الرّبا وآثاره الاقتصاديّة
د.عبد المجيد عبد الله دية أستاذ مساعد، كلية الشريعة جامعة الزرقاء الأهلية، الزرقاء - الأردن الملخّص القرآن معجز من كل الوجوه ومن هذه الوجوه الإعجاز التشريعي، فالقرآن جاء بتشريعات لإصلاح الفرد والمجتمع، ودفع المفاسد عنهم، ومن هذه التشريعات تحريم الربا.[1] إن القرآن الكريم قد حرّم الرّبا ومنع النّاس من التّعامل به، لما فيه من الظّلم وأكل أموال النّاس بالباطل، وهذا ما كان يدركه المسلمون في صدر الإسلام، وأمّا اليوم فإنّ العلماء والخبراء الاقتصاديّين يدركون أضرار الرّبا ومفاسده تبعاً لتطوّر العمليات الاقتصاديّة ومنها: سوء توزيع الثّروة، وهدر الموارد الاقتصادية، وضعف التّنمية الاقتصاديّة والاستثمار، والتّضخم، البطالة وغيرها، كلّ هذا يدلّ على أنّ هذا التّشريع معجز، وأنّه من عند الله ولا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله. المقدمة: حديث القرآن عن الرّبا مخيف، وتضمن الوعيد والتهديد الشّديدين للّذين يتعاملون به في كلّ زمان، حتّى وصل التّرهيب منه إلى أنّ الله عز وجل يحارب الذين لا يتركون الرّبا، فقال تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون ))[2] وبيّن القرآن أسباب تحريم الربا، ويمكن إيجازها فيما يلي: 1- الربا ظلم: تبيّن الآيات الكريمة أنّ حقّ الإنسان أن يأخذ رأس ماله دون زيادة، فالزيادة على النقود مقابل الأجل حرام، وكان هذا التحريم حتى لا يظلم المُربي ولا يُظلم، أي يَظلم الآخرين بالزيادة على رأس ماله مقابل الأجل، وأن لا يُظلم هو إذا زاد الآخرون عليه، ودليل هذا قوله تعالى: (( لا تظلمون ولا تُظلمون ))[3]. قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة: لا تَظلمون ولا تُظلمون أي لا تزيدون فتأخذون باطلاً لا يَحلّ لكم، ولا تنقصون من أموالكم.[4] 2- الرّبا أكلٌ لأموال النّاس بالباطل: إن الله حرّم الرّبا على اليهود فأخذوه بأنواع الحيل، وأكلوا أموال النّاس بالباطل ودون وجهة حق، بسبب الرّبا وغيره.[5] ودليل ذلك قوله تعالى: (( وأخذهم الربا وقد نُهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً )) [6]. ومن صور أكل أموال النّاس بالباطل ما كان عليه الجاهليّون قبل الإسلام، فعندما كان يحلّ الأجل يزيد في المال إذا لم يستطع القضاء، وهذا حتّى يصير القليل كثيراً مُضاعفاً.[7] وهذا معنى قوله تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون )) [8] فالمرابون يحصلون على ثمرة جهود الناس حتى تزيد أموالهم، فهم يعطون أموالهم حتى يعطوا أكثر منها، ولكن الله عز وجل لا يُضاعفها ولا يُؤجر عليها.[9] وبهذا المعنى يقول الله عز وجل: (( وما آتيتم من ربا ليربُوَا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون))[10]. وبيّن القرآن نتائج الرّبا وعقوبته في الدّنيا والآخرة، ومنها أنّ الرّبا لا يزيد عند الله لا في كمّيّته ولا في بركته، بل ينقصه الله تعالى، ودليل ذلك قوله تعالى: (( يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحبّ كل كفّار أثيم )) [11]. يقول ابن عباس: يمحق الله الرّبا أي يُنقصه.[12] وبيّن القرآن عقوبه الّذين يأكلون الرّبا، وهي أنّ الله لا يحبّهم بل يكرههم، ووصفهم بالكفر والإثم، وهم الّذين يستحلّون أكل الرّبا وإطعامه.[13] وبين القرآن حالهم يوم القيامة حيث يقومون من قبورهم كالمجانين والمصروعين ويعذّبون في النار لعدم انتهائهم عن التعامل بالربا، حيث يقول الحقّ جلّ في عُلاه: (( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ ذلك بأنهم قالوا إنّما البيع مثل الربا وأحلّ الله البيع وحرّم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )) [14] هذا هو حديث القرآن عن الرّبا، حديث عن أسبابه ونتائجه وعقوبته، والمسلمون في عصر الرّسالة انتهوا عن التّعامل به لأنّ الله حرّمه، إيماناً منهم وتصديقاً بما جاء به العليم الخبير، وكان يعرفون من أسباب تحريمه بأنّه ظلم وأكل لأموال النّاس بالباطل وأنّ الله يمحقه، ولم يكونوا يُدركون الحكم والأسرار لهذا التّشريع العظيم، وكيف يصل الرّبا إلى هذا الظّلم والمحق، وما هي آثاره الاجتماعية والاقتصاديّة على الفرد والمجتمع، لأن ثقافتهم وفكرهم الاقتصادي لا يؤهّلهم لمعرفة مفاسد الرّبا وآثاره على الاقتصاد كما هو الحال اليوم. إن آثار الرّبا وأضراره ومفاسده – التي اكتشفها النّاس اليوم نتيجة تطوّر العمليات الاقتصادية وتعقّدها – تؤكّد أن تشريع الله في الربا معجز ولا يستطيع أحدٌ أن يأتي بمثله، مما يدلّ دلالة قاطعة على أنّ هذا التشريع من عند الله العليم الخبير، وليس من عند محمد r ولا صحابته، لعدم مقدرتهم على معرفة وإدراك كثير من حكم وأسرار هذه التشريع، وهذا وجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم وهو الإعجاز التشريعي في باب الربا. وبناءً على ما سبق فإنّ الغاية من هذا البحث هي بيان الآثار الاقتصاديّة للرّبا، وجمع الشّواهد والبراهين عليها من واقعنا المعاصر، ممّا يؤكّد أنّ التّعامل بالرّبا فيه مفاسد كثيرة، وأنّ منع التّعامل به فيه مصالح كثيرة للفرد والمجتمع، وهذا يثبت ويبيّن حقيقة الإعجاز الّذي جاء به القرآن في هذا الجانب من التشريع. وسأتناول هذا الموضوع في المباحث التالية: المبحث الأول: سوء توزيع الثروة المبحث الثاني: هدر الموارد الاقتصادية المبحث الثالث: ضعف التنمية الاقتصادية والاستثمار المبحث الرابع: التّضخّم المبحث الخامس: البطالة ثم الخاتمة وأهم نتائج البحث. المبحث الأول: سوء توزيع الثروة
صورة لعالم الاقتصاد الألماني المعروف شاخت مدير بنك الرايخ الألماني سابقا
صورة لعالم الاقتصاد البريطاني جون كنيز