بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد : يقف العقل المسلم اليوم على عتبة قرن جديد ، فإما أن يحسن الفهم و الوعي ويعدّ للدخول عدّته ، وللمعركة سلاحها ، وإما أن يتراجع ويتقهقر ويستسلم . لأن العقل المسلم منذ قرون عدة افتقد الكثير من أصول منهجه الإسلامي الصحيح ، وانحسر شهوده الحضاري ، وعجز عن التقويم و المراجعة ، ومعرفة أسباب القصور و الذهول ، والعجز والكسل ، وبين الشهادة على الناس ، والقيادة لهم ، والتحرك بينهم بمنهج السماء . مرحلة طويلة من التمزق و الضياع و التيه عاشتها أمتنا رغم كثرتها ولكن كما قال الشاعر : كُثرٌ ولكن لا اعتداد به حارت عقائدنا زاغت قواعدنا جمع ولكن بديد غير متسق أما الرؤوس فرأ ي غير متفق
إن هذا العجز ليس مبعثه ومأتاه فقر في الإمكانات المادية ، أو عوز في القيم و المبادئ ، بل هو أزمة فكرية ومشكلة عقلية ، نتجت عن عجز العقل المسلم المعاصر عن التعامل مع السنن الإلهية و القيم الإسلامية الأصيلة ، والانصهار في واقع متجدد متسارع يتطلب من المواكبة و المشاهدة والمعاصرة ، وإلا فإن عربات قطاره لن تنتظر أحدا . وسوف يجرفنا التيار ولن يكون ثمة فلك نوح . إذن فالمشكلة أولا وأخيرا هي في العقل المسلم ولكن لماذا التركيز على أهمية العقل ؟ فنقول :" إن الإسلام قد اهتم بالعقل اهتماما واضحا ، وجعله مناط التكليف ، وموضع تكريم الإنسان ، الذي به تتحقق إرادته فيكون أهلا لحمل الأمانة ، أمانة الخلافة في الأرض ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) وإعمارها كما أراد الله سبحانه وتعالى ، (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) ، ذلك أن العقل الموجه المدرب هو الذي يملك القدرة على بناء الحضارة بمستلزماتها المادية و العلمية و الثقافية و التصدي لمشكلات الحياة ومقوماتها ، والمتتبع لآيات القرآن الكريم يجدها قد عوّلت على العقل ونوّهت به ، وألحت على استخدامه ، والعمل به و الرجوع إليه، وتكرار الإشارات القرآنية الواضحة في هذا الشأن لا تدع مجالا للشك في أهمية العقل ومكانته ، فهو الدليل إلى معرفة عظمة الله في الأنفس والآفاق ، ولقد خُتمت كثير من آي الذكر الحكيم بمثل قوله تعالى: (أفلا تعقلون ) ، ( إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) . وغيرها ". ( ) ولما كانت حركة التاريخ حبلى بالتحديات فإنها تلزم المسلم في مرحلة جديدة أن يهيئ عقله الموصول بالوحي الأعلى ليشحذ الطاقات الكامنة ، ويستعيد قدرته الأبدية على التجدد والتطور و الإبداع ، وليست مرحلة الاستعداد هذه هي حشد القيم والمبادئ وأدبيات السلوك القويم التي دعا إليها الإسلام فحسب ، لأننا سوف نقع في الخطأ نفسه لو قلنا إن الحل يكمن في إعادة تشكيل العقل المسلم وما إلى هنالك من المقولات المكرورة عند متصدري الإصلاح والتغيير . إن التغيير الذاتي عملية شاملة تغطي المناحي السياسية و الثقافية والدعوية معتمدين في ذلك على سلم الأولويات ، فنبدأ بالمهم فالأهم فالأقل أهمية . وسوف تقتصر هذه المداخلة المتواضعة على أهم ملامح التغيير وفق أولويات تدخل ضمن التخطيط للمستقبل ، ولا يمكننا ذلك مالم نحدد هذه الأولويات
