لا يقدر فيه على طعام أو شراب، فهلكت دابته، ضَمِن (أي تحمّل مسئوليته)، ولو اقتنى أحد سنورا (أي قطة) فأكل فراخ الناس، ضَمِن ما يتلفه..
وقال الإمام الشافعي – رحمه الله - في كتابه " الأم" (باب: كِراء الإبل والدواب): ينبغي للسلطان (الحاكم) أن يوكّل رجلا من أهل الرفقة بأن يعلف الدابة، ويحسب ذلك على ربّ الدابة والإبل، وإن ضاق ذلك فلم يوجد أحد غير الراكب، يؤمر الراكب بالعلف ويستوفي قيمته من صاحبها.
وقال الإمام أبو حنيفة – رحمه الله: لو ضرب الراعي شاة ففقأ عينها أو كسر رجلها ضَمِن، وعند أبي يوسف ومحمد: لو ساق الأجير المشترك الأغنام بأن صعد الجبل أو مكانا مرتفعا فتردى منها، فعطب، يضمن (أي يكون مسئولا) لإمكان التحرّز(أي لأنه كان من واجبه الاحتياط لذلك)، وهكذا لو ساقها فعطبت منها شاة بسياقه، بأن استعجل عليها فعثرت فانكسرت رجلها أو اندق عنفها، فعليه الضمان، بالاتفاق. وكذا الحُكم في (البقّـار – أي سائق البقر) لو ساق البقر فتناطحت فقتل بعضها بعضا، أو وطئ بعضها بعضا في سَوقه، أو استعجلها في السَوق فنفرت بقرة منها فكُسرت رجلها، أو ساقها في الماء لتشرب فغرقت، ضَمِن (أي تحمّل المسئولية)... ومن اكترى (أي استأجر) حمارا بسرج، فنزع عنه السرج وأسرجه بسرج زائد في الوزن، فحينئذ يضمن (أي يكون مسئولا)، عند أبي حنيفة، وكذا إذا كبح الدابة بلجامها أو ضربها فعطبت، ضمن عنده، أيضا... ولو فقأ عينى الطير أو الكلب أو السنور يضمن لما انتقص من قيمته، كالشاة والجمل، وعن أبي يوسف: يضمن النقصان في جميع البهائم...
ومما ورد في باب "الضمان" (أي تحمّل المسئولية المادية والمعنوية) أن البعير السكران إذا قصد إنسانا فقتله المصول عليه دفعا لشرّه يضمن قيمته (أي ثمنه). وكذا الحُكم في نتف ريش الطائر، فيُغرّم بقدرما نقص منه، ويفديه (إذا كان مُحرما في الحج) إذا مات الطائر من نتف الريش، أو يصير طيرانه ممتنعا...
وفي كتاب "الأحكام السلطانية" لأبي يعلي الحنبلي: يُمنع من خصاء البهائم ويُؤدّب عليه. وقال الإمام أحمد بن حنبل في رواية حرب، وقد سُئل عن خصاء الدواب والغنم للمسنّ وغيره، فكرهه، إلاّ أن يخاف عضاضه.
ويعرض الدكتور/ مصطفى السباعي في كتابه " من روائع حضارتنا" طرفا مما قرره الفقهاء المسلمون في أحكام الرحمة بالحيوان، ما لا يخطر ببال، ومنها: وجوب النفقة على مالك الحيوان، فإن امتنع أُجبر على بيعه، أو الإنفاق عليه، أو تسييبه إلى مكان يجد فيه رزقه ومأمنه. وأنه إذا لجأت هرّة عمياء إلى بيت شخص وجبت نفقتها عليه حيث لم تقدر على الانصراف... ورتّب الفقهاء نتائج حقوقية في حق من يستأجر حيوانا للحمل أو الركوب، فحمّله أكثر مما يستطيع، وألزموه بضمان ثمنه لمالكه إذا نفق (أي مات)... ولم يعاقبوا الحيوان بما جنى على غيره، وإنما عاقبوا صاحبه إذا فرّط في حفظه وربطه (أنظر ما سوف نسوقه بهذا الخصوص عند الأمم والشعوب الأخرى بعد قليل)... ومنعوا أن يؤجّر حيوان لشخص عُرف بقسوته على الحيوان، خشية أن يجور بقسوته وغلظته على هذا المخلوق...
