إنّ التربية فنٌ وعلم ولعلّها من أهَم المهام المنوطة بالوالِدَين وأخطرها.. ومع أنها مسؤوليّة كبيرة على كلا الوالِدَين لما فيها من صعوبات وتعقيدات ومشاكل إلاّ أنها متعةٌ حين يشعران أنّهما يربيان أولادهم ويغدقان عليهم من العطف والحنان والرعاية ما يجعلهم ينطلقون في الحياة بثقة وثبات وصلابة إرادة.. يقول الله جلّ وعلا: "يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ"؛ وقد رُوِي عن الإمام الترمذي في صحيحه عن جابر بن سمرة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لأَنْ يُؤَدِّبَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَاع".. فالأولاد أمانة في أعناق الأهل وإن أخصب مرحلة للتربية والتوجيه والتأديب هي مرحلة الطفولة التي تتميّز بالمرونة والفطرة والتلقي. ولكل بناء أساس فإن كانت دعائم الأسس متينة قام البناء على أفضل ما يكون بإذن الله تعالى. فلا بدّ إذاً من زرع الفضائل والقِيَم والأخلاق في نفوس الأطفال ولا بد من تربيتهم في كافة الميادين ابتداءًا من بناء العقيدة والعبادة مروراً ببناء الجانب الاجتماعي والأخلاقي والعاطفي والجسمي والعلمي ليخرج لنا جيلاً قوياً قادراً على التغيير والإصلاح وخلافة الأرض. وللتربية أصول وقواعد يجب اتّباعها في عملية التعاطي مع الطفل من حيث الإثابة والعقاب وكيفية التعامل مع الطفل إن ظهر منه سلوك غير مرغوب فيه أو بالعكس قام بسلوك جيد. يقول ابن القيم في تحفة المودود: "وممّا يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج الاعتناء بأمر خُلُقه؛ فإنه ينشأ على ما عوّده المربي في صغره". فالأهل هم الذين يغرسون في الطفل الأدب وحسن التصرف حتى إذا ما صدر منه ما يرونه معيباً أفهموه الخطأ ووجّهوه إلى السلوك الصائب وهكذا حتى يعتاد على السلوك السليم. ويبقى السؤال الذي يتردّد: هل التربية بالحوار أفضل أم التربية بالحزم والقسوة؟ والناس في ذلك بين إفراط وتفريط.. فالبعض يفضِّل الأسلوب الصارم واستعمال "العصا" مع الجيل الجديد ويراها طريقة أفضل من اللجوء إلى الأساليب التربوية والنفسية التي ينادي بها الغرب. وحقيقة أن الفريقين قد جانبا الصواب في التربية الصحيحة. فلا اللين الدائم ولا القسوة المفرطة يمكن أن يُنبِتا طفلاً سليماً واثقاً بنفسه قادراً على خوض غمار الحياة. وهنا يقع على الأهل العبء الأكبر في تحمّل مسؤولياتهم تجاه أطفالهم. فهم بحاجة إلى التعرّف على كافة مراحل نمو الأطفال وما يحتاجونه في كل مرحلة حتى يستطيعوا تفهّم سلوكياتهم فيتم توجيههم وإرشادهم. ولو عدنا إلى أسباب الخطأ الذي يرتكبه الطفل فإننا نجد مردّه إمّا فكرياً كأن لا يوجد عند الطفل مفهوم صحيح عن الشيء، وإمّا أن يكون عملياً كأن يقوم بعمل فلا يجيده، وإما أن يكون الخطأ نابع عن إرادة جازمة من الطفل واصرار على الخطأ.. ولكلّ نوعٍ طريقة في التعامل.. فحين يكون الخطأ ناتج عن سوء فهم حقيقة الأشياء عمد الوالدان إلى التوضيح والتفسير فإذا علِم الطفل الصواب اتّبعه.. وهذا ما اعتمده الحبيب عليه الصلاة والسلام حين رأى الحسين بن علي رضي الله عنهما يأكل تمرة من تمر الصدقة فقال له الحبيب عليه الصلاة والسلام: "كخْ.. كخْ.. ارْمِ بها، أما علِمتَ أنّا لا نأكل الصدقة؟" فلقد أوضَح الرسول صلى الله عليه وسلّم للحسين لِم زجره ومنعه من أكل التمرة ولم يتركه حائراً يتساءل عن الخطب!
