وقفات عند رحيل رمضان

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : صالح بن علي السلطان | المصدر : www.kalemat.org

الحمد للّه شكراً، والشكر له ذكراً، وأشهد ألا إله إلا اللّه وحده لا شريك له غمراً. شهادة ترفع صاحبها قدراً، وتعظم له أجراً، وتحط عنه وزراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله براً. أرسله للثقلين بشرى، تتراً، ورضي عن أصحابه دهراً، جمعنا الله بهم طُراً، وحشرنا معهم غُراً. أما بعد:

فإن فراق شهر رمضان المبارك لمن أصعب الأمور على النفس المؤمنة، ولولا أن هذا الشهر يعود ويتكرر لانصدعت له قلوبهم صدعاً لا يلأم، ولكن عزاءهم أنه فراق بعد لقاء. إن شاء الله. والمهم على فراق هذا الشهر لأمرين:

الأول: حزن على فراق تلك النفحات الربانية التي لا تتجلى إلا في هذا الشهر المبارك. مع همة جادة في الطاعة، والإقبال على المولى سبحانه بأنواع من القربات و العبادات قلما تجتمع في غيره.

الثاني: خوف من عدم قبول تلك الأعمال التي جدوا فيها. وشمروا لها سواعدهم، يدفعه أمل في المولى الكريم أن يقبل منهم ما قدموه من قليل خدمتهم في مقابل كثير نعمه التي أنعم بها عليهم فاسمع لسان حالهم يردد:

 

سلام من الرحمن كل أوان *** على خير شهر قد مضى وزمان

 

 

سلام على شهر الصيام فإنه *** أمان من الرحمن كل أمان

 

 

لئن فنيت أيامك الغر بغته *** فما الحزن من قلبي عليك بفان

 

ودعنا نقف أخي الحبيب بعض الوقفات وتحن نودع هذا الشهر المبارك عسى الله أن ينفع بها وأن يجعلها لي ولك ذخراً في صالح أعمالنا إنه سميع قريب.

 

الوقفة الأولى: تذكر قبل أن تودع الشهر

 

تذكر أخي الحبيب أن سلفنا الصالح عليهم من الله أزكى الرحمات قد جعلوا شهورهم كلها رمضان؛ فما كان دخوله يزيدهم طاعة، وما كان خروجه ينقصهم إحساناً، فهل نعقد العزم على أن نحول السنه كلها إلى رمضان؟ قل:إن شاء الله.

وتذكر أننا قد اعتدنا في هذا الشهر الكريم على الكثير من الخير، وكففنا عن كثير من الشر، ترى!! هل سنستمر على ما اعتدنا عليه من محافظة على صلاة الجماعة؟ - خصوصاً صلاة الفجر وملازمة لكتاب الله؟ فهذا الميزان لقبول الأعمال والتوبة. قال الله تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]؛ فإن كنا قد اهتدينا فسيزيدنا الله هدى.

وتذكر يا من عرفت الله في رمضان أن رب رمضان هو رب رجب وشعبان. فمن كان يعبد رمضان فإن رمضان قد آذن برحيل. ومن كان يعبد الله فإن الله دائم لا يحول.

وتذكر أنك قد عاهدت ربك في هذا الشهر العظيم على التزام الطاعة. والإقلاع عن المعصية وقد قال في محكم كتابه وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ [التوبة:75-77]. وقال عز من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:3،2] فتعوذ بالله من توبة الكذابين.

وتذكر أن شهر رمضان وإن كان شهر التوبة والإقلاع فإن باب التوبة مفتوح طول العام، يقول الحق سبحانه: أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:104]. ويقول: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى:25] فهو سبحانه كل وقت غافر للذنب، قابل للتوب. كما أنه شديد العقاب.

وتذكر أن شهر رمضان وإن كان فرصة للعبادة والتقرب إلى المولى سبحانه. فإن فرصة العبادة باقية لم تنته بعد.

فلئن كان الصيام من أخص خصائص هذا الشهر إلا أن الصيام سوف يبقي محبوباً مطلوباً في سائر شهور العام. بل هناك من الصيام ما هو كالمتمم لصيام رمضان كما سنعلم قريباً - إن شاء الله - وأين أنت من صيام الإثنين والخميس من كل أسبوع وصيام ثلاية أيام من كل شهر، وصوم أيام العشر. وشهر الله المحرم، و.....

