مفاتيح النفوس

الناقل : mahmoud | المصدر : www.yaqin.net

مقدمة:
النفس البشرية قُفل مُغلق، له مالا يُحصى من المفاتيح، لكن مفاتيحه الكبرى ثلاثة : الكلمة الطيبة، والمعاملة الحسنة، والتواضع للناس، ومغاليقه الكبرى ثلاثة : الكلام الجارح، والجفاء الطويل، والأنانية. وهناك نفوس "مغلقة" وعلى أقفالها صدأ بحاجة إلى زيت لتلين كما هي بحاجة إلى إعادة فتح عن طريق خبير بالنفوس قد يلجأ إلى تفكيك القفل نفسه "بحل" بعض البراغي وإعادة تركيبها أو تبديلها أو تغيير "نابض" القفل الصدئ بنابض جديد أكثر تفاعلاً وأكثر إيجابية.
1-مفاتيح الخير : في الدعوات المأثورة نردد كل يوم : "اللهم اجعلنا مفاتيح خير مغاليق شر" وهي دعوة غاية في الدقة وآية في الإبداع والرجاء، ولكن بعض من يرددونها لا يفقهون أسرارها، مع أنهم يدركون أنهم يرفعونها إلى الخالق جل جلاله.

فمن أسرارها أنك تسأل الله أن يسخرك لفتح قلوب العباد بما يودعه فيك من قدرة على تحصيل المرغوب، وحسن استخدام مفاتيح القلوب، وهي كثيرة ومتنوعة، ولكن أقربها إلى وظائف المزلاج (passe par tout ) هي ثلاثة مفاتيح من ملكها أمسك الحكمة من ناصيتها ومن فقد إحداها فقد ثلث الحكمة، فإذا ضيع اثنتين أضاع ثلثي الحكمة، فإذا فقدها جميعا كان عاريا من الحكمة ودخل -والعياذ بالله-في منطق الفظ الغليظ القلب، وهي :
- الكلمة الطيبة : التي من معانيها مراعاة طبائع الناس وأحوالهم وأحاسيسهم ومشاعرهم وعواطفهم.. وتقدير ظروفهم ومواقعهم ومنازلهم ومراتبهم.. بانتقاء أجمل الكلمات وألطف العبارات، بل واصطفاء الألفاظ التي لها وقعها الإيجابي على النفس البشرية حتى لو كان الذي تخاطبه خصما لك أو يعرض عليك رأي مخالفا : "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن".
فوقع الكلمات الطيبة على النفوس الجافة كوقع الأمطار على الأرض العطشى يجلعها تهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج، ولذلك كان الاعتذار من أعظم مفاتيح القلوب، كما كان الاعتراف بالخطأ وطلب الصفح والعفو والتجاوز.. من أعظم ما يصيب "بورصات" الشيطان بالإفلاس الكامل ويفتح في النفوس آفاقا واسعة للحب والأخوة والتعاطي بروح جديد.

والأمثلة أكثر من أن يحصيها عد في تاريخنا الدعوي الطويل، فقد حلت كلمة : "أخ كريم وابن أخ كريم" معضلة "تصفية" من ناصبوا رسول الله (ص) العداوة عشرين عاما بإصداره (ص) القرار التاريخي العظيم بالعفو الشامل على كل من التمس منه العفو والصفح فخاطب الجميع قائلا : "اذهبوا فأنتهم الطلقاء"، ومع أنهم تسببوا -بعد أقل من عام واحد - في اضطراب الصف الإسلامي يوم حنين إلاّ أن الكلمة الطيبة كانت ولا زالت وستظل صدقة لا يليق بمنفق أن يبطلها بالمن.