ونعمل على تحقيقها : 1 ـ أولويات العقل المسلم في الميدان السياسي : 1 ـ لقد وقر في المخيال الإسلامي أن الشورى هي الإطار العام للتداول السياسي ، فمن مستلزمات ذلك أن يتمتع المجتمع الإسلامي بحرية التكتل و التنظيم و" ومأسسة " العمل السياسي ، أي حرية تكوين الأحزاب وتكتلات المعارضة ومراكز البحث والتوجيه الفقهي السياسي . و الشيخ الغزالي يأسف للصراع الدامي الذي طبع الحياة السياسية في أواخر العصر الراشدي ، ويرى أن هناك مؤسسات للحكم وقوانين تضبطها ، وآليات تديرها ، ماحدث ذلك كله ، فيقول : " كثيرا ما وقعت المعارك الداخلية في تاريخنا الإسلامي ثم حدثت نفسي : ماذا لو أن النزاع بين علي ومعاوية بتّ فيه استفتاء شعبي بدلا من إراقة الدم ؟ ولو سلمنا أن الأسرة الأموية تمثل حزبا سياسيا له مبادئ معينة ، فماذا عليها لو تركت آل البيت يكونون حزبا آخر يصل إلى الحكم بانتخاب صحيح أو يحرم منه بانتخاب صحيح ؟ قال لي متعالم كبير : إن الانتخابات بدعة !قلت له : وسفك الدماء واستباحة الحرمة سنة؟" ( ). فتكوين الأحزاب إذا كان يسمح بالتداول السلمي للسلطة ويحقن دماء المسلمين أقرب إلى سنة الإسلام إذن . بل تكوين حزب أمر مشروع ، وله سوابق تاريخية في ظل الحضارة الإسلامية وهو مبدأ تقترب به الديمقراطية الغربية من الإسلام وليس العكس . لأن مبدأ الإمام المعصوم لا يجدي في عصر تسعى فيه الفلسفات المعاصرة إلى ترسيخ مبدأ (الأمة المعصومة ). إن الديمقراطية آلية للحكم وليست مبدأ له ، وهي أولا وأخيرا ، بضاعتنا ردّت إلينا ، لماذا نقبل التطور في ميدان الطب ونستورد منتجات الزراعة و الهندسة وغيرها ونستوحش من الديمقراطية . إن حياة الاستبداد الذي عاشته الأمة تاريخها الطويل وتراكمات القهر التاريخي الذي مارسه الحكام ، ونتيجة التراكم التربوي للتطبيع الاستبدادي هو سرُّ انحطاط المجتمعات المسلمة ، وانكماش حركة الدعوة الإسلامية " وطريقة الإسلام في إدارة دفة الحكم بالشورى هي التي جعلت الشعوب تفتح ذراعيها له"( ) .أما عندما ساد التسلط فقد فقدت حركة الدعوة جاذبيتها إلى حد بعيد ، كما تعطلت طاقات الأمة، وتبددت مواهبها بفعل ذلك المناخ الموبوء . ( ) ويجب أن نؤكد على حقيقة مهمة هنا وهي أن الهجمة الشرسة التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية على الأنظمة الحكم العربية ، تحت مسمى جميل وهو "الشرق الأوسط الكبير" وهو في حقيقته ترتيب للبيت العربي وفق فقه الأولويات الأمريكي ، وكل الدلائل تشير إلى أن أمريكا أخفقت في حساباتها ورقة الحكام العرب ، وصار تعاملها مع أنظمة الحكم في المنطقة لا تجدي نفعا ، فولّت وجهها قبل الشعوب تغازلها ، وتعدها بفردوس الديمقراطية الموعود ، ، والواقع أن المصالح الأمريكية في المنطقة أكبر بكثير من كونها مصالح بيننا وبينها تقاطع ليحقق كل واحد ما يبتغيه من الآخر . والسؤال المطروح هو : ما العمل اتجاه سياسة جديدة وهيمنة واسعة ، ماهي أولويات المرحلة القادمة في حسابات أصحاب المشروع الإسلامي البديل ؟ إن هذه المرحلة لم يعد من مظاهرها صراع بين أنظمة مستبدة ، وأحزاب معارضة تطرح بدائل وفق مرجعياتها التي تقترب حينا من مراكز القرار ، وتقصى أحيانا كثيرة ، وفقا لمزاج المهيمن وحسب رضاه .. أو حسب الضغوط التي يتعرض لها و التي تفرض عليه تطبيق المفهوم ،و التصويت على المعروض ، والتزام الإشارة . إن أولوية العقل المسلم الذكي أن يرسم جميع السناريوهات ، ويطرح البدائل الممكنة في ظل متغيرات متسارعة ....