وأحياناً يخطئ الطفل في القيام بعمل لم يقُم به من قبل فلا يجب أن يُحاسَب على خطئه هنا لأنه من الطبيعي أن لا يُفلِح في إنجاز أمر لم يسبق له أن قام به.. وليكن شعار الوالِدَين ما قاله الحبيب عليه الصلاة والسلام للصبي الذي لم يعرف كيف يذبح الشاة حيث قال: "تنَحَّ حتى أُرِيَك"! أمّا إن كان الطفل يعلم أن ما يفعله خطأ وأصرّ عليه ولم يحسِّن سلوكه أو حين يكون في أفعاله خطراً على حياته فهنا يصبح التأديب واجب على الأهل حتى يقوِّموا اعوجاج سلوك الطفل حتى يمتنع عن أعمال خطيرة عليه أو عادات سيئة.. يقول الحبيب عليه الصلاة والسلام: "مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعاً، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشراً". فيُلاحَظ هنا أن الشرع أعطى الطفل فترة طويلة حتى يتم توجيهه وإرشاده إلى أفضل الأعمال – الصلاة – وصَبَر عليه طوال فترة السبع سنوات وأمَرَ الأهل أن لا يبادروا إلى العقاب إلا حين يصرّ الطفل على عدم أدائها بعد سنّ العاشرة. وعلى الأهل انتهاج هذا الأسلوب في تعاملهم مع أطفالهم بأن يصبروا على توجيههم والحوار معهم وترك العقوبة إلى آخر المطاف.. فإنّ من أكبر الأخطاء في التربية أن يُعلّم الإبن السلوك قبل أن يُعلَّم المعتقد فالمُعتَقَد الراسخ هو الذي يعلِّم السلوك! والمشكلة أن الأب والأم في بعض الأحيان لا يؤدّيان دور المربي في البيت وإنما دور القاضي والمحقِّق فيطلِقون الأحكام ويعاقبون دون أن يقوموا بالتوجيه والحوار بداية.. وأمّا إذا لم ينتهِ الطفل ولم ينفع معه الإرشاد وأصرّ على القيام بالسلوك غير المرغوب فحينها يكون التأديب بسبيل آخر غير الحوار.. ولكن على أن يكون العقاب الجسدي هو آخر المطاف.. وقد صنَّف الأستاذ محمد ديماس في كتابه "كيف تغيِّر سلوك طفلك" ثلاثة عشر وسيلة تربوية للتغيير سأعرضها من الأخف إلى الأشد وهي باختصار: - التعريض: وهو أن ينقد المربي السلوك الخاطئ من دون أن ينقد الطفل أو يوجّه إليه الحديث مباشرة وبذلك يكون هناك فرصة للطفل لمراجعة سلوكه وتصحيح خطئه. - التوجيه المباشر: ضمن أُطر كمجالسة الطفل والتحاور معه والحرص على قوة الامتزاج النفسي بين الطفل والمربي وبذلك يتقبّل ما يمليه عليه من توجيهات سلوكية وايمانية وتربوية. - التوبيخ: على أن يكون بدون استهزاء وتحقير لشخصية الطفل واختصاره بكلمات قليلة تُقال بدون انفعال. ويكون التوبيخ بالاقتراب من الولد والنظر في عينيه نظرة حادة ثم التعبير عن مشاعر الاستياء الكلامي وتسمية السلوك المنافي المرتكَب منه. - المقاطعة: وهذا الأسلوب يعتمد مقاطعة الأسرة مثلاً له.. - العقاب الذاتي: بحيث يُترَك الطفل يتحمل نتائج سلوكه السيئ حتى يرتدع على أن لا يكون هناك خطراً عليه من تحمّله نتائج هذه التصرفات الخاطئة. - العقاب المنطقي: وهو معاقبة سلوك الطفل بسلوك آخر منطقي على أن لا يعرّض الطفل لمخاطر فمن الأهمية بمكان تجنب نتيجة تكون شديدة الوقع أو تستمر لمدة طويلة. فمثلاً إذا منع الأهل الطفل من ركوب الدراجة في الشارع خوفاً عليه ولم يخضع للكلام وركبها يتمّ عقابه بحرمانه من ركوب الدراجة لفترة معينة. - العقاب غير المنطقي: ونعني به معاقبة سلوك الطفل بسلوك آخر غير منطقي ويُستعمل حين تكون النتائج المنطقية غير مجدية. مثال على ذلك ان نحرم الطفل من مشاهدة التلفاز ليومين لأنه كذب على والدَيه.. ومن المهم هنا أن يطلب
المربي من الطفل أن يكرر بصوت عال السلوك السيئ الذي يمارسه وأيضاً العقوبة التي ستنزل به إذا ما مارس ذلك السلوك. - التشبع: هو عبارة عن استبعاد حالات الحرمان. فإن حصل الطفل على اهتمام وتدعيم كاف على السلوك المرغوب ولم يحصل على تدعيم او انطفاء على السلوك غير المرغوب فهذا من شأنه أن يعزز عندهم القيام بالسلوك المرغوب والابتعاد عن السلوك غير المرغوب. - الانطفاء: وهو تجاهل الطفل حين يعمل شيئاً لا نريد أن يعمله لأن تجاهل كثير من جوانب السلوك المزعجة سيؤدي الى اختفائها تدريجياً خاصة ان كان السلوك الخاطئ هو عبارة عن محاولة للطفل الضغط على مشاعر الأهل ليلبوا مطالبه. - تجنب الموقف المثير: عن طريق تجنب الظروف التي تؤدي الى حدوث السلوك غير المرغوب فيه. - تشريط السلوك المخالف: وهو عبارة عن السلوك الذي يمنع السلوك غير المرغوب من الحدوث. أي أن المربي يعطي السلوك الصحيح في نفس الوقت الذي يصدر عن الطفل السلوك الخاطئ ولا يستجيب للطفل الا اذا استجاب للسلوك الصحيح. - فرض عقوبة الحجز: وهذا الأسلوب يتلخّص بحجز اللعبة المتخاصم عليها – مثلا - بدلا من معاقبة أحد الطفلين أو كليهما. - آخر الدواء الكي: العقاب: والعقوبة الجسدية تكون بالضرب والتهديد والزجر والصراخ في وجه الطفل عندما يصدر منه سلوك غير مرغوب فيه.