وكذلك فعل يوسف (ع) بإخوته الذين كادوا له صغيرًا، واتهموه بنعوت باطلة، بما يشبه الغمز واللمز : "إن يسرق فقد سرق له أخ من قبل" فكظم غيظه وأسرّ كل ذلك في نفسه، فلما حانت ساعة الحسم، وبان الخليط.. طرق إخوته على قلبه بمفتاح : "تالله، لقد آثرك الله علينا. وإن كنا لخاطئين" فردوا هذه الأثرة إلى الله تعالى واعترفوا بسلسلة أخطائهم أمامه، فانشرح صدره، وجاءهم الرد سريعا مطمئنا وطاويا لصفحة الماضي وفاتحا لصفحة جديدة مشرقة : "لا تثريب عليكم اليوم. يغفر الله لكم.." هكذا بكلمة طيبة بعد اعتذار لطيف طُويت صفحة الماضي : "اذهبوا بقميصي هذا.." وهكذا فتح الله صفحة المستقبل : "وآتوني بأهلكم أجمعين" وبهذه الكلمات شرع الجميع في فتح صفحة جديدة -بعد طول خصام، ونزاع، وحقد، وتآمر، وفرقة، وبكاء، وتقطيع أرحام- وحلت الكلمات الطيبة كل مشكلات الماضي، بما فيها ما كانت تظهره النفوس، "وغسلت" القلوب من أدرانها وجردت النفوس من حظوظها والتأم شمل الإخوان : "وأتوني بأهلكم أجمعين" دون أن تتركوا فردًا واحدًا خارج الصف.. فهم "أهلكم" ولابد أن يستفيدوا أجمعين. بعد أن نزغ الشيطان بين الإخوان وتسبب في تمزيق شمل الأسرة الواحدة.

-المعاملة الحسنة : هذا هو المفتاح الثاني لمغاليق القلوب، وهو مفتاح يحتاج صاحبه إلى مهارتين:
• مهارة التضحية والإيثار ونكران الذات..
• ومهارة الصبر على من يرميك بالحجر فترميه بأطيب الثمر
فإذا أتقنت هاتين المهارتين اكتسبت سحر المعاملة وامتلكت عروش القلوب كما قال الشاعر
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم * فلطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ

فإذا لم تكن ممن يستفيدون بالحكمة -التي هي ضالة المؤمن-من أفواه الشعراء، والوعاظ، والخطباء والمتحدثين.. فإني أحيلك على المصدرين الثرّين اللذين لا يأتيهما الباطل من بين أيديهما ولا من خلفهما : كتاب الله تعالى وسنة رسوله (ص).

فالقرآن الكريم يأمرنا أن ندفع بالتي هي أحسن ويضمن لنا -إذا صار الدفع بالحسن خلقا لنا-أن يتحول ما بيننا وبين خصومنا من "عداوات" إلى ولاء ونصرة.. أي أن الله تعالى أمرك بأن تخطو خطوة إيجابية نحو المطلوب، أنت تملكها وتقدر على استخدامها بشكل إيجابي، وهي أن تدفع من يخاصمك أو يعاديك بما تملك من سلوكات طيبة، ومعاملات حسنة، وتصرفات إيجابية (بهدوء ورصانة وبرودة أعصاب) ليضمن لك الله تعالى المرغوب، وهو مالا تملكه ومالا تقدر عليه، وهو فتح قلوب الناس إليك لتتربع على عرش القلوب ويصبح كل من كان يناصبك الخصومة والعداوة نصيرًا لك بل وليّ حميم : "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" واشترط المولى تبارك وتعالى عليك شرطين لتحقيق هذه الثمرات القرآنية الآسرة :
• الصبر والاحتساب، فما كل إنسان يملك أن يرد الشر بالخير، ويقابل الإساءة بالإحسان، وقطع الأرحام بوصلها.. وهكذا
• الحظ العظيم الذي يحصل عليه صاحبه بعرض نفسه على نفحات الخير وبركات الالتزام بأوامر الله ونواهيه واحتساب الأجر والثواب عند الله.