2 ـ أولويات العقل المسلم في الميدان الفكري : إنه مع أجواء الحرية تفتح نوافذ العقل ، ويدخل هواء الإسلام النقي ، ويغدو العقل المسلم يشتغل بإمكاناته وقدرات الطبيعية مع استيعاب فكر الآخر وتجاربه ، وهذا سوف يضمن نجاح العمل و التخطيط والإعداد ، لأن الركون إلى القديم الموروث أو الغريب المجلوب يضعف قدرة العقل على الإبداع و العطاء . وفي تصوري أن الأولويات في أجندة العقل المسلم تتلخص في ما يلي : 1 ـ إن على العقل المسلم الجديد أن يأخذ بتلابيب الطاقة التي كشف عنها النقاب و القوانين العلمية التي تحيل الطاقة إلى حركة وفعل وتطبيق ونماء ، أن يمسك برقبة الزمن فيضيفه إلى المادة لتحقيق اللحاق بمسيرة الخصم العنيد ، والسبق عليه ، مادامت قيم هذا الدين تؤكد بإلحاح على فكرة الزمن ، وعلى أن المؤمن الحق هو الذي يعرف كيف يسارع ، وكيف يسبق !!. 2 ـ تدريب العقل المسلم على الموازنة و الترجيح ، والتتبع و التقصي ، مستلهما الواقع المعيش ، والبيئة المحيطة ، والأفكار المستجدة ، والأحوال الطارئة ، بعيدا عن التبعية الفكرية و العبودية الحضارية ، منقادا للمبادئ لا للأشخاص ، للفكرة لا للجماعة ، للمسميات لا للأسماء ، وكما قال علي رضي الله عنه : " لا تعرف الحق بالرجال ، وإنما اعرف الحق تعرف أهله " . 3 ـ إن على عقلاء الأمة الإسلامية ومفكريها العمل الجاد للاستفادة قدر الطاقة ، من جوانب العقلية العلمية و القوة المادية في الحضارة الغربية ، حتى تستعيد ماديا الحضارة الإسلامية والأمة الإسلامية الوسط توازنها وفاعليتها ، كما أن عليهم أن يديروا الحوار البناء مع الغرب لكسبه من الداخل ، بتقديم المفاهيم و المناهج الحضارية التوحيدية الروحية القيمية التي تنفع الغرب وتعينيه على تحقيق توازنه الإنساني الاجتماعي الحضاري الذي يكاد يفقده صحته الاجتماعية الروحية الإنسانية ، ويوشك أن يجر بذلك على نفسه وعلى الإنسانية جمعاء ألوانا من الفوضى و الفساد الاجتماعي و التسلط الإجرامي الاستعماري و الدمار المادي مما قد لا يخطر على بال ولا يعلم آثاره ونتائجه إلا الله وحده . ( ) 4 ـ إن الوقوف على الماضي وحده ، والتمسك به والادعاء زورا أن هذا هو الطريق الأسلم هو تحريف لمتهج الإسلام الذي يسعى إلى تحريك طاقات الإنسان ، والقضاء على السطحية في فهم النص و التعسف في التعامل معه . 5 ـ إن على كثير من الحركات الإسلامية اليوم أن تدرك أن أمامها تحديات أكبر من منازلة المعتزلة والأشاعرة والمرجئة و الشيعة والمتصوفة ، فما يحتاجه المسلم اليوم هو أن يعيش تحديات عصره لا أن تستعبده مقولات الماضي ومصطلحاته وحروبه ولجاجاته ، فتلك ظاهرة أضاعت على القوى الإسلامية الكثير من الوقت و الجهد " 0( ) إننا تجاوزنا منطق " الفرقة الناجية " ،وهو مفهوم لا شك يهدد الإسلام والحركات الإسلامية في الصميم ويجعل الحوار بين فصائلها متعسرا ، لأن منطق التنازع و التلاحي ليس هو الخطأ و الصواب ، الضار و النافع ، وإنما الحلال و الحرام ، الطاعة والمعصية ، الكفر والإيمان !