وأعتقد أن خير بداية أبدأ بها كلامي عن صناعة المستقبل هي أن أعود للماضي, بل وللماضي السحيق.. إلى أول تواجد للبشر على هذه الأرض, فلا بد أن نعرف الأصل, حتى نعرف المآل.. ولابد أن نعرف الهدف الأصلي من نشأة الإنسان, لنستطيع أن نحدد الأساس الذي نبني عليه المستقبل.. أصل الحكاية: كان الله ولا شيء معه.. لم يكن كل هذا الكون بمجراته وأجرامه وسماواته وأراضيه وكواكبه موجوداً, ثم أراد الله تعالى أن يخلق الخلق, وهو المتصرّف في ملكه كما يشاء.. فخلق الخلق ليُعرف سبحانه وتعالى, وجلّ جلاله من إله رائع وكامل بكل المقاييس وكافة الجوانب.. خلق الملائكة, ثم خلق السموات والكون والمجرات والمجموعة الشمسية والتي منها كوكبنا الأزرق"الأرض"، ثم أراد الله تعالى أن يجعل في هذا الكوكب الأزرق خليفة, ينوب عنه في حكم الأرض, ولكن وفقاً لما يريده المالك الأصلي لهذه الأرض, فهذا المخلوق الذي سيخلف الله تعالى في حكم الأرض, لن يمتلكها ولن يرثها من مالكها, فلن تكون بحال من الأحوال حقاً مكتسباً له, بل هو أضعف من ذلك بكثير.. كل ما هو مطلوب منه هو: أن يحكم هذه الأرض ويعمّرها وفقاً للمنهج الذي سيبينه له خالقها ومالكها الحقيقي: الله جلّ وعلا.. أخبر الله تعالى ملائكته بأنه يريد أن يجعل في الأرض خليفة له "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً " (البقرة : 30 )فاستغربت الملائكة ذلك, لأن عهدهم بمن استخلفهم الله قبل الانسان في الأرض أنهم لم يكونوا على قدر هذه المسؤولية ولم يرعوا هذا الاستخلاف ولم يؤدوه حقّه, فقد أفسدوا فيها أيّما إفساد "قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء" الملائكة ليس لها أن تراجع الله تعالى في أمر ارتآه وأراده, فكيف صدر منهم هذا التصرف؟ ذلك لأنهم خافوا أن يكونوا قد قصّروا في جنب الله تعالى فأراد أن يستبدلهم فسؤالهم الاستنكاري لم يكن سؤال مراجعة واستنكار على ما رآه الله تعالى، بل هو سؤال مراجعة لأنفسهم واستنكار عليها أن تكون قد قصّرت مع الله تعالى وهذا ما يثبته بقية كلامهم في الآية "وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ " يا الله.. كم الملائكة مؤدبين مع الله عز وجل!! وكم هم محبين لله عز وجل! وكم يخشون أن يقصّروا في حقه ولو النزر اليسير! وأتمّ الله تعالى ما أراد فخلق آدم.. ثم أمر الملائكة أن تسجد لهذا المخلوق الذي سيكون مسؤولاً عن قيادة الأرض وإعمارها فسجدت الملائكة كلها بمن فيهم كبار الملائكة: جبريل وميكال وإسرافيل وملك الموت سجدوا فرحين بتلبية أمر رب العزّة جل وعلا.. إلا واحداً لم يسجد، وقد استطاع أن لا يسجد لأنه ليس ملكاً بل هو من صنف آخر من المخلوقات أعطاه الله حرية الاختيار تماما مثل آدم فقد أكلت الغيرة والحسد قلبه ورأى في السجود لآدم منتهى الذل والإهانة له كيف لا، وهو أفضل من آدم وخير منه فقد خلقه الله من نار، وآدم خلقه من طين.. لقد أخطأت حساباته فقد حسب الأمور بطريقة مادية بحته، فتوصل إلى أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين , وغاب عن باله أن الخالق الذي بيده تقدير هذه الأمور يقدّرها بشكل مختلف تماما، يقدّرها اعتماداً على مدى الإيمان به رباً وخالقاً ومدى التذلل له ومدى الانصياع لأوامره.. فرفض السجود لآدم لأن "كرامته نقحت عليه"، فكان العصيان الكبير لله عز وجل وأخذت نفسيته الحقودة الأنانية المتعجرفة المتكبرة تكشف عن وجهها من خلال كلماته التي رد فيها على سؤال الله تعالى له "قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ" (الحجر:32)؟؟!! فكان جوابه تلك الكلمات التي تقطر غروراً وكبراً ويفوح منها نتن الحقد والغيرة: "قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ" (الحجر:33) غضب الله على إبليس فطرده من رحمته ومن السموات كلها، وطرده من الجنة فلن يدخلها أبداً.. ولكن إبليس حقود، هل سيترك هذا الذي طُرد بسببه من الجنة ومن رحمة ربه يهنأ في حياته؟؟!! وهذه صفة في شخصية إبليس قادته إلى الفشل في حياته، لم يكن ليعترف بخطئه، فقد كان غروره يمنعه من ذلك، فلم يجد إلا أن يلقي باللوم فيما اقترفته يداه على الآخرين. كلا وألف كلا.. فقرر أن يستجرّه معه ليعصي ربه فيُطرد هو الآخر من رحمة ربه.. وبكل وقاحة, طلب من ربه جلّ وعلا أن يمد في عمره إلى يوم القيامة، "قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ" (الحجر:36)........ أبعد كل ما فعلته يا إبليس تتجرأ وتطلب من ربك هذا الطلب؟؟ ولكن الله الحليم الكريم العادل, لبّى طلبه "قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ" (الحجر:37) وهنا أعربت الكراهية التي ملأت قلب إبليس عن نفسها "قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ" (الحجر:39) فأجابه الله عز وجل : "قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ" (الحجر:41)، "إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ" (الحجر:42) اذهب يا إبليس فأغو من استطعت من البشر فلن يستمع لكلامك إلا الفاسدون أمثالك أما عبادي المخلصين فلن تستطيع أن تجرهم وراءك إلى جهنم.. وابدأ بآدم.. بالتأكيد تتساءلون: ما علاقة قصة خلق آدم وعداء إبليس له بموضوعنا الأساسي والذي هو: ألف باء تربية؟!؟!؟ العلاقة وثيقة جدا.. ولكن سنراها.... خشية الإطالة في المقال القادم بإذن الله