وفي القرآن الكريم عشرات المواقف الدالة على سلامة عواقب استخدام هذا المفتاح وضمان نتائجه الإيجابية 100% فيما يشبه فعل الشرط وجوابه : إذا فعلت كذا أعطاك الله كذا، وإذا عاملت - ولو قطا أو كلبا أو طائرا - بكذا كان الثواب كذا في الدنيا قبل الآخرة.

أما السنة النبوية الشريفة فزاخرة بهذه الدروس التربوية إلى درجة القول : إن محمدًا (ص) قد كسب قلوب الناس بمعاملاته قبل أن يكسبهم ببلاغته وحسن بيانه، وما ظنك أنت برجل جاء ليقتل رسول الله (ص) ولما سقط السيف من يده تناوله رسول الله (ص) وقال له : "ما يمنعني من قتلك؟" قال حلمك يا محمد، فقال له : "اذهب فقد عفوت عنك" !؟
وما هو تعليقك على قصة السبايا اللاتي كانت من بينهن كريمة حاتم الطائي، فأطلق الرسول (ص) سراحها وعاملها معاملة "تفضيلية" وقال لمن حوله :"إنها ابنة رجل كان يحب مكارم الأخلاق" فكانت هذه المعاملة السامية سببا في إسلام أخيها عدي بن حاتم (رضي الله عنه) وكان نصرانيا، وهو من نزل في حقه قوله تعالى : "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله".

وهل أتاك حديث تعامله (ص) مع أبي سفيان وزوجه هند -مع كل الذي فعلاه في الإسلام والمسلمين وفي عمه حمزة أسد الله - إلى أن صار أبو سفيان صحابيا (رضي الله عنه).. وإني لقادر أن أثبت لك ثلاث حقائق كلها من صناعة حسن المعاملة ومن ثمرات الدفع بالتي هي أحسن، وهي :
• أن الخصام، مهما تشعّب، تنهيه حسن المعاملة
• وأن جفاء النفوس وجفاف العواطف تسقيهما قطرات حسن المعاملة
• وأن اشتعال نيران الحقد والحسد تطفؤهما مياه حسن المعاملة
ولعله من أجل هذا شرع الله الزكوات وسن الصدقات ليطفي بالأولى غضبه وبالثانية نيران أحقاد الفقراء على الأغنياء وكراهية المحرومين للموسرين، وصدق الله العظيم القائل، "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها..".
• تطهرهم من شح البخل فيشكرون نعم الله بالإنفاق
• وتزكي معاملاتهم أمام من لا زكاة لهم فتطيب النفوس وتطمئن القلوب ويتخلص المجتمع من "ديا لتيك" الصراع الطبقي القائم على نظرة الذئاب إلى قطعان الغنم والمعز.

-التواضع للناس : لا أعرف -في كل قراءاتي ومعاملاتي مع الناس - أن متكبرا واحدا صنع قدوة أو أثر إيجابيا في قناعات العباد، ومع أن الناس يعتقدون أن المتكبر شديد، أو عظيم، أو مخيف ومرهوب الجانب.. إلاّ أن الواقع عكس ذلك تماما، فالمتكبر ضعيف (يخفي ضعفه وراء انتفاشه الفارغ) وتافه (يريد أن يخفي تفهه على الناس باصطناع العظمة) وليست له رهبة ولا يخافه حتى الجبناء لأنهم يعرفون أن "عظمة الظاهر" تستر تحتها الهزال والضعف والانهزامية..

فالقوة في التواضع، والقدرة الحقيقية تكمن في العفو بعد المقدرة، وما تحدث القرآن الكريم عن متكبر إلاّ بألفاظ الإدانة والسخط والوعيد بالويل وسواد ليل المستكبرين.. وما ساق أحاديث عن المتواضعين إلاّ زينة بمعاني جميلة آسرة مالكة للنفوس جامعة للقلوب تنشر جناحها على القائمين والقاعدين والذاكرين الله "قياما وقعودًا وعلى جنوبهم".

