يقول السائل: هناك من يقول تكره زيارة القبور للنساء لحديث أم عطية، وإن علم وقوع محرم منهن حرمت، وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله زوارات القبور)) إلا لغير النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه رضي الله عنهما، فتسن زيارتها للرجال والنساء؛ لعموم الأدلة في طلب زيارته صلى الله عليه وسلم فما هذه الأدلة؟ وما رأي سماحتكم في المسألة عامة... وفقكم الله؟
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
فقد ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه لعن زائرات القبور، وثبت ذلك من حديث ابن عباس، ومن حديث أبي هريرة، ومن حديث حسان بن ثابت الأنصاري.
وأخذ العلماء من ذلك أن الزيارة للنساء محرمة؛ لأن اللعن لا يكون إلا على محرم، بل يدل على أنه من الكبائر; لأن العلماء ذكروا أن المعصية التي يكون فيها لعن أو فيها وعيد بالنار هذه تكون من الكبائر.
فالصواب أن زيارة النساء للقبور محرمة، لا مكروهة، والسبب في ذلك والله أعلم أنهن في الغالب قليلات الصبر، وهن فتنة، فزيارتهن للقبور، واتباعهن للجنائز قد يفتن الناس وقد يسبب مشاكل على الرجال، فكان من رحمة الله سبحانه وتعالى أن منعهن من الزيارة،
وحرم عليهن زيارة القبور سداً لذريعة الفتنة بهن أو منهن.
وقد صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء))، وقول بعض الفقهاء: إنه يستثنى من ذلك قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر صاحبيه رضي الله عنهما; قول بلا دليل، والصواب أن المنع يعم جميع القبور، حتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وحتى قبر صاحبيه رضي الله عنهما، هذا هو المعتمد من حيث الدليل.
وأما الرجال فيستحب لهم زيارة القبور، وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر صاحبيه، عليه الصلاة والسلام، لكن بدون شد الرحل فالسنة أن تزار القبور في البلد من دون شد الرحل، لا يسافر لأجل الزيارة، ولكن إذا كان في المدينة زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر صاحبيه، وزار البقيع، والشهداء.
أما أن يشد الرحال من بعيد لأجل الزيارة فقط، فهذا لا يجوز على الصحيح من قولي العلماء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)).
أما إذا شد الرحل إلى المسجد النبوي، فإن الزيارة تدخل تبعاً لذلك.
فإذا وصل المسجد صلى فيه ما تيسر، ثم زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وزار قبر صاحبيه، ودعا له عليه الصلاة والسلام، وصلى وسلم عليه - عليه الصلاة والسلام - ثم سلم على الصديق رضي الله عنه ودعا له، ثم على الفاروق ودعا له. وهكذا السنة.
وهكذا في القبور الأخرى، فلو زار مثلا دمشق، أو القاهرة، أو الرياض، أو أي بلد.. يستحب له زيارة القبور لما فيها من العظة. والنبي عليه الصلاة والسلام قال: ((زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة)) فيزورها للذكرى، والعبرة، والدعاء للموتى، والترحم عليهم. وهذه هي السنة، من دون شد الرحل.
ولكن لا يزورهم لدعائهم من دون الله. فدعاؤهم من دون الله شرك بالله عز وجل.
فكونه يدعوهم، أو يستغيث بهم، أو يذبح لهم، أو يتقرب إليهم بشيء من العبادة، أو يطلب منهم المدد، فهذا لا يجوز، وهذا من الشرك بالله عز وجل، فكما أنه لا يجوز مع الأصنام، ومع الأشجار والأحجار، فهكذا لا يجوز مع الموتى.
فلا يدعو الصنم ولا يستجير به ولا يستغيث به، ولا الشجر، ولا الحجر، ولا الكوكب، وهكذا أصحاب القبور، لا يدعون مع الله، ولا يستغاث بهم، ولا يطلب منهم المدد.
بل هذا شرك بالله عز وجل، كما قال الله سبحانه: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا[1]، وقال سبحانه: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[2]، سبحانه وتعالى.
فبين سبحانه أن دعاء العباد للموتى ونحوهم شرك به سبحانه، لقوله سبحانه: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ.. فجعل دعاءهم إياهم، أي: دعاء الموتى والاستغاثة بأصحاب القبور، شركاً بالله عز وجل، وهكذا قوله سبحانه: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ[3]، فسمى دعاء غير الله كفراً، وحكم على أهله بأنهم كافرون وغير مفلحين فيجب على المسلم أن يحذر هذا، ويجب على العلماء أن يبينوا هذه الأمور، حتى يحذر الناس الشرك بالله.