، " وهو ـ لعمري ـ مظهر تخلف شنيع وحري بالمعالجة لصالح إدخال جرعة من النسبية في فكرنا الإسلامي فإن الأحكام الثابتة المجمع عليها لا تزيد نسبتها عن واحد في المائة ، وما تبقى فمجال للاجتهاد و الاختلاف و الحرية و الشورى ، وأيلولة الحسم فيه للرأي العام ومؤسساته العلمية و السياسية حتى يستيقن الجميع أن الفرقة الناجية هم كل المؤمنين بالله ورسوله و اليوم الآخر . " ( ) إننا في حاجة اليوم إلى استيعاب منطق جديد هو "منطق إنقاذ الأمة الهالكة " ونحن اليوم مكلفون جميعا لإنقاذ ها وهي المهددة في عقيدتها وشريعتها ومقدساتها وتقاليدها وحرمة أوطانها . لقد ولى عصر " الداعية الفرد " ، و التنظيم الحركي المنغلق ، ودخلنا عصر العمل المؤسساتي الجاد ، و النضال الجمعوي الراشد ،و التحرك المحسوب بدقة وشفافية ،ولن يتحقق ذلك مالم تستطع الحركات الإسلامية أن تضخ خيرة أبنائها ليساهموا في صياغة التوجه الصحيح ، بدل من حبسهم داخل أطر تنظيمية صرفة ، معزولة عن الحياة والأحياء . 6 ـ إن انتشار عقيدة إبطال الأسباب في الأمة قد أفضى بها إلى العجز وإلى التواكل ، مما جعل عطاءها يغيض ، وعقل أبنائها ينكمش ، وتقصر عن الإبداع ، فشاع التعامل مع الكون استهلاكا وتأثرا ، وليس إبداعا وتأثيرا ... الأمر الذي جرّ عواقب غير مرضية وأسهم بفعالية في إدخال الأمة إلى فترة جمود قد طالت . يقول د. عمر عبيد حسنة ـ وهو من ضمن من تفطن إلى خطورة هذه المسألة ، وصنفها من ضمن إصابات العقل المسلم : " تم التجانف و العدول في التعامل عن السنن الجارية واكتشاف قوانين التسخير ـ إذا أسقطت الأسباب ـ إلى السنن الخارقة ، وانتظار المنقذ القادم من الغيب ليعالج التخلف و التأخر ، والتمزق ..وفي هذا ما فيه من مجافاة العقل المسلم ، وللإنجاز الحضاري في عصر النبوة فترة القدوة لكنها إفرازات مناخ التخلف ، واجتهادات عصر التخلف " ( ). 7 ـ التخلي عن عقلية التقديس من غير حساب ، لأنه مع التقديس يكون التسليم المطلق بلا مناقشة أو تمحيص أو بحث ، إن تقدير التراث حين يكون شهادة من عقل واع يقظ ومنصف فهي شهادة حق ، أما التقديس بلا تمحيص و لا تمييز فهو شهاة من عقل ممسوخ مصاب بعمى الألوان ، لا يميز بين كلام الله وكلام البشر ، فهو أشبه بشهادة الزور سواء أكانت عن عمد أم عن جهل . 8 ـ إن طلاب العلوم الشرعية ـ وهم المفترض فيهم أن يكونوا أصحاب العقول الراجحة ـ لا بد لهم من الاتدماج الإيجابي في مجتمعهم و الخروج من العزلة الموهومة التي يضربونها على أنفسهم ، بل إن قطاعا عريضا منهم غدت علاقتهم بالمحيط من حولهم لا تتعدى الأمتار التي يقطعونها بين مبنى الجامعة وبين حافلات النقل التي تحملهم إلى أحياء الإقامة الجامعية ، ثم يقبعون في غرفهم ينظرون إلى المجتمع من علِ ، ويخططون لإصلاح عقيدته ، وتقويم سلوكه ، وضبط حركته على منهج السلف الصالحين . إن هذا المسلك المعوج في الطريق إلى الإصلاح و التغيير خلق النظرة القاتمة إلى دنيا الناس ، وعزل طوائف من شبابنا عن أمتهم ، وانحسر فكرهم في ( فقه الغرف) حيث يتبادل الفتيان ألقاب المشيخة و العالِمية بالمجان . وتصور معي كيف يتخرج الطلاب في الجامعة وهم مقطوعي الصلة بمجتمعهم فيصدمهم واقع مرير، وحياة حبلى بالأفكار و المذاهب و التيارات ..إن مثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يتفرج على الكواكب السيارة في مجراتها من ثقب إبرة !