وفي كتاب " الحسبة في الإسلام " للقرشي، وغيره، أحكام عديدة لحماية الحيوان ورعاية الدواب، بإطعامها وتطبيبها وإراحتها والشفقة عليها. ويقولون – مثلا: إذا قدم البيطار (الطبيب البيطري) إلى معالجة الدواب بغير خبرة فيسبب هلاك الدابة أو عطبها، يلزمه ما نقص من قيمتها من طريق الشرع (أي كما نصّت عليه الشريعة الإسلامية)، ويعزّره (أي ينهره أو يعنّفه أو يغرّمه) المحتسب (أي الشرطي المختص) من طريق السياسة...
وحضّ الإسلام على توفير المرعى للحيوان، فقد ورد في مسند الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر، وما أكلت العوافي – وهو كل من طلب رزقا من إنسان وحيوان وطائر – منها فهو له صدقة).
وعند الحنفية، وغيرهم من فقهاء المسلمين، النهي عن أكل الحيوانات الجلاّلة، وهى التي تأكل الروث والغائط اليابس، لأنه يتسرّب إلى لحومها فيفسدها... وذهبوا إلى حبسها – ثلاثة أيام على الأقل – تُعطى فيه عَلَفا طاهرا ليستقيم به لحمها وتُؤكل بعده...
• نماذج من التطبيق العملي للتعاليم الإسلامية:
هناك العديد من الفضائل والأخلاق الحميدة التي كانت موجودة لدى العرب في الجاهلية، فلما جاء الإسلام أقرّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وشجّع عليها، ومن ذلك حماية الحيوان، وقد وردت في كتاب " ثمار القلوب في المضاف والمنسوب" آثار عديدة في الموضوع، نذكر منها ثور بن شحمة الذي كان من أشراف العرب في الجاهلية، وكان يُسمى "مجير الطير"، وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه الفضيلة، فزجر عن إيذاء الجار، فقال: ( إن أنت رميت كلب جارك فقد آذيته)...
وكانت مكة المكرّمة أول محمية طبيعية، ففي صحيح البخاري أن هذا البلد حرّمه الله، لا يُعضد شوكه، ولا يُنفر صيده، ولا تُلتقط لقطته إلاّ لمن عرفها، فكانت أنموذجا للعناية بالبيئة الحيوانية على مستوى العالم، بينما لم تُعرف المحميات الطبيعية في الغرب إلاّ في عام 1864م، حين أعلنت الحكومة الأمريكية (وادي يوسميتي) محمية طبيعية.
وقد خصّ الإسلام الحيوانات ب "الحمى"، أي المحميات، لرعاية خيول المسلمين وماشيتهم، والعناية بها. ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم قواعد حمى الأراضي، وسار عليها الخلفاء الراشدين من بعده، وهو (أرض الموات)، التي يمنع تملكها لتبقى الإباحة في إنبات الكلأ ورعي المواشي به. ولم يسمح بإقطاع ما كان تابعا لبعض القرى كالمراعي والمُحتطب ( تنمية النباتات التي تُتخذ حطبا للوقود فيما بعد)، واعتبارها حقا لأهل القرية.
ويذكر الدكتور/ مصطفى السباعي في كتابه " من روائع حضارتنا" أن المسلمين أوقفوا أوقافا لتطبيب الحيوانات المريضة، وأوقافا لرعي الحيوانات المسنّة، ومنها على سبيل المثال (أرض المرج الأخضر) في دمشق حاليا، لترعى فيها الخيول العاجزة التي يأبى أصحابها الإنفاق عليها لعدم الانتفاع بها، فترعى في هذه الأرض حتى تموت...