وكثير من العامة إذا مر بقبور من يعظمهم استغاث بهم، وقال المدد المدد يا فلان، أو يا سيدي فلان، المدد، المدد، أغثني، انصرني، اشف مريضي، وهذا هو الشرك الأكبر والعياذ بالله، وهذا إنما يطلب من الله عز وجل، لا من الموتى، ولا من الأصنام، ولا من الكواكب، وإنما يطلب من الله عز وجل.
أما الحي فإنه يطلب منه ما يقدر عليه، إذا كان حاضراً يسمع كلامه، أو عن طريق الكتابة، أو الهاتف، أو الإبراق، أو التلكس، أو ما أشبه ذلك من الأمور الحسية فيطلب منه ما يقدر عليه; تبرق له، أو تكتب له، أو تكلمه بالهاتف، وتقول: أقرضني كذا وكذا، أو ساعدني على عمارة بيتي، أو على إصلاح مزرعتي، فإذا كان بينك وبينه شيء من التعاون فلا بأس.
أما أن تطلب من الميت أو الحي ما لا يقدر عليه، أو الغائب بدون الآلات الحسية، فهذا شرك به سبحانه وتعالى؛ لأن دعاء الغائب من غير الآلات الحسية معناه اعتقاد أنه يعلم، وأنه يسمع دعاءك وإن بعدت، وهذا اعتقاد باطل، واعتقاد كفري، من اعتقد أن غير الله يعلم الغيب فهذا كفر أكبر.
يقول الله جل وعلا: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ[4]، أو تعتقد أن الله جعل له سراً في الكون، فيتصرف; يعطي من يشاء، ويحرم من يشاء. كما يظنه بعض الجهلة، فهذا أيضاً شرك أكبر.
فالزيارة للموتى زيارة إحسان، وزيارة ترحم عليهم، وتذكر للآخرة، والاستعداد لها. تذكر أنك ميت كما ماتوا فتستعد للآخرة، وتدعو لإخوانك المسلمين الميتين، وتترحم عليهم، وتستغفر لهم. وهذه هي الفائدة من الزيارة; ففيها عظة وذكرى ودعاء للموتى.
كذلك لا يزور القبور من أجل أن يدعو عندها، فيجلس عندها ويدعو، أو من أجل الصدقة عندها، أو للقراءة عندها، فهذا غير مشروع، بل هذا من البدع.
لكن يزورها للسلام عليهم، والدعاء لهم، والترحم عليهم؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين))، هكذا كان يعلمهم عليه الصلاة والسلام.
وكان إذا زار القبور هو عليه الصلاة والسلام، قال: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)) هكذا جاء في حديث عائشة ما هذا معناه.
والمقصود أن الزيارة للقبور في الحقيقة إحسان للموتى، وطلب للمغفرة لهم، والرحمة لهم، وإحسان لنفسك لأنك تذكر بهذا الآخرة، وتذكر الموت حتى تستعد للقاء الله عز وجل.
ولكن تكون هذه الزيارة كما تقدم بدون شد الرحل، بل تزور قبور أهل البلد التي أنت فيها، ويكون شد الرحل لغير ذلك، للمدينة يكون شد الرحل للمسجد، والصلاة فيه، والقراءة فيه، ونحو ذلك وإذا زار المسجد زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وسلم عليه وعلى صاحبيه، ويستحب له أن يزور البقيع كذلك، وقبور الشهداء، ويزور مسجد قباء ويصلي فيه أيضاً كل هذا مشروع.
وهكذا إذا زار بعض البلاد الأخرى لتجارة، أو لصديق، أو لقريب، يستحب له أن يزور القبور حتى يدعو لأهلها، وحتى يترحم عليهم، وحتى يتذكر بهم الآخرة، وحتى يستعد لها، وحتى يتذكر الموت، هكذا بين أهل العلم، ودلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
والخلاصة: أن زيارة القبور بالنسبة للنساء ممنوعة مطلقاً وهذا هو الصواب؛ لصحة الأحاديث بمنعهن وعدم الدليل على الاستثناء.
[1] الجن: 18.
[2] فاطر: 13، 14.
[3] المؤمنون: 117.
[4] النمل: 65.