الإعجاز الاقتصادي في القرآن - حكمة تحريم الإسلام للربــا
الناقل :
mahmoud
| الكاتب الأصلى :
عيسى عبدو
| المصدر :
www.55a.net
قال تَعَالَى:
( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
[1]
.
و عَنْ جَابِرٍ قَالَ
لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
)
[2]
:( آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ هُمْ سَوَاءٌ
تعريفه :
الربا في اللغة : الزيادة، والمقصود به هنا : الزيادة على رأس المال .
حكمه :و هو محرم في جمع الأديان السماوية، ومحظور في اليهودية والمسيحية والإسلام جاء في العهد القديم :
( إذا أقرضت مالاً لأحد من أبناء شعبي، فلا تقف منه موقف الدائن . لا تطلب منه ربحاً لمالك )
[3]
.
و في كتاب العهد الجديد :
( إذا أقرضتم لمن تنتظرون منه المكافأة، فأي فضل يعرف لكم ؟ ولكن افعلوا الخيرات، وأقرضوا غير منتظرين عائدتها . وإذن يكون ثوابكم جزيلاً )
[4]
واتفقت كلمة رجال الكنيسة على تحريم الربا تحريماً قاطعاً .
مضار الربا على الاقتصاد والمجتمع والفرد
الآثار النفسية والخلقية
أنزل الله دينه ليقيم العباد على منهج العبودية الحقة، التي تعرج بهم إلى مدارج الكمال، وتسمو بهم إلى المراتب العليا، وبذلك يتخلصون من العبودية، ليقصروا أنفسهم على عبادة رب الخلائق، ويتخلصون بذلك من الفساد الذي يخالط النفوس في تطلعاتها ومنطلقاتها .
إن الإسلام يريد أن يطهر العباد في نفوسهم الخافية المستورة، وفي أعمالهم المنظورة، وتشريعات الإسلام تعمل في هذين المجالين والقرآن الكريم سماهما بالتزكية والتطهير قال تعالى :
(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
[5]
وقد أقسم الرب تبارك وتعالى في سورة الشمس أقساماً سبعة على أن المفلح من زكا نفسه، والخائب من دساها،
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)
[6]
والربا واحد من الأعمال التي تعمق في الإنسان الانحراف عن المنهج السوي، ذلك أن المرابي يستعبده المال، ويعمي ناظريه بريقه، فهو يسعى للحصول عليه بكل السبل، وفي سبيل تحقيق المرابي لهدفه يدوس على القيم، ويتجاوز الحدود، ويعتدي على الحرمات، إن الربا ينبت في النفس الإنسانية الجشع، كما ينبت الحرص والبخل، وهما مرضان ما أصابا نفساً إلا أفسدا صاحبها، ومع الجشع والبخل تجد الجبن والكسل، فالمرابي جبان يكره الإقدام، ولذلك يقول المرابون والذين ينظرون لهم : إن الانتظار هو صنعة المرابي، فهو يعطي ماله لمن يستثمره، ثم يجلس ينتظر إنتاجه لينال حظاً معلوماً بدل انتظاره، وهو كسول متبلد لا يقوم بعمل منتج نافع، بل تراه يريد من الآخرين أن يعملوا، ثم هو يحصل على ثمرة جهودهم، ولعل الآية القرآنية تشير إلى هذا المعنى قال تعالى :
(وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)
(
[7]
فالآية تشير إلى أن المرابي يعطي ماله للآخرين كي ينمو من خلالها .
)،
لقد وصف القرآن الكريم آكل الربا بقوله
:
(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
[8]
.
كما أكد سبحانه أن الله سبحانه يذهب بركة الربا ويصيبه بالهلاك والدمار في قوله تعالى :
(يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)
[9]
.
الربا يحدث آثاراً خبيثة في نفس متعاطيه وتصرفاته وأعماله وهيئته، ويرى بعض الأطباء أن الاضطراب الاقتصادي الذي يولد الجشع، يسبب كثيراً من الأمراض التي تصيب القلب، فيكون من مظاهرها ضغط الدم المستمر، أو الذبحة الصدرية أو الجلطة الدموية، أو النزيف في المخ، أو الموت المفاجئ.