وحتى الحيوانات الضالة، كانت تحظى برعاية المسلمين، كوقف الأمير عبدالرحمن كتخدا (وكان أحد أعظم أمراء الدولة العثمانية بمصر) على القطط، فقد فرض مبلغ (3600) نصف فضة (وكانت العملة النقدية المستعملة في ذلك الزمان) في السنة، بواقع (300) نصف فضة في كل شهر، لشراء اللحم وتوزيعه على القطط بعد عصر كل يوم، كما أمر بصرف مبلغ (720) نصف فضة للقائم على شراء اللحم وتوزيعه... وفي كتاب " وقفة المؤرخ" ورد أن الشيخ محمد أبو الأنوار السادات ( 1209هـ/1794م) كان ينفق (30) نصف فضة يوميا على شراء الخبز الذي تأكله الكلاب خارج زاويته التي بناها بسفح جبل المقطم بمصر...
• معــاملة غير المسلمين للحــيوان:
هكذا أوضحنا جوانب في رعاية الإسلام للحيوان، نظريا وعمليا، قواعد وتطبيقات، منذ ظهر هذا الدين العظيم في القرن السابع الميلادي، وعلى امتداد قرون الخلفاء والتابعين ومن جاء بعدهم، وعلى امتداد رقعة الدولة الإسلامية... فماذا عن سلوك غير المسلمين في العالم؟
أشرنا في بدء حديثنا إلى أن الإسلام هو دين الوسطية في كل جوانب الحياة، حتى في العبادات التي قنّنها بما يسمح للمسلم أن يؤدي هذه العبادات، وفي نفس الوقت يمارس أنشطة حياته دون توقف. وأشرنا إلى رفع مكانة الحيوان حتى قدّسه الهندوس وغيرهم شرقا، وإهانته عند أهل الغرب الذين يفتكون بالحيوان دونما شفقة أو رحمة حقيقية، والرحمة والشفقة التي يتظاهر بها هؤلاء إنما هى ظاهرية متناقضة... وفيما يلي ما يوضح هذا وذاك.
إن المطالع لتراث الأمم المختلفة لا يجد فيه ما يدعو إلى الرفق بالحيوان أو وجوب الرحمة به، ولا يجد حقوقا للحيوان على صاحبه، من نفقة أو رعاية... والأغرب من ذلك أن الحيوان كان يعامل معاملة الإنسان العاقل، فكان يُحاكم كما يُحاكم الإنسان، ويُحكم عليه بالقتل أو بالسجن أو بالنفي والتشريد، كما يُحكم على الإنسان الجاني تماما...
ولمعرفة طرف من هذا عند قدمــاء اليونان، ذكر أفلاطون في كتابه "القانون" أنه إذا قتل حيوان إنسانا كان لأسرة القتيل الحق في إقامة دعوى على الحيوان أمام القضاء، ويختار أولياء الدم القضاة من المزارعين، وفي حال ثبوت الجريمة على الحيوان يجب قتله قصاصا، وإلقاء جثته خارج البلاد... ويعتبر الحيوان مسئولا كذلك في الجنايات التي دون القتل، فإذا عضّ كلب إنسانا وجب على صاحب الكلب أن يسلّم كلبه إلى المجني عليه مكمّما ومقيدا، يثأر لنفسه منه كما يشاء بالقتل، أو بالتعذيب، أو بغيرهما... هذا، وقد أقام قدماء اليونان محكمة البريتانيون لمحاكمة الحيوانات... وذكر أفلاطون في "القانون"، أيضا:... وإذا سقط جماد على إنسان فقتله، سواء أكان سقوطه ناشئا عن عامل طبيعي أو عن عمل إنسان، اختار أقرب الناس إلى القتيل قاضيا من جيرانه ليحكم على الجماد أن ينبذ خارج الحدود. ويستثنى من ذلك الأشياء التي تقذف بها السماء كالنيازك والصواعق وما إليها؛ فإذا تسببت هذه الأشياء التي تقذف في قتل الإنسان لا يترتب على عملها أي إجراء قضائي.
وأما قدمــاء الرومان، فكانت شرائعهم تنصّ في بعض موادها على عقوبة الإعدام على الثور وصاحبه إذا تجاوز الثور أثناء الحرث والحقل المجاور له، كما وأن الكلب الذي يعضّ إنسانا يُعاقب بوجوب التخلي عنه للمعضوض، كي يتصرّف فيه كما يشاء... وقد أقرت شريعة الألواح الإثنى عشر (وهي أساس تشريع الرومان في عصورهم التاريخية) مسئولية الحيوان في حالتين: إحداهما: إذا تسبب في إتلاف أو ضرر؛ والثانية: إذا رعى عشبا غير مملوك لصاحبه!!. فقد أوجبت في هاتين الحالتين على المالك أن يسلم حيوانه إلى المجني عليه، أو يدفع الغُرم المقرر إن آثر الاحتفاظ بحيوانه...
