مهمّــة نبيلـــة
فعمر الإنسان قصير جدّا ومهمّ جدّا وجميل جدّا، والحياة رحلـة لطيفة جميلة بحلوها ومرّها، وقد استخلفنا الله فيها لنعمّر الأرض، ونسخّر كل ما في الكون والطبيعة، ونبني الحضارة وننشر رسالة الإصلاح والخير، ونمدّ جسورا للتّعاون والتّعارف مع الآخر. قال تعالى: "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم".(13-الحجرات) ينبغي أن نكسب ثقافة الأمل وصناعة الحياة، واستغراق جلّ أوقاتنا فيما يعود علينا وعلى البلاد والعباد بالخير والبركات. ?تعميق الوعـي المتسائـل باستعمال المخيّلة والفكـر وطرح الأسئلـة، فالإنسان من حقّـه أن يسأل وأن يتساءل لأنّ القلق المعرفي المسكون بالسؤال مشروع وإيجابي، فهو المحرّك الحيوي للثقافـة التي تعيد قراءة ذاتها، وتخلق السّؤال من رحم الجواب. فالمفكّـر المتأمّل الباحث، يحمل همّ السؤال قبل همّ الجواب. إنّ العقل العربي مطالب اليوم بتقديم أجوبة جديـدة لما يطرحه عليه الرّاهن من أسئلـة. لابدّ من إحيـاء فريضـة التفكير في حياتنا ولابـدّ من اعتماد النّقد واستعمال النّظـر كفعالية ديناميكيـة لاستئناف التساؤل، لأنّ التساؤل يستبطن بالضرورة الرّغبة في التغيير. ولايمكن أن يتملّكنا الخوفُ على ثقافتنا وهي تمارس النّقد على ذاتها، لأنّها في جوهرها تمتلك من المتانـة والقدرة ما يؤهلها على الصّمود واستيعاب الجديد. ولعلّ من الأسئلة الجديرة بالطرح في عالمنا اليوم على المستوى الفردي، لماذا لم أرتقِ إلى المستوى المطلوب؟ وعلى المستوى الجماعـي؟ لماذا تأخّر المسلمـون وتقدّم غيرهم؟ وليس من باب جلد الذات أطرح مثل هذه الأسئلة ولكن رغبة في التّّغيير والتّطوير. ?ســرّ تقدّمهــم فالإنسان الغربي لا يختلف على بقيّة البشر من الناحية البيولوجيـة، غير أنه فتح عقله على عيوبه فراح يتخلّص منها، وفتح عقله على إمكاناته وراح يستثمرها بالقدر الذي يستطيع، وأدرك اليابانيون وكثير من الآسياويين نفس ما أدركه الإنسان الغربي فصنعوا ما نعرف جميعا.إنّ قدرات أيّ أمّـة تكمن فيما تمتلكه من طاقات بشرية مؤهّلة ومدرّبة، وقـادرة على التكيّف والتّعامل مع أي جديد بكفاءة وفعالية. وما تجربة دول جنوب شرق آسيا منّا ببعيد، فسـرّ نهضتهم ونموّهم وتقدّمهم يكمن أوّلا وقبل كل شيء في عقول أبنائهم وسواعدهم الفتيّة. وللّحاق بالرّكب لابدّ من إعطاء أهميّـة وشأن للعلم والمعرفة، وفهم قوانين الحياة ومعرفـة سنن التغييـر في الأنفس والآفاق. وإذا كان التّحدّي المطـروح اليوم كيف نؤسّس لتنمية شاملـة التي هدفها الإنسان؟ فإنّ التحدّي الأكبر كيف نصنع الإنسـان؟ لأنّ البشر هم الثروة الحقيقية لأيّ أمّـة. في حين أصبح مفهوم التنمية مرتبطـا بجودة حياة البشر، والاستثمـار في الإنسـان. فماذا فعلنا نحن في هذا الاتجـاه كأفراد وأُسَـر وجماعات، كمجتمعات ودول وكأمة؟ ماذا دهى أنظمتنا التربوية والاجتماعية؟ أين الجهد الذي تبذله النّخب المثقّفـة؟ وامتثالا للمقولة الإيجابية: "عوض أن تلعن الظلام أوقد شمعـة"، وفي هذا الإطار أقدّم هذا الجهد المتواضع عسى أن يكون لبِنة ومساهمـة جادّة، رغبة في استنهاض الهمم وبعث الأمل والإقناع بضرورة الاهتمام ببناء وصناعة الإنسان. ?