وما أورف ظلال كلمة "خفض الجناح" التي دعانا ربنا تبارك وتعالى أن نخفضه للمؤمنين، وللوالدين والأقربين.. بل أن "نجنح" للسلم إذا "جنح" لها الخصوم والأعداء بغيرما هوان ولا ذلة ولا انكسار، ولذلك جاءت دعوة "خفض الجناح" مؤكدة لهذه المعاني :
• فهناك دعوة إلى خفض الجناح للوالدين : "واخفض لهما جناح الذل من الرحمة"، ومعناها: أن الأبناء والبنات مطلوب منهم أن "يبسطوا" أجنحة الرعاية والعواطف والاهتمام والحب.. الخ، على "عش" الوالدين إذا تقدمت بأحدهما أو بكليهما السن وصار عاجزًا عن التكيف مع العظم الواهن والشيب المشتعل.. وصاروا ضعفاء كما كانوا أول مرة، يومئذ يقع على كاهل الأبناء والبنات "واجب" خفض الجناح لتشع الرحمة في البيوت وتنزل بركات السماء على الأرض فتعم الرحمة الناس : "وأخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب أرحمهما كما ربياني صغيرا".
• وهناك دعوة إلى خفض الجناح موجهة إلى المؤمنين ليتخافضوا الأجنحة لبعضهم، ويضيقوا بذلك المسالك على شياطين الإنس والجن : "وأخفض جناحك للمؤمنين.." وفي آية أخرى اشترط الله خفض الجناح للأتباع والأنصار والأولياء من المؤمنين لينبه المخالفين إلى هذه النعمة التي حرموا أنفسهم منها بالابتعاد عن الصف، أو بمحاولات رفض الأتباع الذي يعني -فيما يعنيه- لزوم الجماعة والاعتصام بالسمع والطاعة وخفض الجناح تواضعا والتزاما: "واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين".

يهمني هنا أن أسجل بوضوح أن مفتاح التواضع للناس (إذا لم يكونوا من المبالغين في التكبر) هو المفتاح السحري الذي يفتح به الله تعالى مغالق القلوب، ويهز به سواكن النفوس، ويزرع به الألفة والتودد والتحابب بين أهل التواضع والتبسّط..

هذا في إطار المعاملات العامة بين الناس، فإذا اتجه الأمر إلى أهل الإيمان كان التواضع عبادة وقربى إلى الله تعالى، فما بالك إذا تواضع المسلم لأخيه المسلم، فكان تواضعا لله : "من تواضع لله رفعه"؟ !
لقد انبهرت البشرية -على مدار التاريخ كله- بمن قاد الناس بالتواضع، فأمسك بزمام قلوبهم وقادهم بالحب إلى شواطئ الخير والاستقرار والأمان، وما زالت البشرية كلها تحتفل بتلكم الرموز المتواضعة وتحاول اقتفاء أثارها والنسج على منوالها، وما عرفنا البشرية تحتفل بالطغاة والمتجبرين والمستكبرين في الأرض، واكتناز قارون.. فنهايتهما الغرق والخسف.. وبعدا للقوم الظالمين.

الخلاصة : هل أنت بحاجة إلى حديث عن مغاليق الشر؟ وهل تحس أن امتلاكك للمفاتيح الثلاثة لفتح أبواب الخير لا تكون كاملة إلاّ إذا امتلكت معها أخواتها الثلاث من مغاليق الشر؟

إذا كان الأمر كذلك فموعدنا الأسبوع المقبل -إن شاء الله - مع حلقة ثانية تتحدث عن عواقب الكلام الجارح، والجفاء الطويل، وادعاء الخيرية (الأنانية) التي قلنا دائما إن أستاذ كرسيها الأول هو إبليس اللعين الذي أعلن -قبل ملايين السنين- أن النار خير من الطين وأنه (عليه اللعنة) خير من أبينا آدم (عليه السلام