وعند قدمــاء الفرس، تنصّ الزرادشتية على أن الكلب إذا عضّ إنسانا فجرحه أو عضّ خروفا فقتله، يُعاقب بقطع أذنه اليمنى، فإن تكرر ذلك منه قُطعت أذنه اليسرى، وفي المرة الثالثة تُقطع رجله اليُمنى، وفي المرة الرابعة تقطع رجله اليسرى، وفي المرة الخامسة يُقطع ذنبه، وفي المرة السادسة تُطبّق عليه عُقوبة الإعدام...
وعند اليــهود، تضمّنت الشرائع أنه إذا نطح ثور رجلا أو امرأة فتسبب في وفاته، وجب رجم الثور، وحُرم أكل لحمه... وفي سفر الخروج (الإصحاح 21) ورد ما يلي: (28) وإذا نطح ثور رجلا أو امرأة فمات، يُرجم الثور ولا يُؤكل لحمه، وأما صاحب الثور فيكون بريئا (29) ولكن إن كان ثورا نطاحا من قبل، وقد أُشهد على صاحبه ولم يضبطه، فقتل رجلا أو امرأة، فالثور يُرجم وصاحبه أيضا يُقتل...!!
وعند الأوروبيين في العصور الوسطى غرائب وطرائف في محاكمات الحيوان، ومعاقبته بنفس الطرق القانونية التي يُحاكم بها الإسلام العاقل، وقد أخذت بنفس المبدأ كل من ألمانيا وإيطاليا وهولندا والسويد وبلجيكا... وكانت فرنسا هى أول دولة أوروبية (نصرانية) تأخذ بمبدأ مسئولية الحيوان في القرون الوسطى (القرن الثالث عشر الميلادي) ومحاسبته في محاكم منظمة، ثم تلتها سردينا وبلجيكا (في القرن الخامس عشر9 ثم هولندا وألمانيا وإيطاليا (في منتصف القرن السادس عشر)، واستمر العمل بهذا عند بعض الشعوب الأوروبية حتى القرن التاسع عشر...
وكان الناس في أوروبا خلال القرون الوسطى يعتقدون في أن الحيوانات مخلوقات عاقلة، لا تختلف عن البشر إلا من حيث عدم قدرتها على الكلام. وعلى هذا الأساس كان من غير المستهجن - في الماضي - محاكمة الحيوانات بصفتها مخلوقات مسئولة ومدركة مثل الإنسان..!! فبين عامي 1120- 1740م - مثلاً - حصلت أربع وعشرون محاكمة من هذا النوع في بلجيكا واثنتان وتسعون محاكمة في فرنسا، وتسع وأربعون في ألمانيا... وفي عام 1457م اختلف الفرنسيون، حكومة وشعباً، حول شرعية إعدام خنزيرة اقتيدت مع أبنائها إلى مقصلة في مدينة ليون بتهمة قتل طفل صغير. وفي عام 1499م ألغت محكمة هامبورج دعوى قضائية ضد إحدى الدببة لعدم وجود محلفين من نفس الفصيلة - كما طالب بذلك محامي المتهم...!!