و لقد قرر عميد الطب الباطني في مصر الدكتور عبد العزيز إسماعيل في كتابه
( الإسلام والطب الحديث ) أن الربا هو السبب في كثرة أمراض القلب
[10]
.
تخبط المرابي :
وقد وصف القرآن الحال الذي يكون عليها المرابي بحال الذي أصابه الشيطان بمس قال تعالى :
(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:275)
.
والتخبط في اللغة ـ كما يقول النووي ـ رحمه الله تعالى ـ الضرب على غير استواء، يقال : خبط البعير إذا ضرب بأخفافه، ويقال للرجل الذي يتصرف تصرفاً رديئاً ولا يهتدي فيه هو يخبط خبط عشواء، وهي الناقة الضعيفة البصر
(
[11]
) .
و لأن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله، فهذا هو المراد بمس الشيطان، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطاً، فتارة الشيطان يجره إلى النفس والهوى وتارة الملك يجره إلى الدين والتقوى، فحدثت هناك حركات مضطربة، وأفعال مختلفة، فهذا هو التخبط الحاصل بفعل الشيطان "
[12]
.
و لكني أرى أن هذا التخبط الذي يصيب آكل الربا ليس مقصوراً على هذا الجانب الذي ذكره الرازي، بل هو أوسع مما أشار إليه، وهو ملازمة لحالته النفسية واضطرابه في تصرفاته وأعماله .
انعكاسات الربا على المجتمعات الإنسانية :
لا يمكن أن تقوم المجتمعات الإنسانية ما لم يترابط الناس فيما بينهم بروابط الود والمحبة القائمة على التعاون والتراحم والتكافل، ومنبع الود والمحبة والتكافل والتعاون والتراحم والأخوة بين أبناء الأمة الواحدة .
و الأفراد في المجتمعات، أو القطاع من الأمة الذين لا تؤرقهم آلام إخوانهم وأوجاعهم ومصائبهم كالعضو المشلول، الذي انعدم فيه الإحساس، وانقطعت روابطه بباقي الجسد، ومثله كمثل الحمار الذي يدور حول الرحى، ذلك أن اهتماماته وتطلعاته وغاياته تدور حول أمر واحد هو مصالحه الذاتية، فلا تراه لدموع الثكالى، ولا لأنات الحزانى، ولا لأوجاع اليتامى، يرى البؤساء والفقراء فلا يعرف من حالهم إلا أنهم صيد يجب أن تمتص البقية الباقية من دمائهم .
ألم يصل الحال بالمرابين قسات القلوب إلى أن يستعبدوا في بعض أدوار التاريخ أولئك المعسرين الذين لم يستطيعوا أن يفوا بديونهم وما ترتب عليها من ربا خبيث .
ألم يخرج أبو لهب العاص بن هشام إلى بدر، لأن العاص مدين لأبي لهب، ففرض عليه الخروج إلى المعركة بدلاً عنه .
كيف ينعم مجتمع إذا انبث في جنباته أكلة الربا الذين يقيمون المصائد والحبائل لاستلاب المال بطريق الربا وغيره من الطرق !! وكيف يتآلف مجتمع يسود فيه النظام الربوي الذي يسحق القوي فيه الضعيف ..
كيف نتوقع أن يحب الذي نهبت أموالهم، وسلبت خيراتهم ـ ناهبيهم وسالبيهم !! إن الذي يسود في مثل هذه المجتمعات هو الكراهية والحقد والبغضاء، فترى القلوب قد امتلأت بالضغينة ،و الألسنة ارتفعت بالدعاء على هؤلاء الأشقياء الذين سلبوهم أموالهم، وكثيراً ما يتعدى الأمر ذلك عندما يقومون بثورات تعصف بالمرابين وأموالهم وديارهم، وتجرف في طريقها الأخضر واليابس .