ولئن ذهبت مع رمضان صلاة التراويح لكن الصلاة على الدوام صلة وشيجة بين العبد وربه لا يفنيها انقضاء شهر أو مرور دهر. ولن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة وحط عنك بها خطيئة. بلُه صلاة الليل التي هي شعار المتقين، ودأب الصالحين وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً [الإسراء:79] وهذا مطلق غير مقيد برمضان ولا غيره. ولا تفوتك السنن الرواتب. وصلاة الضحى. وركعتي الوض، وتحية المسجد....، باب خير لا ينقطع وفضل لا حد له لأهل الهمم العالية.

وإن كان الدعاء قد كثر في شهر رمضان غير أن الله يستجيب دعاء من دعاه في أي زمان وأي مكان متي استجمع شروطه. وانتفت عنه موانعه، يقول السميع العليم سبحانه: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]. عن أبي أمامة الباهلي قال: قيل يارسول الله، أي الدعاء أسمع؟ قال: { جوف الليل الآخر وأدبار الصلوات المكتوبات } [رواه الترمذي].

والزكاة فريضة ليست مربوطة برمضان. بل مدارها على انقضاء الحول فمتى حال الحول على مال بلغ النصاب وجبت زكاته سواء كان في رمضان أو في غيره.

والصدقة قربة تطفيء الخطيئة وتنمي المال دائماً وأبداً [ ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً. ويقول الآخر اللهم أعط ممسكاً تلفاً } فلا تحصر صدقاتك في رمضان وتحرم نفسك من الأجر بقية العام.

ومتى كنا جادين في دعوانا يسرنا لليسرى. وفتح لنا من أبواب الخير ما لم نحسب له حساباً، حتى نكون - إن شاء الله - من الذين عناهم المولى بقوله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:16].

 

الوقفة الثانية: زكاة الفطر

 

عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: { فرض رسول الله زكاة الفطر: صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، عن كل عبد أو حر، صغير أو كبير } [رواه البخاري ومسلم].

وفي رواية للبخاري: { فرض رسول الله زكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة }.

وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: { فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أدها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات } [رواه أبو داود بسند حسن].

ماذا نستخلص من أحاديث زكاة الفطر:

1) أنها فرض واجب، لا خيار ولا عذر في تركها.

2) أنها تجب على المسلمين جميعاً، أغنياء وفقراء، سادة وعبيداً، ذكوراً وإناثاً، صغاراً وكباراً، إلا الحمل فإنها تستحب عنه ولا تجب، جاء في حديث عبدالله بن ثعلبة ( أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى ) [رواه أبوداود بسند حسن].

3) أنها طعام، فلا تخرج النقود، لأنه نص على الطعام.

4) أن مقدارها صاع، والصاع كما قدر العلماء 2،25 كغم.

5) أنها تخرج من غالب قوت البلد، ففي الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله { من قمح أوسواه، أوصاع من طعام }.

6) أنها تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة، ولا يجوز تأخيرها عن ذلك لأنه قال: { ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات }. وأجاز العلماء تقديمها قبل العيد بيوم أو يومين.

7) الذي يفعله بعض الناس من وضع زكواتهم أمام باب المسجد من غير أن يفوضوا أحداً بتوزيعها خطأ بين. وأخشى ألا تبرأ ذمتهم بهذا العمل، لأنه لابد أن يتولي توزيعها بنفسه. أو يوكل من يثق به في توزيعها. أما وضعها أمام المسجد والانصراف من غير توكيل فهو خطأ قد لا تبرأ به الذمة.

8) وما يفعله بعض الناس من إخراج زكاة الفطر إلى الجيران يوم العيد مع عدم تسليمها للفقير إلا بعد يومين أوثلاثة، إنتظاراً لمن جرت العادة إعطاءه إياها فخطأ. بل إما تذهب له بهذه الزكاة، أو تعطيها من حضر من الفقراء.

9) تتولى بعض الجمعيات والهيئات الخيرية توزيع زكاة الفطر عنك. وتقبلها في وقتها الشرعي أو قبله بقليل فلا بأس من إعطائهم الزكاة ليتولوا بمعرفتهم توزيعها بعد توكيلهم، أو إعطائهم قيمتها بالشراء والتوزيع نيابة عنك.