فهل تراه يفلح ؟! . 9 ـ إن حسن استغلال الطاقات المعطلة عند طلاب الجامعة يعد من أولويات العمل الرشيد في المرحلة المقبلة ، وأنا على يقين من أن طاقات طلابنا لا تزال غُفْلا كأنها معادن مرمية في مناجمها لم تستخرجها يدُ ، ولم يكتشفها صانع . وأمتنا اليوم أحوج ما تكون إلى تصنيع هذه المواد الخام ، وتحويلها إلى شُهُبٍ راصدة تلمع في إهاب الليل الحالك فتنير الدرب وتسطع في الأفق . ولن يتأتى ذلك إلا بترقية آليات التدافع ، في عصرٍ ذهب فيه منطق التدافع بعيدا ، وتفنن في طرائق الإلغاء والإقصاء ، واستطاع أرباب السطوة فيه أن يفرضوا أنموذج الحياة ، ونمط التفكير ، وقوالب العيش . و يتحكموا في حاضر الشعوب و غدها بكل ما يحمله هذا الغد من مفاجآت وتحديات . و الجامعة في تصوري هي القلعة المنيعة التي يجب أن يتكسر عندها الموج العاتي ، ويرتد الدخيل على أعقابه مذموما مدحورا . إن الجامعة ليست حضورا غائبا في مدرج ! ، ولا نوما عميقا في غرفة ، ولاطابورا طويلا على أبواب المطاعم .. إن الجامعة ملتقى الأفكار ، وساحة الإبداع ، ومغْرِسَ الآمال ، ومُختبر العزائم ، ومَنْجَم التربية السليمة ، والمواطنة الصالحة . وكم يشعر الإنسان بالأسى وهو يرمق مواكب الطلاب تغدو وتروح على مقاعد الدرس وعزائمهم مهدودة ، وقواهم خائرة ، وخَطْوُهم متثاقل ،(كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ). .. يرقبون نهاية الأسبوع ، ويحفظون مواعيد العطل ، ويستبشرون بالإضراب ، ويودّونه لو كان مفتوحا ..!. يجلسون إلى أساتذتهم ، فلا ترى في أعينهم بريق الأمل ، ولا تقرأ على صفحة وجوههم البِشر ، يسري في أوصالهم الفشل ، ويغرقون في أحلام اليقظة (وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ). ما السرُّ في هذا الاسترخاء المنكور.؟ إن سوء تقدير المواهب الكامنة ، و القدرات المهمّشة ، جعلت طلابنا يحيون حواشي وهوامش عل صفحة الحياة الجامعية المتوثبة . وفي تقديري أن طلاب العلوم الإسلامية قمينون بقيادة الركب، وجديرون ببعث نهضة ثقافية حرة في أوساط الطلاب . وذلك من خلال فتح الأبواب مشرعة أمام كل الأفكار والمشاركات و القناعات و التوجهات . وقد يبدو هذا الجهد في أول الطريق متعسر ا، ولكنه بالإخلاص ينمو مع الزمن ، ويشتد عوده ، وتعلو سوقه، ويؤتي أُكله كل حين بإذن ربه . 3 ـ أولويات العقل المسلم في الميدان الدعوي : 1 ـ لابد من النظر في مؤهلات الخطاب الديني ، وجعله خطابا مؤثرا في الجماهير تهتز له المشاعر ، وترتوي منه العقول ، وتتحرك به الجوارح . و السبيل إلى ذلك هو الخروج إلى الخطاب الديني العملي و الذي يكشف عن الطاقة الإيمانية ويحوّلها إلى طاقة حركية تُصنّع الإيمان المذخور إلى حركة وتنمية وعطاء ، لا بد من إيجاد عقل علمي وليس عقل عاطفي انفعالي ، عقل متطور يستوعب الدين والعلم ، ويكون بمقدوره أن يعطي للحياة مفهوما جديدا يؤثر تطورا ومشاركة وتأثيرا ، وسوف يضاهي بذلك العقل المسلم العقل الغربي ، بل سوف يتقدم عليه ، ويقوده ببعده الروحي ، ويقدم له أنماطا فاعلة من الأخلاق ومشاريع السياسة و الاقتصاد و المجتمع . 