ونلاحظ هنا أن الصراخ يعتبره علماء النفس التربوي من أشد العقوبات لِما فيه من إهانة للطفل وما له من آثار سلبية على تقديره الذاتي وتحطيم لمعنوياته والتشكيك في قدراته وسحب لثقته بنفسه وإلغاء التواصل بينه وبين الأهل.. وعواقبه قد تفوق أحياناً الضرب.. وهو لا يؤدي إلى النتيجة المرجوّة من تغيير السلوك حيث أن الطفل يركِّز على تفادي الصوت المرتفع وردّة فعل الأهل أكثر من التفكير بالسلوك السيئ نفسه.. بينما نرى الأهل أول ما يبادرون إليه حين يقوم الابن بسلوك خاطئ هو الصراخ في وجهه ويعتبرونه أمراً طبيعياً للتأديب!
ونتوقف قليلاً عند نقطة العقوبة الجسدية أو الضرب فحتى في حال اضطرار الأهل للجوء إلى هذا الأمر كحل نهائي فعليهم أن يتدرّجوا في استخدامه فلا يقعون عل ىالطفل بالضرب المبرِح ويستعملون الآلات الحادة.. فالضرب المباح هو الذي لا يسبب آثار سلبية نفسية كانت أو جسدية يعاني منها الطفل لربما إلى آخر حياته.. ودعونا نفصِّل قليلاً أمر العقاب الجسدي وحيثياته.. فعلى الأهل مراعاة النقاط الآتية:
نقطة على حرف.. إن لجوء الأهل مباشرة إلى الضرب دون التدرّج في الوسائل التربوية من الأخف إلى الأشد – على حسب الحالة – عائدٌ إلى الإعتقاد السائد أن الضرب له نتائج سريعة لتعديل السلوك بينما الحقيقة هي أنه الأسلوب الأسهل لانتهاجه في ظل الضغوطات والمسؤوليات المُلقاة على عاتق الأهل فلا يكلِّفوا أنفسهم عناء التوجيه والصبر على الأولاد والتفتيش عن الباعث الذي أدّى إلى الخطأ لعلاج المشكلة الحقيقية في السلوك..
ومضات..
عواقب الضرب
إن للضرب عواقب وخيمة – على الصعيد النفسي والجسدي - إن كان خارج الأسس التي يجب اعتمادها وقد تؤدّي إلى انهيار نفسية الطفل وتحطيم مستقبله.. ومن مخاطر العقاب ما يلي:
وأختم بكلمات أتوجّه بها إلى الأهل.. أبناؤكم هم نتاج تربيتكم وأنتم تحصدون ما تزرعون فيهم.. فأحسِنوا الزرع.. ولا تشتموا الأرض والبذور إن لم يثمر الحصاد أو أخرج نكداً.. والسعي لتربية النشء وتطويره وامداده بالمفاهيم والقِيَم والعلوم.. وهو صورة عنكم فأجمِلوا في العمل والخُلُق ليتشبهوا بكم.. حاولوا التخلّص من نمط المربي التقليدي الذي ينهى ويأمر إلى صورة أبهى وأنفع منتهجين في ذلك سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الصغار وتربيته لصغار الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.. وعليكم بترياق الحب والحنان فإنه أفضل مقوِّم لكل سلوك سيء.. ولأن ينتهي الولد عن سلوك غير مرغوب فيه احتراماً ومحبة بالأهل أفضل ألف مرة من أن ينتهي خوفاً ورهبة ليقوم به ربما في السر.. وخصِّصوا الوقت – ولو قليلا - لأطفالكم لتعليمهم وارشادهم واللعب معهم فهذا أدعى إلى تقبل نصائحكم.. فالإشباع العاطفي للطفل والجو الأسري المستقِر والحوار الفعّال بين وبين أهله والتواصل الإيجابي العاطفي بينهم هم أساس سعادته وحسن تقديره لذاته ودافعه للسلوك الحسن الذي يتأصّل مع السنين ليصبح جزءا من شخصيته كرجل.. ويبقى الدعاء أن يا رب أصلِح لنا في ذريتنا وبارك لنا فيها.. وهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرّة أعين واجعلنا للمتقين إماما.. وهو السميع المجيب