يقول المراغي رحمه الله تعالى :
" الربا يؤدي إلى العداوة والبغضاء والمشاحنات والخصومات، إذ هو ينزع عاطفة التراحم من القلوب، ويضيع المروءة، ويذهب المعروف بين الناس، ويحل القسوة محل الرحمة، حتى إن الفقير ليموت جوعاً، ولا يجد من يجود عليه ليسد رمقه، ومن جراء هذا منيت البلاد ذات الحضارة التي تعاملت بالربا بمشاكل اجتماعية، فكثيراً ما تألب العمال وغيرهم على أصحاب الأموال، واضربوا عن العمل بين الفينة والفنية، والمرة بعد المرة . ومنذ فشا الربا في الديار المصرية ضعفت فيها عاطفة التعاون والتراحم، وأصبح المرء لا يثق بأقرب الناس إليه، ولا يقرض إلا بمستند وشهود، بعد أن كان المقرض يستوثق من المقترض ـ ولو أجنبياً ـ بألا يحدث أحداً بأنه اقترض منه، وما كان المقرض في حاجة في وصول حقه إليه إلى مطالبة، بلا محاكم ومقاضاة "
[13]
.
و لقد بلغت خسة الطبع وفساد الخلق بالمرابين اليهود إلى أن يتآمروا على المجتمعات التي فتحت أبوابها لهم، بل على العالم بأسره، ويوقدون نيران الحروب، ويسعون في الفساد، وقد نبأنا القرآن خبرهم، وكشف لنا جرمهم عندما قال :
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)
[14]
و قد نبه كثير من الكتاب المحققين إلى أن أباطرة المال اليهود هم الذين كانوا وراء إشعال نيران الحروب في القرن الماضي، كما أنهم هم الذين أوقدوا نيران الحربين العظميين في القرن . لقد سالت الدماء أنهاراً، أهدرت ملايين من الدنانير، كل ذلك ليربو المال اليهود، وتعظم سيطرة اليهود في العالم .
الخلل الذي يصيب المجتمع بسبب اختلال توزيع الثروة فيه :
إذا أصبح المال دولة بين الأغنياء، شقي أغنياؤ ذلك المجتمع وفقراؤه، والربا يركز المال في أيدي فئة قليلة من أفراد المجتمع الواحد ،و يحرم منه المجموع الكثير، وهذا خلل في توزيع المال، يقول الدكتور ( شاخت ) الألماني، مدير بنك الرايخ الألماني سابقاً في محاضرة ألقاها في سوريا في عام 1953
: " إنه بعملية رياضية ( غير متناهية ) يتضح أن جميع المال صائر إلى عدد قليل جداً من المرابين، ذلك أن الدائن المرابي يربح دائمـاً في كل عمليـة، بينما المدين معرض للربح والخسارة، ومن ثم فإن المال كله في النهايـة لا بد بالحساب الرياضي أن يصير إلى الذي يربح دائماً
(
[15]
)
.
و هو الذي يجعل اليهود يصرون على التعامل بالربا، ونشره بين العباد، كما يحرصون على تعليم أبنائهم هذه المهنة، كي يسيطروا على المال ويحوزوه إلى خزائنهم .
و هذا الخلل الذي يحدثه الربا في المجتمعات الإنسانية ـ وهو خلل توزيع الثروة ـ داء يعجز علاجه الأطباء، وقد اعترف رجال الاقتصاد الكبار في العالم الغربي، ومن هؤلاء ( شارل رست )، ورست هذا ـ كما يقول العالم الاقتصادي المسلم عيسى عبده ـ رحمه الله ـ حجة في تاريخ المذاهب الاقتصادية وصاحب مدرسة ليس لها نظير في العالم الغربي، وقد اعترف ( رست ) بعجزه التام عن حل مشكلات العالم الذي يعيش فيه، بعد أن بلغ قمة نضجه، يقول (رست ) :
" إنني وقد قاربت سن التقاعد، أريد أن أوصي الجيل الأصغر مني سناً في هذا القضية : لقد أصبحنا الآن بعد هذه الجهود الطويلة في بلبلة مستمرة، فكلنا يشقى بسبب توزيع الثروة، وتوزيع الدخل، سواء منها ما كان جزئياً، مثل قضية الفائدة والربا، أم ما كان مثل تفاوت الطبقات، تعبنا في هذا ولم نصل إلى شيء "
[16]
.
