عندما دار الجدل في الآونة الأخيرة عن أسباب ظاهرة " السرقات العلمية " أو " السطو العلمي" يكاد يكون الجميع متفقًا على سبب مهم من أسباب هذه الظاهرة في المجتمع الأكاديمي والثقافي، ألا وهو السبب الأخلاقي، بمعنى أن الباحث أو الكاتب الذي اعتدى على حقوق الملكية الفكرية لغيره؛ فإن لديه خلل تربوي، إذلم يُنشأ على احترام حقوق الآخرين المادية والمعنوية، ولم يعرف قدر الجُرم المترتب على انتحال مجهودات الآخرين الأدبية، فأخذ ينسب لنفسه ما لم يقله، وينقل عن غيره دون أن يشير إلى المصدر الحقيقي، محاولاً إيهام القراء أنه صاحب الفكرة وصاحب الكلمة .
أما عن أهمية غرس " احترام حقوق الملكية الفكرية " في النشء، فإن ذلك يتبين لنا لعدة أسباب : السبب الأول : حتى لا يكثر في المجتمع الأكاديمي والثقافي أناس يحملون درجات علمية رفيعة - كالماجستير والدكتوراة - لا يستحقونها . السبب الثاني : الباحث والكاتب والأستاذ .. هؤلاء قدوة لغيرهم في مواقعهم، فينبغي ألا يكون من بينهم لصًا يسطو على حقوق الآخرين . السبب الثالث : النخب الثقافية والعلمية في المجتمعات بمثابة القلب للجسم، فإذا صلحت هذه النخبة صلح المجتمع، وإذا فسدت فسد المجتمع.
إن الله عز وجل أكد في أكثر من موضع في القرآن الكريم أن أهل العلم هم أهل إيمان وتقوى وورع ، فقال عز من قائل : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر28]، فإذا تلطخ العالم أو الباحث بوصمة السرقة والاعتداء على حقوق غيره بعدما منحه الله بسطة في العلم، لا شك أن بفعله ذلك يخرج من دائرة العلماء الذين كرمهم الله وقربهم إليه، وجعل منهم حجة - لمجرد اتباعهم لطريق الحق -، فقال : { أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء197]، وقال : { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ } [آل عمران7]، وقال : { شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ } [آل عمران18]، وقال: { لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ } [ النساء 162].
ما أعظم المأساة عندما تكون في العلماء والباحثين ! وما أقبح العالم السارق والباحث غير الأمين ! إن ذلك يحدونا إلى تدارك الأزمة من أصولها، وعلاج الداء من جذوره، ولن يكون ذلك إلا بإكساب النشء مهارات البحث العلمي، وتعليمهم مبادىء المنهج العلمي منذ الصغر، وغرس قيمة " احترام حقوق الملكية الفكرية " في كل درس يتعلق بالمنهج العلمي وأصوله ..
وإليكم هذه الأفكار العملية لغرس هذه القيمة المهمة : أولاً : في موضوعات التعبير والإنشاء : أن يسأل المعلمُ – والأبُ - التلميذَ عن نص مكتوب في موضوع التعبير الذي كتبه مثل هذه الأسئلة : " من أين أتيت بهذا النص ؟ .. ينبغي عليك ذكر المصدر " ، " لما لم تخرّج هذه الآية الكريمة ؟ مهم جدًا أن تذكر اسم السورة ورقم الآية " .. " قلت في موضوعك عبارة " ليت الشباب يعود يومًا " وهي كلمة للشاعر المصري محمود سامي البارودي ومن الأمانة أن تنسب العبارة لقائلها ..." وهكذا ..
ثانيًا : في الإذاعة المدرسية : إن معظم المواد التي يستخدمها التلاميذ والطلاب في الإذاعة المدرسية، ما هي إلا مواد منشورة في الصحف والمجلات والكتب لم يبذلوا فيها جهدًا سوى إلقائها على مسامع الآخرين، ومن ثم ينبغي على المعلم المشرف على الإذاعة المدرسية أن يكلف هؤلاء التلاميذ بإعداد مادة إذاعية خالصة من إبداعهم وعدم اقتباس أي مواد من أعمال غيرهم . ومثال ذلك، فقرة " كلمة اليوم" التي يلقيها أحد التلاميذ في برنامج الإذاعة المدرسية، إن المتتبع لمصدر هذه الكلمة التي يلقيها هذا التلميذ يجدها في الغالب مقالة منشورة لكاتب في إحدى الصحف، وغالبًا ما يدعي التلميذ أنه كاتبها ! ومن هنا تبدأ الجريمة ! فالحذر الحذر!
ثالثًا : في إعداد البحوث : كثيرًا ما يكلف المعلم تلاميذه بإعداد بحث عن موضوع ما في المنهج الدراسي، وسرعان ما يقوم الطلاب بإعداد البحث على طريقة الجمع والترتيب أو القص والتجميع واللصق، فإذا كُلف أحدهم بكتابة بحث عن " الهجرة النبوية " - مثلاً - على الفور يقوم بإحضار كتاب الرحيق المختوم للشيخ المباركفوري ونقل الفصل المعني بالهجرة عن آخره دون أن يكتب كلمة واحدة من إبداعه، بل ينقل النص بهوامشه ومراجعه وكأن الطالب هو الذي بحث في المراجع فزيل هذه الهوامش ! والآخر يكتب في محرك البحث الشهير " جوجل " جملة " الهجرة النبوية "، ثم يقوم بتحميل عدة صفحات من نتائج البحث وتجميعها وطبعها، ثم يقوم بتكعيبها، بعد كتابة جملة : "بحث من إعداد فلان بن فلان "، ولعل هذه هي الجملة الوحيدة التي كتبها الطالب الباحث !
وهنا تقع على المعلم مسئولية كبيرة في فحص هذه البحوث وتلقين السارقين درسًا في احترام حقوق الملكية الفكرية للآخرين، وتجريم هذه التصرفات وعدم التهاون في الاقتباس غير الشرعي، وبيان فتاوى العلماء في تحريم السطو على كتابات الآخرين .
ونكاد نجزم أن التلميذ الذي لقنه معلمه درسًا في احترام حقوق الملكية الفكرية للآخرين هو باحث وكاتب أمين في مستقبله إن قدر له الله أن يكون باحثًا، فإن قدر الله له أن يمتهن أي مهنة أخرى فسوف يتصف بالقدر الأوفى من خُلق " الأمانة "، ذلك الخلق الذي إذا ضاع، ضاعت الأخلاق كلها، وكان ذلك نزير شؤم على نهاية المجتمع . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – : ( إِذَا ضُيِّعَتْ الأمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ ) قَالَوا : كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : ( إِذَا أُسْنِدَ الأمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ ) [ البخاري : 6015، عن أبي هريرة].