 

الوقفة الثالثة: أعمال يوم العيد

 

التكبير المطلق: يقول الله تعالى وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وفي البخاري من حديث أم عطية رضي الله عنها: ( فيكبرون بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم ). وأخرج الدارقطني وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما ( أنه كان إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى ثم يكبر حتى يأتي الإمام ). وقال ابن أبي موسى: ( يكبر الناس في خروجهم من منازلهم لصلاتي العيدين جهراً، حتى يأتي الإمام المصلى فيكبر الناس بتكبيره في خطبته، وينصتون فيما سوى ذلك، وعليه عمل الناس ).

وصفة التكبير: كما روى الدارقطني وغيره عن جابر مرفوعاً: ( الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد ).

أكله قبل الخروج لصلاة العيد: عن بريدة قال: ( كان النبي لا يخرج حتى يفطر، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي ) [رواه أحمد والترمذي والحاكم بنحوه].

وفي الصحيح عن أنس قال: ( كان النبي لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلها وتراً ) [رواه البخاري].

خروج النساء للصلاة: عن أم عطية رضي الله عنها قالت: ( كنا نؤمر أن نَخرُج يوم العيد حتى تخرج البكر من خدرها، حتى نُخُرج الحّيض، فيكبرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته ) وفي رواية، قالت: ( أمرنا رسول الله أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق، والحيض، وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب؟ ) قال: { لتلبسها أختها من جلبابها } [رواه البخاري].

مخالفة الطريق: روى البخاري عن النبي ( كان إذا خرج إلى العيد خالف الطريق ). ورواه الترمذي وغيره بلفظ: ( إذا خرج من طريق رجع في غيره )، ورواه مسلم من حديث أبي هريرة.

ولعل الحكمة في ذلك - والله أعلم - شهادة الطريق، أو سرورها بمروره أو نيل بركته، أو ليظهر شعائر الإسلام في سائر الفجاج والطرق أو ليغيض المنافقين برؤيتهم عزة الإسلام وأهله وقيام شعائره، أو للتفاؤل بتغيير الحال إلى المغفرة والرضا ونحو ذلك، أو للصدقة على فقرائها. قال ابن القيم رحمه الله: ( والصحيح أنه لذلك كله، ولغيره من الحكم التي لا يخلو فعله منها... ).

لا صلاة قبل العيد: عن ثعلبة بن زهدم، أن علياً استخلف أبا مسعود الأنصاري على الناس، فخرج يوم عيد فقال: ( يأيها الناس، إنه ليس من السنة أن يصلى قبل أن يصلي الإمام ) [رواه النسائي بسند صحيح].

 

الوقفة الرابعة: صيام ست أيام من شوال

 

روى مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري عن النبي قال: { من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر }.

 

ما حكمة الصيام في هذا الشهر

 

1 - صيام الست كالنافلة مع الفريضة: تجبر ما ثلم، وتكمل ما نقص.

2 - هو دليل على عدم السآمة من رمضان، والاستعداد لمواصلة الطاعة.

3 - مواصلة الطاعة علامة على قبول ما قبلها؛ حيث الحسنة تقول: أختي، أختي، والسيئة مثل ذلك.

4 - صيام رمضان سبب للمغفرة بإذن الله وصيام ست من شوال شكر على هذه النعمة.

س: لماذا تعدل صيام الدهر؟

روى سعيد عن ثوبان مرفوعاً: ( من صام رمضان، شهر بعشرة، وصام ستة أيام بعد الفطر، وذلك سنة )؛ يعني أن الحسنة بعشر أمثالها، كما جاء مفسراً في رواية سندها حسن ( صيام رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام من شوال بشهرين، فذلك صيام السنة ) أي: مثل صيامها، والمراد التشبيه في حصول العبادة به على وجه لا مشقة فيه.

س:هل يلزم التتابع في صيام هذه الأيام الست؟

استحبه الشافعي وغيره، وهو ظاهر كلام الخرقي وغيره من الحنابلة، ولكن هذا التتابع غير لازم، بل يحصل فضلها متتابعة ومفرقة، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد، وقال: في أول الشهر وآخره؛ لظاهر الخبر.