بالله عليك ألم يصرح (رست ) بالنتيجة الحتمية التي يصير إليها كل معرض عن هدي السماء : لقد أصبحنا في بلبلة مستمرة ..، كلنا يشقى بسبب توزيع الثروة .. تعبنا ولم نصل إلى شيء ..، إنه الشقاء، شقاء الحياة الدنيا، وشقاء الآخرة أشد وأبقى قال تعالى :
( ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معشية ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى . قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً . قال كذلك أتتك ءاياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى . وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى )
[17]
.
تدمير الربا للمجتمعات :
الربا بما يحدثه في النفوس من أمراض، وبما بوجده في الاقتصاد من بلايا، وبما يصنعه من خلل ـ يصيب المجتمعات الإنسانية بالدمار .
و صاحب الموسوعة الاقتصادية يقرر أن :" الربا لعب دوراً هاماً في انهيار المجتمعات البدائية وظهور الاقتصاديات القائمة على الرق ن فنظراً لأن القرض كان مضموناً بشخص المقترض نفسه إلى جانب ضمانات أخرى كانت النتيجة نزع ملكية صغار المزارعين، وتحويل عدد منهم إلى رقيق، مما أدى في النهاية إلى تركيز الملكية العقارية في أيدي قلائل "
[18]
.
هذا ما فعله الربا في الماضي، وقد استطاع الكتاب الذي عرفوا باطن الأمور أن يدركوا آثاره في تلك المجتمعات، ولكن كثيراً من هؤلاء يظنون أن الفائدة الربوية اليوم لا تحدث في المجتمعات الإنسانية ما أحدثته في المجتمعات البدائية .
لقد حول المرابون في القديم البشر إلى عبيد يعملون في المزارع التي سرقوها من أولئك العبيد، ولا يزال المرابون إلى اليوم يسعون إلى السيطرة على ثمار جهود البشر، وسرقة عرقهم وأموالهم .
إن عصور الربا الفاحش لم تنته بعد، فذلك وهم، إن لائحة مقرضي المال الصادرة في بريطانيا في سنة 1927 تسمح للمرابين بفرض فائدة تبلغ 48 في المئة
[19]
هذه هي النسبة المقررة أما المتعامل بها فكانت أعلى من ذلك بكثير، وينقل لنا أنور قرشي بعض الأمور المذهلة التي كانت تجري في بريطانيا العظمى في الربع الأول من هذا القرن ن من تقرير أعدته لجنة مشتركة من مجلس اللوردات ومجلس العموم عن صكوك مقرضي المال في سنة 1925، وعن طريق تقصي أضرار إقراض المال في ( ليفربول ) في سنة 1924 .
لقد توصل أصحاب التقرير إلى أن بعض القروض كانت تصل نسبة الفائدة فيها إلى 250 في المائة و260 و400 و433 في المائة، بل بلغت النسبة في بعض الأحيان، كما يقول التقرير إلى 866 و1300 في المائة في السنة .
لم يكن ما تحدث عنه تقرير مجلس اللوردات ومجلس العموم في أعظم دولة آنذاك حالات فردية لقد قال ممثل اتحاد مقرضي المال للجنة المشتركة : " إن إقراض المال مهنة ضخمة، وإني أقدم إليكم الأرقام، هل يدهش سعادتكم أن تعرفوا أن هناك ما يزيد على 300 من مقرضي المال المسجلين في هذه البلاد "، وتحدث التقرير عن وجود 1380 من هؤلاء المرابين في ( ليفربول وبركنهيد )، وبمقارنة عددهم بعدد السكان وجد أن كل 730 لهم مقرض مرابي
[20]
و قد كانت الحال في أمريكيا في الربع الأول من هذا القرن ت كما يقول إقبال القرشي ـ لا تقل سواء عن حال بريطانيا، وقد نقل وقائع وتقارير تدل على أن المرابين كانوا ينالون نسباً عالية تبلغ 20 في المائة، و40 في المائة و100 في المائة، وأكثر من هذا
[21]
.
