الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، عبد ربه كما يجب، وأرشد أمته إلى أكمل الشرائع أما بعد:
فإن الناظر إلى الواقع اليوم يجد الكثيرين ممن يعبدون الله ويتقربون إليه، ملتزمين بالعبادات المالية، والبدنية غير أن البعض منهم بل الكثيرين بمعزل عن أغلب أحكام تلك العبادات. سواء كانت بدنية كالصلاة على اختلاف صورها. أو كانت مالية كالزكاة. وكذلك الحج..
لهذا تجد البعض لا يعرف من العبادة إلا صفتها وهيئتها. وما أن يعرض له أدنى حكم شرعي حتى يحس بالحيرة والإرتباك. فيبحث عن ذلكم العالم أو المفتي ليزيل لبسه، ويحل إشكاله. وإن كان هذا ضرورياً، إلا أن الذي ينبغي أن يكون عليه أهل الإسلام، الإحاطة بتلك الأحكام، ليدرك فضيلة قوله : { من يرد الله به خيراً يفقه في الدين } [رواه البخاري ومسلم]، ويعبد الله على علم وبصيرة.
وبما أن هذا الأمر قد يتعذر في حق البعض. وحرصاً على نشر العلم، ورجاء فضله، ولكثرة المسائل، فقد استعنت بالله ذا العلم والفضل على بحث بعض المسائل. جامعاً جملة من أحكامها لكل مسلم. بأسلوب سهل ميسر مختصر، معتمداً الدليل الشرعي ومستنداً إلى مباحث أهل العلم، لتقريب المسائل والأحكام. ومشيراً في الهامش إلى المصادر لمن أراد الإستزادة والمراجعة.
فمن هذه المسائل ( تحية المسجد ) التي تعبدنا الله بها، فأسأله العون والسداد، وأن يهديني إلى الحق والصواب.
اللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت. وجنبنا سيئها إنّك أنت السميع المجيب.
تحية المسجد ركعتان: يصليهما الداخل إلى المسجد، وهي سنة إجماعاً في حق كل من دخل المسجد، لعموم الأخبار [انظر فتح الباري:2/407].
يستثنى من هذا خطيب المسجد، إذا دخل لخطبة الجمعة فلا يصلي ركعتين، وأيضاً قيّم المسجد، الذي يوالي إلى المسجد لتكرار دخوله فتشق عليه. كما لا تسنّ في حال من دخل المسجد، والإمام في صلاة مكتوبة، أو بعد الشروع في الإقامة، لأن الفريضة تغني عن تحية المسجد [سبل السلام:1/320].
وذهب البعض إلى استحباب تكرار التحية، لكل مرة إذا تكرر الدخول إليه، أخذ به النووي، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو ظاهر كلام الحنابلة [المجموع:4/75].
وذهب الشوكاني رحمه الله: إلى أن تحية المسجد مشروعة، وإن تكرر الدخول إلى المسجد لظاهر الحديث [نيل الأوطار:3/70] والله أعلم.
تؤدى التحية إكراماً للمسجد، كأنها في دخول المنزل بمنزلة السلام، كما يسلم الرجل على صاحبه عند لقائه.
قال النووي رحمه الله: ( وعبر بعضهم بتحية رب المسجد، لأن المقصود منها القربة إلى الله، لا إلى المسجد، لأن داخل بيت الملك، يحيي الملك لا البيت ) [حاشية ابن قاسم:2/252].
المسألة الأولى: مشروعية تحية المسجد، في جميع الأوقات، لأنها من ذوات الأسباب، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. وقال به مجد الدين أبي البركات، وابن الجوزي، وغيرهم [انظر الإنصاف:2/802، والمحرر:1/86، ونيل الأوطار:3/62، والفتاوى لابن تيمية:23/219].
وبهذا الحكم أخذ شيخنا محمد بن عثيمين وصححه، [الشرح الممتع:4/179]، وكذلك شيخنا ابن باز رحمه الله [انظر فتاوى مهمة تتعلق بالصلاة].
المسألة الثانية: وقت تحية المسجد عند الدخول، وقبل الجلوس، أما إن جلس عامداً عالماً فلا يشرع له القيام للإتيان بها، حيث فوت وقتها.
المسألة الثالثة: من دخل المسجد وجلس جاهلاً، أو ناسياً قبل الإتيان بالتحية، شرع في حقه القيام والصلاة ركعتين؛ لأنها لا تفوت بالجلوس في حق المعذور، بشرط ما لم يطل الفصل اتفاقاً [انظر فتح الباري:2/408].
المسألة الرابعة: حكم تحية المسجد سنة، بخلاف من قال بوجوبها، وحكى النووي الاجماع على ذلك [نيل الأوطار:3/68].
المسألة الخامسة: من دخل المسجد والمؤذن يؤذن، فالمشروع في حقه أن يجيب المؤذن، ويؤخر تحية المسجد ليدرك أفضلية الإجابة. إلا إذا دخل المسجد يوم الجمعة، وقد بدأ الأذان للخطبة، ففي هذه الحال يقدم تحية المسجد على الإجابة، لأن سماع الخطبة أهم [الإنصاف:1/427].