ومن أطرف المحاكمات الشهيرة للحيوانات هناك: محاكمة الفئران في بلدة أوتون (بفرنسا) في القرن الخامس عشر الميلادي، فقد اتهمت الفئران في هذه القرية بالتجمهر في الشوارع بشكل مزعج مقلق للراحة، وتقدم للدفاع عنها محام فرنسي يُدعى (شاسانيه)، وطالب المحكمة بالتأجيل لأن الفئران لم تتمكن من الحضور، حيث فيها المريض والرضيع والعجوز، وهى تستعد للمثول أمام هيئة المحكمة الموقرة إذا مُنحت فرصة التأجيل، فوفقت المحكمة. ولما حان الموعد الجديد لم تحضر الفئران، فقال محامي الدفاع للمحكمة: إن الفئران تريد الحضور للمحكمة ولكنها يا حضرات القضاة تخاف من وقوع الأذى عليها من القطط إن هى جاءت إلى هنا، فردّ رئيس المحكمة قائلا: إن من واجبنا تأمين حياة المتهمين،، فطلب المحامي أن تأمر المحكمة بحبس قطط البلدة كلها قبل مرور موكب الفئران في الشوارع لتكون مطمئنة على حياتها، فوافقت المحمكة على هذا... ولكن أهل القرية رفضوا تنفيذ ذلك، مما حدا بالمحكمة أن تحكم للفئران بالبراءة، لأنها حُرمت وسائل الدفاع المشروعة...!!
ومن المحاكمات الطريفة في القرون الوسطى، محاكمة الديك الذي باض، وقد جرت هذه المحاكمة في مدينة بال (بسويسرا) في عام 1474م، حيث يُعتبر ذلك جريمة، إذ كان من المعروف عندهم أن السحرة يبحثون عن "بيضة الديك" ليستخدموها في سحرهم، وقُدّم الديك للمحاكمة، ودافع محاميه عنه بحجة أنه لا يكون مسئولا عن واقعة لا حيلة له فيها، ولكن المحكمة رفضت ذلك وأصدرت حُكمها بإعدام الديك، وعللت ذلك بقولها: ليكون في ذلك عبرة لغيره من الديكة...!!
وكانت المحاكم المدنية في أوروبا تنظر في قضايا الحيوانات الأليفة، في حين تحاكم الكنيسة الحيوانية البرية، أو الشاردة، خوفاً من حلول الشيطان فيها... !! ففي عام 1519م - مثلاً -أحرقت كنيسة بال ديكا أحمرَ في احتفال مهيب بدعوى أن الشيطان حلّ في جسده وجعله يضع "بيضة" (ورفعت بذلك تقريراً إلى الفاتيكان)... وفي فيينا (بسويسرا) تمت محاكمة عجل أبيض في عام 1763م بتهمة أنه وُلد وعلى جبهته هلال اسود - وكانت النمساويين حساسية شديدة من الهلال لأنه كان شعار الجيوش التركية المسلمة التي حاصرت فيينا وكادت تدخلها...!!
وأما الشعوب الغربية في العصر الحالي، الأوروبية والأمريكية، فالحديث عن استنزافها للثروة الحيوانية يطول، ولعلّ في المعلومات التالية ما يكفي للوقوف على معاملتها لهذه الكائنات الحية، من قسوة وعنف وقتل وإبادة، في الوقت الذي يتشدقون فيه بأنهم أصحاب منظمات حقوق الحيوان، وهيئات رعايته أو الدفاع عنه...!!
من المعروف بيولوجيا أن هناك ميزان طبيعي، أو ناموس إلهي، وضعه الله تعالى في الطبيعة، فإذا افترست حيوانات حيوانات أخرى فلن يؤدي هذا إلى انقراض أنواع الحيوانات التي تتعرّض للافتراس، ولكن أمم الغرب هى التي تفترس، والإحصاءات الصادرة عن المنظمات الدولية توضح هذا، وتبين أن هناك أنواع مهددة بالانقراض نتيجة الجور والإفراط في اصطياد الحيوانات... ففي تقرير للأمم المتحدة عن البيئة خلال عام 2000م وما بعدها، فإن الكثير من الأنواع الحية على الأرض اختفت أو في طريقها إلى الزوال، ويهدد الفناء ربع اللبائن (الحيوانات الثديية) على الكرة الأرضية، كما استغلت الثروة السمكية بشكل جائر بسبب التلوث، وكذلك تتهدد الشعاب المرجانية أخطار محدقة...