أما في بلد متأخر كالهند مثلاً فيكفي أن نعلم أن فلاحي مقاطعة البنجاب كانوا يدفعون فوائد تعادل ضعف ريع الأرض كلها، كما جاء في كتاب ( سير مالكو لم لوبال، درالنج ) الموسوم بـ ( الكلاسيكي )
[22]
.
قد يقال إن الحال اليوم قد تغير، والفائدة أصبحت محددة، وهي لا ترهق الأفراد ولا المؤسسات ولا الحكومات، أقول هذا قصور في النظر وخطل في القول، فإن فوائد البنوك الربوية وبيوتات المال في أوائل هذا القرن لم تكن تتعدى الثلاثة أو الأربعة أو الخمسة أو الستة أو السبعة في المائة على أكثر تقدير، أما اليوم فإن الفائدة التي كانت تعلنها البنوك الربوية قد بلغت 18، أو 20 في المائة وهي اليوم 10 في المائة، و11 في المائة، و12 في المائة، وقد بلغ الربا في بعض التعاملات في الكويت (800) في المائة فيما عرف بأزمة المناخ، ويذكر المطلعون على تفاصيل الأزمة أن حجم الأموال التي سببت الأزمة بلغ ( 27) ملياراً منها ( 9) مليارات تراكمت بسبب الربا، والذين لا يأكلون الربت كانوا أبعد الناس عن التأثر بهذه الأزمة . ومما يدل على أن هذا البلاء لا يزال آخذاً بأنفاس الناس، ولا يزال رابضاً على قلوبهم، أن ما يسمى بدول العالم الثالث، اليوم مثقلة بديون لا تستطيع صادراتها كلها أن تفي بسداد خدمة الدين الربوية .
الآثار الاقتصادية للربا :
الربا آفة من الآفات إذا أصابت الاقتصاد فإنها تنتشر فيه انتشار السرطان في جسم الإنسان، وكما عجز الأطباء عن علاج السرطان فإن المفكرين ورجال السياسة والاقتصاد عجزوا عن علاج بلايا الربا، ومن العجيب أن بعض الناس ظنوا أن الربا يحدث خيراً للناس، ومثلهم في ذلك مثل الذين يظنون أن التورم في بعض الأجسام الناشئ عن المرض صحة وعافية، فليس كل تضخم في الجسد صلاحاً، إن السرطان إنما هو تكاثر غير طبيعي لخلايا الجسد، وهذا التكاثر ليس في مصلحة الإنسان، بل هو مدمر لحياته، وفاتك به .
و كذلك ما يولد الربا ليس صلاحاً للاقتصاد بل هو مدمر للاقتصار، والمشكلة أن بلايا الربا لا تظهر مرة واحدة في كان المجتمع وكيان الاقتصاد، يقول الرازي : " إن الربا وإن كان زيادة في الحال إلا أنه نقصان في الحقيقة "
[23]
وهذا مستفاد من النص القرآني : ( يمحق الله الربا )
[24]
فالمحق نقصان الشيء حالاً بعد حال، ومنه محاق نقصان الشيء حالاً بعد حال، ومنه محاق القمر يعني انتقاصه ليلة بعد أخرى، فالذين يتعاملون بالربا يظنون أن فيه كسباً، والحقيقة التي أحبر بها العليم الخبير، والتي كشف عنها واقع البشر الذي دمره سرطان الربا أن الربا ممحقة للكسب مدمر للاقتصاد، ذلك أنه يصيبه بعلل خبيثة يعي الطبيب النطاسي دواؤها، الربا ليس بركة ورخاء بل هو مرض عضال يذهب المال ويقلله، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن الربا وإن كثر فإن فإنّعاقبته تصير إلى قل " أي قلة، رواه ابن ماجه وأحمد والبيهقي في شعب الإيمان .
