سألت صديق لي يوما، كم صفحة تقرأ في الشهر؟ قال: يمر الستة أشهر ولا أصافح فيها كتابا، إلا تصفح بعض الجرائد الأسبوعية أو النصف الشهرية؛ فتعجبت منه، فقلت: كيف وأنت خريج كلية ومدرس. قال : لا طاقة لي ولا أرغب في ذلك.
نعم هذا حال الطبقة الواعية المثقفة (عذرا ليس جميعهم) ، صاحبي يتصفح بعض الجرائد، هناك من لا ينظر حتى إلا الجرائد ولا تجدها في بيته، ومنهم همه فقط الأخبار الرياضية والفنية، والأغرب من هذا لا تجد في بيوت بعضهم كتابا أو كراسة للمطالعة، ومنهم من يقضي الساعات أمام التلستار من دون أن ينتفع بشيء سوى اللهو وقضاء الوقت من دون أن يشعر بقيمة هذا الوقت الثمين. (وسنأتي إن شاء الله إلى أسباب ذلك في وقت لاحق).
نحن أمة (اقرأ والقلم) أداتا العلم والمعرفة، بهما تكتشف المجاهيل وتبرز الحقائق وتنهض الأمم من رقاد، وتبعث فيها الروح من جديد، بهما تعرف أسرار الأنفس والكون، بهما تخترع الأدوات والآلات ، وبهما يتحقق نهضة الأمم، بهما إن كان معهما التقوى يسهل دخول الجنة، بهما تنال الدرجات والحسنات بعد الممات.....
علِم ذلك سلفنا الصالح وعدوها فريضة لقول الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم): (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)، وقوله: (اطلب العلم من المهد إلى اللحد)، لذا كانوا أئمة يقتدى بهم ، وكانوا من صناع المجد وبناة الحضارة بعلمهم وآثارهم. أما اليوم فقد عزفنا عن ذلك كله، وأهملنا (اقرأ والقلم) واشتغلنا بسفاسف الأمور وقشوره كأنها الحبل الوتين أو الشريان التاجي، الذي يتوقف عليها الحياة، بعيدا عن كل ومضة أمل ونهوض للفرد أو للأمة إلا من رحم ربك. وإن وجدَ من يملك هذا المشروع فعليه أن يبحث عن مجرة أخرى، أو فإن الثقوب السوداء موجودة تبتلع حتى الزمن.
أخي القارئ الكريم هذه نماذج تبين مدى حرص بعض علماء السلف الصالح ، في طلبهم للعلم حتى الممات، لعله يحرك فينا الحافز للتزود بالثقافات والعلوم المختلفة :
• لذة الإمام الشافعي، قال عن سهره في البحث عن العلوم:
سهري لتفتيح العلوم ألذ لي من وصل غانية وطيب عنــــاق
وتمايلي طربا لحل عويصة في الدرس أشهى من مدامة ساق
• مجالس عبدالله ابن المبارك:
قيل له: إذا أنت صليت لم لا تجلس معنا؟ قال: أجلس مع الصحابة والتابعين أنظر في كتبهم وآثارهم، فما أصنع معكم، إنكم تغتابون الناس.
• تأسف الرازي المفسر:
قال: " والله لأتأسف في الفوات عن الاشتغال بالعلم في وقت الأكل، فإن الوقت والزمان عزيز".
• حتى في الخلاء:
عن عبد الرحمن بن تيمية، قال عن أبيه:
" كان إذا الجد دخل الخلاء يقول لي: اقرأ في هذا الكتاب وارفع صوتك حتى أسمع".
• كنوز ابن الجوزي:
يقول عن نفسه: وإني أخبر عن حالي ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابا لم أره فكأني وقعت على كنز، فلو قلت أني قد طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر وأنا بعد في طلب الكتب فاستفدت بالنظر فيها ملاحظة سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعاداتهم وغرائب علوم لا يعرفها من لم يطالع.
• الواقدي وحفظه:
ذكر البغدادي في تاريخه: أنه كان للواقدي ستمائة قمطر كتب، وكان يقول: ما من أحد إلا وكتبه أكثر من حفظه، وحفظي أكثر من كتبي.
• السرخسي يؤلف وهو في السجن:
أملى السرخسي كتابه" المبسوط" نحو خمسة عشر مجلدا وهو في السجن، وكان محبوسا في البئر بسبب كلمة نصح بها الخاقان. وكان يملي من خاطره من غير مطالعة كتاب.