المسألة السادسة: من دخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب يسن له أن يصلي ركعتين تحية المسجد، ويخففها ويكره له تركها [الفتاوى لابن تيمية:23/219] لحديث: { فلا يجلس حتى يصلي ركعتين } [رواه البخاري:1163، ومسلم:714]، وحديث: { فليركع ركعتين وليتجوز فيهما } [رواه البخاري:931، ومسلم:875]، أما إذا كان الخطيب في آخر الخطبة وغلب على ظن الداخل إن صلى التحية لم يدرك أول الصلاة، وقف حتى تقام الصلاة، ولا يجلس حتى لا يكون جلس في المسجد قبل التحية.
المسألة السابعة: تحية المسجد الحرام الطواف عند أكثر الفقهاء، وقال النووي: ( تحية المسجد الحرام الطواف في حق القادم، أما المقيم فحكم المسجد الحرام وغيره في ذلك سواء ) [فتح الباري:2/412]، ولعل مراده ما لم يقصد الطواف. أما إن أراد الطواف فإنه يستغني بالطواف عن الركعتين. وهو الصواب [انظر حاشية ابن قاسم:2/487].
المسألة الثامنة: تجزي السنة الراتبة القبلية عن تحية المسجد، فسنة الصلاة في المسجد كافية عن التحية، لأن المقصود من التحية أن يبدأ الداخل للمسجد بالصلاة، وقد وجدت بالسنة الراتبة. وإن نوى التحية والسنة الراتبة، أو التحية والفريضة حصلا جميعاً. قال النووي: بلا خلاف [انظر كشاف القناع:1/423].
المسألة التاسعة: تحية المسجد لا تحصل بركعة واحدة، ولا بصلاة جنازة، ولا بسجود تلاوة ولا بسجود شكر [انظر كشاف القناع:1/424].
المسألة العاشرة: إن اكتفى إمام المسجد بالمكتوبة عن تحية المسجد لاقتراب موعد إقامة الصلاة، كفاه ذلك [سبل السلام:1329].
فعن جابر بن سمرة قال: ( كان بلال يؤذن إذا زالت الشمس، ولا يخرم ثم لا يقيم حتى يخرج إليه النبي ، فإذا خرج أقام حين يراه ) [رواه مسلم وأبو داود].
أما عند إرادة الجلوس فإن تحية المسجد تشرع في حق الإمام كغيره، لعموم الأدلة. وانظر المسألة التالية. ففي الحديث عنه : { إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين } [رواه البخاري:444، ومسلم:764].
وعند الصلاة في الصحراء فلا تحية [الفواكه العديدة:1/99]. إلا عندما تكون الصلاة في مسجد على الطريق حال سفره، فله أدائها وإن نوى تحية المسجد والفريضة معاً ذلك أصح.
المسألة الحادية عشر: لا يشرع للإمام أن يصلي قبل الجمعة أو العيدين تحية المسجد، وإنما يبدأ بالخطبة في الجمعة [انظر المجموع:4/448]، وبالصلاة في العيد، لأن هذا فعله .
أما المأموم فتشرع له تحية المسجد [سبق ذكر أحكام تحية المسجد للمأموم] في مصلى العيد قبل جلوسه، لعموم الأدلة، وسواء صلى العيد في المسجد أو في مصلى العيد، لأن له حكم المسجد، بدليل حديث أم عطية رضي الله عنها قالت: ( أمرنا أن نخرج العواتق، والحيّض في العيدين، يشهدن الخير، ودعوة المسلمين، ويعتزل الحيّض المصلى ) [رواه البخاري:324 ومسلم:890].
وإلى هذا ذهب شيخنا محمد بن عثيمين رحمه الله وهو مذهب الشافعي [الشرح الممتع:5/205]، وصححه صاحب الإنصاف والفروع. [انظر الإنصاف:1/246].
المسألة الثانية عشر: يسن لمن صلى الفريضة، ثم حضر مسجداً قد أقيمت فيه الصلاة أن يدخل في تلك الصلاة، لقوله : { إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة } [رواه الترمذي:219].
بهذا يكتفي بالفريضة من تحية المسجد وتكون هذه الصلاة نافلة، والفرض هي الأولى، لأنها برئت بها الذمة.
وهذه المسألة توجد كثيراً في المساجد التي تؤدي فيها صلاة الجنازة، أو يعقد فيها دروس علمية ونحوها.
فمن دخل مع الإمام على هذه الحال فإن له أن يتم الصلاة، لعموم قوله : { ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا } [أخرجه البخاري:636، ومسلم:602] وهو الأفضل.
وإن أدرك ركعتين من الصلاة مع الإمام فله أن يسلم معه، أما إن أدرك أقل من ذلك فالسنة أن يتم ركعتين ثم يسلم [الشرح الممتع:4/220].
أما الجلوس بعد دخول المسجد، أو الانتظار حتى تنتهي الجماعة من الصلاة، فخلاف السنة ودليل على جهل صاحبها.
فنسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا، إنه أهل الجود والكرم. آمين.
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.