و علماؤنا الذين أبصروا الحقائق من خلال النصوص القرآنية والحديثية أدركوا هذه الحقيقة، وقد نقلنا قول الرازي الذي يقول فيه : " إن الربا وإن كان زيادة في الحال إلا إنه نقصان في الحقيقة، وإن الصدقة وإن كانت نقصاناً الصورة فهي زيادة في الحقيقة " ويقول المراغي :
" إن عاقبة الربا الخراب والدمار، فكثيراً ما رأينا ناساً ذهبت أموالهم، وخربت بيوتهم بأكلهم الربا "
[25]
.
و يقول القاسمي :
" المال الحاصل من الربا لا بركة له، لأنه حاصل من مخالفة الحق، فتكون عاقبته وخيمة "
[26]
و الآفات الاقتصادية التي يجلبها الربا كثيرة، وسنتناول في هذه الدراسة ما بدا لنا منها :
1 . تعطيل الطاقة البشرية :
الربا يعطل الطاقات البشرية المنتجة، ويرغب في الكسل وإهمال العمل، والحياة الانسانية غنما ترقى وتتقدم إذا بذل الجيمع طاقاتهم الفكرية والبدنية في التنمية والإعمار، والمرابي الذي يجد المجال رحباً لإنماء ماله بالربا يسهل عليه الكسب الذي يؤمن له العيش، فيألف الكسل، ويمقت العمل، ولا يشتغل بشي من الحرف والصناعات الشاقة، وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق، ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات والحرف والعمارات "
[27]
ثم إن تعطيل الربا للطاقات المنتجة لا يتوقف على تعطيل طاقة المرابي، بل إن كثيراً من طاقات العمل ورجال الأعمال قد تقل أو تتوقف، ذلك أن الربا يوقع العمال في مشكلات اقتصادية صعبة، فالذين تصيبهم المصائب في البلاد الرأسمالية لا يجدون إلا المرابي الذي يقرضهم المال بفوائد عالية تعتصر ثمرة أتعابهم، فإذا أحاطت هذه المشكلات بالعمال أثرت في إنتاجهم .
هذا جانب وجانب آخر أن الربا يسبب الركود الاقتصادي والبطالة وهذا يعطل الطاقات العاملة في المجتمعات الإنسانية .
2. تعطيل المال :
و كما يعطل الربا جزءاً من الطاقات البشرية الفاعلة، كذلك يعطل الأموال عن الدوران والعمل ،والمال للمجتمع يعد بمثابة الدم الذي يجري في عروق الإنسان، وبمثابة الماء الذي يسيل إلى البساتين والحقول، وتوقف المال عن الدوران يصيب المجتمعات بأضرار فادحة، مثله كمثل انسداد الشرايين، أو الحواجز التي تقف في مجرى الماء .
و قد رهب الله تبارك وتعالى الذي يكنزون المال، وتهددهم بالعذاب الأليم الموجع
( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم . يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون )
[28]
و قد شرع الله من الأحكام ما يكفل استمرار تدفق المال إلى كل أفراد المجتمع، بحيث لا يصبح المال دولة بين الأغنياء دون غيرهم، ( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم )
[29]
و المرابي بجبنه وتطلعاته إلى الكسب الوفير لا يدفع ماله إلى المشروعات النافعة والأعمال الاقتصادية إلا بمقدار يضمن عودة المال وافراً كثيراً، وهو يحبسه إذا ما أحس بالخطر، أو طمع في نيل نسبة أعلى من الفائدة في المستقبل، عندما يقل المال في أيدي الناس يقع الناس في بلاء كبير .
ثم إن مقترضي المال بالربا لا يسهمون في الأعمال المختلفة إلا إذا ضمنوا نسبة من الربح أعلى من الربا المفروض على الدين .
3. التضخم :
" التضخم يقصد به وجود اتجاه صعودي في الأثمان بسبب وجود طلب زائد أو فائض بالنسبة إلى إمكانية التوسع في العروض "
[30]
.