وقال عند فراغه من شرح العبادات: هذا آخر شرح العبادات بأوضح المعاني وأوجز العبارات، أملاه المحبوس عن الجمع والجماعات.
وقال في آخر شرح الإقرار: انتهى شرح الإقرار المشتمل من المعاني ما هو من الأسرار، أملاه المحبوس في حبس الأشرار.
وله كتاب كذلك في أصول الفقه، وشرح السير الكبير، أملاهما وهو في البئر.
• مجد الدين ابن الأثير ومرضه:
قال ابن خلكان:" وبلغني أنه صنف هذه الكتب في مدة العطلة (أي مرضه) فإنه تفرغ لها، وكان عنده جماعة يعينونه في الاختيار والكتابة"، وكان مرضه (الفالج) أبطل حركة أطرافه.
وهذه الكتب هي:
• جامع الأصول في أحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم). – النهاية في غريب الحديث. – أسد الغابة في معرفة الصحابة.
• ذاكرة أبو بكر الانباري:
قال أبو علي القالي: " كان أبو بكر الأنباري يحفظ فيما ذكر ثلاثمائة شاهد في القرآن الكريم". وقيل له: قد أكثر الناس من محفوظاتك، فكم تحفظ؟ قال: أحفظ ثلاثة عشر صندوقا. وقيل أنه كان يحفظ مئة وعشرين تفسيرا للقرآن بأسانيدها.
ومن تصانيفه: كتاب غريب الحديث في خمسة وأربعين ألف ورقة. وكان يعيد كل أسبوع عشر ة آلاف ورقة.
10- شراب المقدسي:
كان يقول: لمحبرة تجالسني نهــــــاري أحب إليّ من أنس الصديق
ورزمة كاغد في البيت عندي أعزّ إليّ من عدل الرقيـــق
ولطمة عالم في الخد مـنـــي ألذّ عليّ من شرب الرحيق.
11- حمام ابن النفيس:
دخل مرة الحمام ليغتسل، وبينما كان يغتسل خرج إلى مكان نزع وارتداء الملابس واستدعى بدوا ة وقلم وورق، وكتب مقالة في النبض إلى أن أنهاها، ثم عاد وكمّل حمامه. علما أ ن هذه المقالة كانت السبب في اكتشافه الدورة الدموية الصغرى.
12- أبو يوسف يستغل وقته وهو يحتضر:
لما مرض أبو يوسف (صاحب أبي حنيفة) جاءه أحد تلاميذه يزوره فلما جاءه وجده مغمي عليه، فلما أفاق قال له: ما تقول في مسألة ؟ قال التلميذ: وأنت في هذه الحالة ؟ قال الإمام : لا بأس بذلك، ندرس لعله ينجو به ناج.
• برنامج الإمام الطبري:
كان يكتب في كل يوم أربعين صفحة ولمدة أربعين سنة.
ذكر عنده دعاء وهو في موته فاستدعى محبره وصحيفة فكتبه، فقيل له: أتكتبه وأنت في هذه الحالة ؟ فقال: ينبغي للإنسان أن لا يدع طلب العلم حتى الممات.
• البيروني يحارب الجهل:
دخل عليه أحد أصحابه وهو يجود بنفسه، وضاق به صدره وقد بلغ من العمر ثمانية وسبعين سنة، فقال لصاحبه وهو في تلك الحالة : كيف قلت لي يوما في حساب الجدات الفاسدة في الميراث؟ فقال صاحبه مشفقا عليه، أفي هذه الحالة؟ فرد عليه البيروني: يا هذا أودّع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة ، خير من أن أودعها وأنا جاهل بها.
• أكل ونوم الإمام الجويني:
قال: أنا لا أنام ولا آكل عادة، وإنما أنام إذا غلبني النوم ليلا كان أو نهارا، وآكل إذا اشتهيت الطعام أي وقت كان.
• ابن عقيل وحرصه على الوقت:
كان يقول: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري ، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي، وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره. وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة.
• ابن مالك قبل وفاته:
جاءه ابنه في اليوم الذي مات فيه، ومعه ثمانية أبيات من الشعر، فطلب من ابنه أن يلقنه الأبيات الثمانية رغم مرضه، فحفظها قبل وفاته