وفي عام 1886م صدر قانون عن الحكومة الأميركية يقضي بقتل الطيور الجارحة (الصقور والبُوم) التي تفتك بصغارِ دجاج الفلاحين، وخلال عام ونصف العام قُضي على (125) ألف طائر جارح، فزاد عدد الفئران (التي تُعدّ طعاما لهذه الطيور) وأضرّت بالمحاصيل الزراعية ضرراً يفوق ما لحق بصغار الدجاج•
كما أن المواطن الأميركي - ولغرض الصيد فقط يوشك أن يستنزف الجاموس الأميركي (وهو أساس الثروة الحيوانية للهنود الحمر)... ويدمّر المواطن الأمريكي ( 100 ) ضعف ما يدمره المواطن الهندي من موارده الطبيعية... وفي كاليفورنيا أدى الإفراط في اصطياد ثعالب البحر طمعا في فرائها - إلى تكاثر القنافذ البحرية (التي كانت تتغذى عليها الثعالب)، ومن ثم دمرت القنافذ الشعاب المرجانية والغابات العشبية وما يعيش عليها من أحياء...!! ولقد أجهضت الولايات المتحدة مؤتمر قمة الأرض في "ريو دى جينيرو" بموقفها المتشدد ضد الحفاظ على التنوع البيولوجي وذلك حفاظاً على مصالح شركاتها التكنولوجية وعمالقة صناعاتها الدوائية•
وصناع الأعلاف في الحضارة الغربية، وبسبب ارتفاع أثمان البروتين المضاف إلى تسمين الماشية، تحولوا لمصادر أقل كلفة ( وهى الأغنام المريضة المستبعدة والمخلفات الحيوانية من المجازر وغيرها)، ولتوافر نفقات الطاقة أيضاً عالجوا هذه الأعلاف المستجدة بأنظمة حرارية منخفضة على مدار عشر سنوات (1975 1985م) إلى أن ظهرت أول حالة من مرض جنون البقرBovine Spongiform Encephalopathy عند الإنسان في عام 1985م، ودلت الدراسات على أن مرض جنون البقر(BSE) مشابه تماماً لمرض يصيب الأغنام، وهو مرض سكرابى (Scrapie)، فكان بعد تحدي سُنن الله تعالى بإطعام الماشية باللحوم أن خسرت بريطانيا ما يقرب من أربعة مليارات جنيه إسترليني كانت تعتمد عليها في صناعة "البيف البريطاني" والذي كلفته عشرين بليون إسترليني للتخلص من أحد عشر مليون بقرة وتعويض المزارعين والعمال العاملين في صناعة الماشية، لذا أصدرت بريطانيا في يوليو من عام 1988م قانوناً يعلق استخدام الأعلاف المحتوية لبروتين من مصدر حيواني، مما قلل من ظهور إصابات جديدة •..!!
وتلقي السلطات في أميركا بنحو 500 طن من الزئبق في كل عام، لتذهب للأسماك ولحومها... ويقدر ما يُلقى سنوياً في البحار والمحيطات بنحو 250 ألف طن من الرصاص الذي لا يقل سمية عن الزئبق، وبنحو 1000 طن من الكادميوم، الذي يصيب نخاع العظام مسبباً فقر الدم... كما أُعلن بسويسرا في عام 1989م أن جزءاً من أعالي نهر الراين قد اختفت فيه صور الأحياء بنسبة 90%، وذلك بسبب تلوث المياه بالسموم، وخصوصا المبيدات الحشرية...
كما أن الطاعون الأسود Black plaque، الذي حصد نحواً من ربع إلى ثلث سكان أوروبا بدءاً من عام 1346م، كان بسبب إبادة السكان ومجازرهم المعنوية والمادية للقطط التي يعتقدون في أنها لم تذكر أبدا في الإنجيل، وأنها رمز للشيطان والشر والسحر والهرطقة (المتبادلة بين الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية)، وهي أيضا قادمة من الشرق، والكنيسة - كما هو معروف - تكره كل ما يأتي من الشرق•••إلخ، فكان في فرنسا – على سبيل المثال - عند إعدام مجرمة ما تحرق معها 14 قطة !!، ومن ثم اختل التوازن الطبيعي، فتزايدت الفئران زيادة رهيبة، حاملة البراغيث التي تنقل هذا المرض الفتاك إلى البشر...!!
وفي هذا الكفاية لمعرفة أيّـنا يحمي الحيوان ويرعاه، ويهتم به وينمّيه، الإسلام والملتزمون بتعاليمه من المسلمين، أم غيرهم من الأمم والشعوب السابقة والحالية...!!