و التضخم له أسباب طبيعية وأسباب غير طبيعية، ومن الأسباب غير الطبيعية الربا، فالمرابي بما يفرضه من فائدة مرتفعة يجبر أصحاب السلع والخدمات على رفع أثمان هذه السلع والخدمات، ولا شك أن التضخم يسيء إلى الناس كثيراً خاصة أصحاب الدخول النقدية الثابتة كالموظفين والعمال، ومن ثم تنخفض دخولهم الحقيقية، وإذا اضطرت الحكومات إلى مواجهة الأمر برفع دخول الموظفين والعمال فالملاحظ أن تقرير الزيادة لا يتم بسرعة وفي الوقت المناسب، ولذلك يجب أن يعمل المفكرون ورجال السياسة والاقتصاد على محاربة التضخم، خاصة ذلك النوع الذي يسميه الاقتصاديون بالتضخم الجموح والذي ترتفع فيه الأثمان ارتفاعاً غير طبيعي، ومن أعظم الأسباب التي تؤدي إليه الربا، فمنعه إنما هو علاج لمرض خطير .
4ـ الكساد والبطالة :
إذا ارتفعت أثمان الأشياء ارتفاعاً عالياً فإن الناس يكفون عن الإقبال على السلع والخدمات المرتفعة الأثمان، إما لعدم قدرتهم على دفع أثمانها، أو لأنها ترهق ميزانيتهم، وإذا امتنع الناس عن الشراء كسدت البضائع في المخازن والمتاجر، وعند ذلك تقلل المصانع من الإنتاج، وقد تتوقف عنه، ولابد في هذه الحالة من أن تستغني المصانع والشركات عن جزء من عمالها وموظفيها في حالة تخفيض إنتاجها، أو تستغني عن جميع عمالها وموظفيها إذا توقفت عن الإنتاج، وعندما يحس المرابون بما يصيب السوق من زعزعة يزيدون الطين بلة، فيقبضون أيديهم، ويسحبون أموالهم فعند ذلك تكون الهزات الاقتصادية .
الأمر عجيب، لأن الأموال في المجتمع كثيرة، ولكنها في خزائن المرابين، والناس بحاجة إلى السلع، ولكنهم لا يشترونها لعدم وجود المال بين أيدهم، والعمال يحتاجون إلى عمل، ولكن المصانع والشركات تمتنع من تشغيلهم لحاجتها إلى المال من جانب وإلى تصريف بضاعتها من جانب، إن الربا يحدث خللاً في دورة التجارة، والإسلام في سبيل إصلاح هذا الخلل حرم الربا، وشرع تشريعات كثيرة تمنع تركز المال في أيدي طائفة من أفراد المجتمع .
و اليوم تعاني أمريكا زعيمة العالم الرأسمالي من أزمة بطالة مخيفة .
إن تكبيل الأمم بهذه القيود الرهيبة يجعلها تعمل يجعلها تعمل وتعمل وتعمل ولا تستفيد من عملها شيئاً، كل عملها يذهب إلى خزن المرابين، وعند ذلك لا يستطيع الأفراد الحصول على حاجياتهم، ومع ذلك فإن الدولة تفرض المزيد من الضرائب، وترفع الأسعار لمواجهة العجز في مدفوعاتها، فتقوم الثورات وتحصل الاضطرابات وتزهق الأرواح، وما يحدث في كثير من دول العالم ليس يسر .
و قد يصل الأمر إلى درجة تعجز الدولة عن السداد وعند ذلك تلغي الدولة ديونها كما حدث في كوبا في سنة 1961، وكوريا الشمالية في سنة 1974، ويقول
( ستيروارت جرينبوم) أستاذ البنوك والتمويل بجامعة
( نورث وسترن )
: " تصور نفسك أحد الحكام الديكتاتوريين في أمريكا اللاتينية، وقد غرقت في الديون، فإذا ما وافقت على شروط صندوق النقد الدولي، وخفضت مثلاً من حجم الواردات، فسوف تواجه بمظاهرات الاحتجاج ،و حركات التمرد في الشوارع، وإذا ما عجزت عن سداد الديون، وتوقفت عن الدفع فسوف تنبذ من المجتمع الدولي ومن أسواق الإقراض العالمية، وعندما توقن أن الحل الأول سيعلقك مشنوقاً على فرع شجرة ـ قطعاً ـ ستسلك الطريق الثاني : وهو التوقف عن السداد "
[31]
.