موروثنـا الثّقافــي زاخـر وافـر وغنـيّ كم هو جميل أن نغوص في أعماق موروثنا الثقافي والحضاري الزّاخر بالأمجاد والغنيّ بالمآثـر والبطولات، لنستخرج منه اللآلئ والجواهر والدّرر. وكم هو رائع أن نقتفي أثر سلفنا الصالح إذ لا يصلح آخر هذه الأمـّة إلاّ بما صلح به أوّلهـا، وأن نقوم بما يجب القيام به وأكثر. أمّا الجمـود والتحجّر والوقوف على الأطلال، والتغنّي بالأمجـاد والافتخار بها والاستغراق فـي الماضوية، فلسنا معنيين به بالقدر الذي نحن معنيون بصناعة أمجاد جديدة وصفحات مشرقـة أخرى ترتقي إلى ما يتطلّبـه ديننا الحنيف من رفعة وسموّ من جهـة، وما تتطلّبه تحدّيات العصر على مختلف الأصعدة من جهة أخرى. إنّنا لا نريد أن نبقى أسيري تمجيد وتقديس لحظة الماضي وكأنّ مجدنا الرّمزي فعلا منجزا منتهيا، وامتلاك الحقيقة حكرا على الأوّلين دون الآخرين، فالزمن لم يتوقف والعجلة تدور والفرصة التاريخيـة مفتوحة للجميع، والتاريـخ أصلا هو علم دراسة الماضي لتفسير الحاضر واستشراف المستقبل، فمن لا ماضي له لا حاضر له ولا مستقبل نعم هذا صحيح، لكن نحن معنيون ومسؤولـون عن اللحظة التاريخيـة التي نحن بصددها الآن.
قال الشاعــر الحكيـم: إنّ الفتى من يقول ها أنا ذا ? ليس الفتى من يقـول كان أبي وإذا كان ظاهر التاريخ إخبارا فإن باطنه نظر وتحقيق، واستخلاص عبر ودروس. قال تعالى: "تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت، ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يعملون" (141-البقرة) وفي سياق آخر قال تعالى: "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب"(111-يوسف)، وهكذا فالمتنوّر الواعي يتعلّم من ماضيـه ويعيش ويحيا حاضره، ويخطّط لمستقبله. ?خـذ للحيــاة سلاحهــا وبالتالي لابدّ أن تكون عندنا رغبة مُلحّة في النّجاح في الحياة، وأن نذهب إلى الأشياء، وأن نطرح أسئلة جديرة بالطرح، ونخرج إلى الواقع لنكاشفه ونلامسه ونضيف أشياء ونصنع أشياء جميلة، وأن نغير بلطف وبحب وحكمة دون عنف وتشنّج وانفعال، وإلحاق الأذى بالنّفس أو بالآخر. ينبغي أن تكون أصواتنا قويّـة، وأن نكون قادرين على تقديم خيارات صحيحـة وأفكـار ورؤى صائبة، ومبادرات ومشاريع عملية تُجسّد كإنجازات على الميدان. وقد ثبت في الأثر"المؤمن القويّ خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلّ خير." قال الشاعر: كـنْ قويّا إذا ما وددتَ حياة ? فالحياة، الحياة..للأقويــاء ?تجربــة حيـــاة فلنبادرْ ولنقلعْ عن الانتظـار والتسويف، وأن نهجر منطق الافتـراض ونظرية التآمر وتعليق أخطائنا وفشلنا على مشاجب الآخرين. قال الشاعر الحكيم: يعيب النـاس كلهـم الزمانـا ? ومـا لزماننا عيب سوانـا نعيب زمـاننا والعيب فينــا ? ولو نطق الزمان إذن هجانا أيْ بنيّ إنّ التغيير الحقيقي يحدث من داخل النفس البشرية لا من خارجها، فالبداية مع نفسك التي بين جنبيك تعرّف إليها أوّلا، أنهها عن غيّها، جاهدها، روّضها على اتّباع الحق. قال تعالى: "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه وكان أمره فرطا"(28-الكهف) أعرف الحق تعرف أهله. احْتذِ بأمثلة من جرّب، واستمع إلى ما خلّده السّابقون الصّالحون من أقوال فإنّها خلاصة أعمارهم وزبدة تجاربهـم. وافتح قلبك وعقلك إلى كل من يؤثّر فيك إيجابيا مادام شرع الله ميزانك. واستفِدْ ممّن لهم بصر بالحيـاة وخبرة بالناس واطّلاع على دقائق المجتمع. واقتربْ من كلّ من له همّة عاليـة ومروءة وعلم وتقوى وحكمة وفهم أصيل واعتدال، ولا تضيّع قوله ولا فعله. اجتهدْ في أن يكون لك أثر، فلكل إنسان وجود وأثر ووجوده لا يغني عن أثره، لكن أثره يدلّ على قيمة وجوده.