2 ـ لا شك أن الساحة الدعوية تعج اليوم بنماذج جديدة للدعاة الشباب الذين تغص بهم القنوات الفضائية ، ومواقع الأنترنيت ، وهم يودون أن يعرضوا الدين على غير ما ألفته جماهير المسلمين من المشايخ المعممين الرسميين منهم و الشعبيين ، تتفق مخايل الجد و العبوس على وجوههم مع ما يعرضون على الأسماع من محفوظات حول إنذار العصاة بالنار ، وتبشير الطائعين بفراديس الجنان . إن هذه الكوكبة من الدعاة الشباب الذين يتهكم البعض بوصفهم (وعاظ خمسة نجوم)، يجب أن نثمن دورهم الرائد في استقطاب شرائح عريضة من فتبان الأمة وفتياتها ،وتنشيطهم الحركة الإحيائية التي تشهدها الساحة اليوم مع تصاعد المد الإيماني وإقبال الناس على دين الله ، وآية ذلك المساجد العامرة ، و الكتاب الإسلامي المقروء ، والشريط الديني المتداول ، والأقراص المضغوطة المقتناة ... حتى فريضة الزكاة و التي كانت في يوم ما من الطابوهات التي يحضر الحديث عنها، هي اليوم مشروع شامل تتبناه الجهات الوصية في أجهزة السلطة وتعمل جهات رسمية على تطوير الآليات الممكنة لجمعها وتوزيعها في مصارفها..إننا نشد على أيدي هؤلاء الدعاة إلى الله لما لاقوه من قبول حسن في قلوب الناس وفي هذا دليل توفيق الله تعالى لمسعاهم . ولكن ينبغي أن ينأوا بخطابهم الموجه بعيدا عن إغراق الأمة في الفتاوى الهامشية التي تصد الناس عن القضايا المصيرية والتي تشغل واقع الناس ومستقبلهم . و الذين لا هم لهم إلا وضع العقبات و العوائق في طريق المصلحين ، ولاشغل لهم إلا أن يسلقوهم بألسنة حداد ، ويصفون بعضهم بأنهم دعاة ضلال على أبواب جهنم فهؤلاء نقول لهم ما قال العقاد : أيها العائب أفعال الورى لا تقل عن عمل ذا ناقص إن يغب عن عين سار قمر أرني بالله ماذا تفعل جئ بأوفى ثم قل ذا أكمل فحرام أن يلام المشعل
3 ـ وجوه البلاغ و الدعوة إلى الله متعددة ولكن أقربها إلى الشباب المثقف و المتنور و الحامل للمشروع المنقذ هو مخاطبة الناس عبر صحيفة جادة ، أو مجلة مرموقة أو نشرية هادفة ، ولكن الأسف يزيد والعجب يبلغ مداه عندما لا أرى لأصحاب الدعوة إلى الله مجلة واحدة تصدر بانتظام تعالج قضايا الأمة بمهنية قديرة على إبراز هموم المجتمع وانشغالاته وقضاياه ، وإن شئت فافتح مجلة من المجلات ذات التوجه الإسلامي ثم حاول من خلالها أن تتعرف على طبيعة البيئة و الظروف السياسية والاجتماعية للبلد الذي تصدر منه ، إنك ربما تعجز عن معرفة حتى بلد الصدور ، إذا لم تستعن بقراءة العناوين ، وإن حدثتك عن أطراف من الواقع فلن تتجاوز التنديد بالجوانب اللاأخلاقية في ذلك البلد كالعري و الفساد ، أما القضايا التي تتألم منها الجماهير ، وتعاني من ويلاتها بالعشي والإبكار :كقضايا البطالة ، والسكن ، والتسرب المدرسي ، والطفولة المسعفة ، والاستبداد الإداري، وسوء الخدمات الصحية و المواصلات ، وأوضاع المرأة فقد غدت من اختصاص الحركات اليسارية ، وغدا الحديث عنها في الأدبيات الإسلامية هرطقة وانحراف عن المنهج . يقول الشيخ الغزالي رحمه الله : " في ميدان الإعلام ـ أو بلسان الشرع في ميدان الدعوة ـ توجد مليارات من الناس سيئة العلم بالإسلام ، تفترسها شبهات وخرافات حول ديننا البريء فهلا أسهمتم في تبديدها ؟ . في ميدان المال والأعمال تكاد الأديان الأخرى ، تنفرد بزمام الحياة ، وتؤثر في تياراتها سلبا وإيجابا ، فهلا تحركتم لتمتلئ الأيدي بالشغل ، ولتختفي من بينكم البطالة ، وليكن لكم صوت مسموع ؟ . في ميدان العلم مدنيا كان أو عسكريا ، لا يعرف لنا وجود ، فهلا نافستم واستفدتم وأفدتم ؟ . في ميدان السياحة و الكشوف ، نقل المتحركون عقائدهم حيث ذهبوا فماذا حبسكم في أماكنكم؟ . في ميدان المساعدات و الخدمات الاجتماعية ، اجتهد كثيرون في تخفيف الآلام وتجفيف الدموع ، وكسبوا قلوبا تحفظ الجميل ، فأين أنتم ؟ . يؤسفني أن أقواما مولعين بالثرثرة وضعوا ملصقات سيئة على عقول الشباب بعد تجميدها بطريقة ما، ووجّهوهم للحماس الأجوف والاشتباكات القاتلة ، بدل أن يشغلوهم بالعمل الصالح الذي يفيد دينهم وأمتهم " . ( ) 4 ـ لابد أن يعود العقل المسلم إلى واقعه يدرس ويحلل أوضاعه ويتعرف على مشكلاته ، لا ليكون أسير ذلك الواقع وعبدا له يتخذه إماما وقائدا له يضغط على عقله وشعوره ، ويدفعه إلى اعتبار الأصل والإسلام تابعا ، كلا !فهذا الدين جاء ليقود الحياة ويكون للبشرية إماما وللحق و الباطل و الخير والشر ميزانا ، بل ليتخذ من ذلك الواقع منطلقه في الدعوة ، فيقدم الإسلام على أنه أنفع وأوفق حل لما يعيش في الواقع من مشكلات .. إن عقائد الإسلام وتعاليمه لن تقبلها الجماهير وتتحمس لها وتضحي من أجلها ما لم ترتبط بآمالها في حل مشكلاتها ، وإلا غدت دعوة الإسلام تجذيفا في الصحراء وضربا للحديد وهو بارد .. لابد أن نعيد إلى الواقع ثقله في الفكر الإسلامي حتى يكون هذا الفكر واقعيا، ولايكون وليدا لتأملات مجردة في النصوص ، بل يكون وليدا لتفاعل عميق بين الإسلام و الواقع المعيش الذي تعمل فيه الدعوة ، فيتولد من ذلك التفاعل فكر إسلامي مرتبط ببيئة محددة وظروف معينة . ( ) 5 ـ من أسس الانطلاق بالعمل الدعوي إلى عوالم أرحب على مشارف قرن جديد هو تنمية الطاقة الجمالية في نفوس الدعاة إلى الله ، وذلك عبر تحسيسهم بما احتلته الفنون من أهمية بالغة في عصر الصورة والألوان و الحركة ، إن الفنون على اختلافها أصبحت اليوم أداة الدعاية الحزبية و العقائدية و الفكرية ، إن هذه الوسيلة لا تزال معطلة في مشاريع الدعوة إلى الله ، بل لا يزال كثير من الدعاة يتحرجون من الحديث عن كثير من الفنون والآداب كالمسرح و السينما و الرسم والغناء و التصوير . ويختفون وراء حجب صفيقة من أعذار هي أقبح من ذنب . بل إن أحد أئمة المساجد قلت له يوما لماذا لا تحدث الناس في خطبة الجمعة عن الجمال في الكون ونحن في أول أيام الربيع ، حيث يحمل هذا الشهر إلى الناس كعادته رسالة الزهور ، وسرّ الحياة ، ويجعل الكون كله يسبح في فيض سماوي من النشوة و الغبطة والجمال ..! وتلفت المؤمنين إلى عظمة الخالق وبديع صنعه في هذا الكون الرحيب . فقال : أتريد أن يقول الناس إن الشيخ أصبح يدمن على مشاهدة (البارابول).!! إن هذا القصور المعيب حال دون تسخير هذه الفنون وتجذيرها في تراثنا وقيمنا ، حتى تغدوا سبلا ومحاريب لعبادة الله وتنمية الإحساس الجمالي لدى الجماهير وهو قرين الإيمان . إنه لا مناص من ذلك إذا أردنا لنور الإسلام أن يتسلل إلى القلوب ينيرها ويحركها مما ران عليها من غشاوة الانحراف المعاصر . ----------------------------
الأستاذ : نجيب بن خيرة قسم التاريخ / كلية الآداب و العلوم الإنسانية جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية / قسنطينة