5 ـ توجيه الاقتصاد وجهة منحرفة :
ومن بلايا الربا أنه يوجه الاقتصاد وجهة منحرفة، فالمرابي يدفع لمن يعطيه ربحاً أكثر، وآخذ القرض الربوي لا يوظف المال الذي اقترضه إلا في مجالات تعود عليه بربح أكثر مما فرضه عليه المرابي، إذن القضية تكالب على تحصيل المال، وفي سبيل ذلك تتجاوز المشروعات النافعة التي تعود بالخير على المجتمع، ويوظف المال في المشروعات الأكثر إدراراً للربح .
6ـ تشجيعه على المغامرة والإسراف :
الحصول على المال بالربا سهل ميسور، ما دام المرابي يضمن عودة المال إليه، ولذا فإن الذين ليس لهم تجربة، وليس عندهم خبرة ـ يغريهم الطمع، فيأخذون القروض بالربا، ثم يدخلون في أعمال ومشروعات قد يكون محكوماً عليها بالفشل، أو يدخلون في أعمال هي أقرب إلى المقامرة منها إلى الأعمال الصالحة، ومتى كثر هذا النوع من الأعمال فإنه يضر باقتصاد الأمة، والمرابي لا يمتنع من إمداد هؤلاء بالمال، لأنه لا يشغل باله الطريقة التي يوظف المال بها، وكل ما يشغله عودة المال برباه، وقد أوجب علينا الإسلام منه السفيه من التصرف في ماله حفاظاً على ثروة الأمة من الضياع ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً )
[32]
ولا حظ قوله : ( أموالكم ) فقد جعل مال السفيه مالاً للأمة بها قوام أمرهم، فالربا يسهل وضع الكثير من مال الأمة بين أيدي المغامرين والجهلاء الذي قد يبددون هذه الأموال، ويزداد الأمر سوءاً عندما يستولي المرابي على بيوتهم ومزارعهم والبقية الباقية من مصانعهم ومتاجرهم .
و سهولة الإقراض بالربا تشجع على الإسراف وإنفاق المال فيما لا يفيد ولا يغني، وقد ذكرت مجلة التايم الأمريكية في الدراسة التي قدمتها عن ديون العالم الثالث في مطلع هذا العالم أن دولة ( ليبريا) انغمست في الدين الربوي من أجل استضافة اجتماعات منظمة الوحدة الإفريقية .
كما ذكرت أن جمهورية ( إفريقيا الوسطى ) قامت بإنفاق خمسن مليون دولار أمريكي " نصف الميزانية السنوية لتلك الدولة تقريباً وذلك في عام 1977" على حفل تتويج الإمبراطور بوكاسا .
يقول المراغي يسهل على المقترضين أخذ المال من غير بدل حاضر ويكرن لهم الشيطان إنفاقه في وجوه الكماليات التي كان يمكن الاستغناء عنها، ويغريهم المزيد من استدانة، ولا يزال يزداد ثقل الدين على كواهلهم حتى يستغرقون أموالهم، فإذا حل الأجل لم يستطيعوا الوفاء وطلبوا تأجيل الدين، ولا يزالون يماطلون ويؤجلون، والدين يزداد يوماً بعد يوم، حتى يستولي الدائنون قسراً على كل ما يملكون فصبحوا فقراء معدمين، وصدق الله ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات ) سورة البقرة :
[33]
.
7 ـ وضع مال المسلمين بين أيدي خصوم الإسلام :
من أخطر ما أصيب به المسلمون أنهم أودعوا الفائض من أموالهم في البنوك الربوية في دل الكفر، وهذا الإيداع يجرد المسلمين من أدوات النشاط الإقتصادي ومن القوة القاهرة في المبادلات، ثم يضعها في أيدي أباطرة المال اليهودي الذين أحكموا سيطرتهم على أسواق المال، وهذه الفوائد الخبيثة التي يدفعها لنا المرابون هي ثمن التحكم في السيولة الدولية .