وكن كالرّجال إذا سُئِل عنهم قيـل: "من هنا مرّوا وهذه آثارهم". فكمْ من شخص مغمور لم يكن شيئا مذكورا، وبرغبته الشديدة في النّجـاح وبإرادته القويّة، وبتوفيق الله أوّلا وقبل كل شيء له، استطاع أن يصبح رقما صعبا متميّزا عن أقرانه وأهل زمانه. فاعملْ وثابرْ واجتهدْ وتحرّ الإخلاص في كلّ ذلك، وتواضع للخلق يحبّوك، واحلم على مخطئهم يجلّوك، وابتسم عند الهزيمة إذْ ليس العيب في أن تفشل أو تسقط إنّما العيب أن لا تنهض، والنّجاح قريب جدا من المداوم على المحاولـة. وغاية كلّ إنسان عاقل واعي مثقّف ذو همّة طموح أن يكون: "رقما صعبا" وأن يصل إلى درجة الامتياز البشري، فكَنْهُ أي كنْ نفسك، وارفعْ زيف التكلّف والتصنّع عنك وستجدْ بداخلك إنسانا جديرا بالاحترام. إسْعَ لامتلاك الأدوات المهنية والفكرية والثقافية، أمّا الأمور اأخرى فشكلية. وماهو ممكن لغيرك فهو ممكن لك. قال تعالى: "فإذا عزمت فتوكّل على الله".(159-آل عمران). قال شاعر الحكمة أبو الطيب المتنبي : ولم أَرَ في عيوب النـّاس عيباً ? كنقص القـادرين على التّمام أيْ بنيّ قوِّ صلتك بالله، واكثرْ من ذكره بكرة وأصيلا، وردّدْ كثيرا هذا الدّعـاء: "اللّهم أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" ودعـاء: "اللّهم إنّي أسألك قلبا خاشعا، ولسانا ذاكرا، وبدنا على البلاء صابـرا".راقبْ مولاك في كل حركة وفي كل سكنة، في كل نيّة وفي كل قول أو فعل. قال ابن القيم رحمه الله: "لكل همّة وقفة". أي إذا هممتَ بأمر فانظرْ هل أنت قادر عليه أم لا؟ وهل هو خير أم شرّ؟ ثم هل هو لوجه الله، أم لغير وجه الله؟ وهل هو أمر تقوم به لوحدك، أم تحتاج فيـه إلى من يعينك؟ وليكن هذا ديْدَنُك في كل أمر تُقـدم عليه حتى تلقـى الله وأنت على ذلك، وإذا فعلتَ فابشرْ والزمْ. ولئن تخرج روحك من جسدك، خير لك من أن تقطع صلتك مع مولاك. وقـد ثبت في الحديث الشريف أن:" مثل الذي يذكر ربّه والذي لا يذكر ربّه كمثل الحيّ والميّت". هذه صورة عن نفسي وفيْض مشاعري، وحصاد ثقافتي، وثمرة تجاربي، وقد خبِرْتُ الحيـاة ككلّ إنسان حلوها ومرّها، وعرفتُ النّاس خيارهم وأشرارهم، قال الشاعـر الحكيـم: النّاس أخلاقهـم شتّى وإن جُبِلوا ? على تشابه أرواح وأجســـاد ليكنْ شعارك دائما عند معاشرة الخلق قوله تعالى: " ادفع بالتي هي أحسن"(96-المؤمنون)، وقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلّم: "وخالق الناس بخلق حسن" -رواه البخاري- وقال حسن صحيح. وارضَ بما قسّم الله لك تكن أغنى النّاس.
قال الشاعـر محمد مصطفى حمام(1):
علّمتنـي الحيـاة أن أتلقّــى * كل ألوانها رضا وقبـولا أنا راضٍ بكـلّ صنـف من النا * س لئيمـا ألفيتـه أو نبيـلا لست أخشــى مـن اللّئيـم أذاه * لا، ولن أسأل النبـيل فتيلا فسّـح الله في فـؤادي فـلا أر * ضى من الحبّ والوداد بديلا فـي فـؤادي لكـلّ ضيف مكـان * فكن الضّيف مؤنسا أو ثقيلا ضلّ من يحسب الرّضا عن هوان * أو يراه على النّفاق دليـلا فالرّضا نعمة من الله لـم يسـ * ـعد به في العباد إلاّ قليلا علّمتني الحياة أنّ لهـا طعمـ * مين، مُرّا وسائغا معسولا فتعـوّدت حالتيهـا قريـرا * وألِفْتُ التغييـر والتبديـلا أيّها النّاس كلّنـا شارب الكـأ * سين إن علقما وإن سلسبيلا