نعم، العمل شرف، والعمل واجب، والعمل لازم لتأكيد الذات، ولكن ليس معنى ذلك أن تختلط الأمور، ويجلس الرجل في المنزل ليربي الأبناء وتخرج المرأة لتعمل سائق تاكسي، أو سائق أتوبيس أو سائق شاحنة؛ فهذا ظلم وغش للمرأة؛ فلقد غشها بعض الإعلاميين والكتاب ودعوها لمنافسة الرجل في كل ما يقوم به من أعمال، ولأنني أكره الجدل وأدعو دائما إلى لم الشمل ونبذ الخلاف فلن أخوض كثيرا في هذا الموضوع الخلافي، ولكن أقول في هذا الفصل بعض آراء المفكرين في ذلك الموضوع، وقد تتناقض أفكارهم، ولكن لنتذكر دائما أن من يؤكد ذاته عليه احترام آراء الآخرين؛ وسأذكر هنا رأي كاتبة كويتية نافست الرجال في مجال الصحافة والإعلام، ثم وجدت أن الاحتماء بالرجل والقيام بدور الأنثى الكامل في رعاية زوجها وأبنائها وبيتها هو أهم بكثير من منافسة الرجل في العمل خارج البيت، أما في نهاية هذا الفصل فسأذكر رأياً مخالفاً، وصاحبه هو المفكر والسياسي الماليزي "د. مهاتير محمد"، والخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية؛ ولو اعترض البعض على ذلك؛ وأرى شخصياً أن كـل خـلـق خلقه الله عز وجل لـهـدف وغـايـة وحـكـمـةٍ يـعـلـمـهـا سبحانه وتعالى، وكل مـيـسـر لـمـا خـلـق لـه، لقد أعجبني مقال قالت فيه "غنيمة الفهد" رئيسة تحرير مجلة أسرتي الكويتية، ونُشر في مجلة المجلة، تحت عنوان "وحي الكلمات": كبرنا وكبرت آمالنا وتطلعاتنا، نلنا كل شيء، نهلنا من العلم والمعرفة ما يفوق الوصف، أصبحنا كالرجل تماما: نسوق السيارة, نسافر للخارج وحدنا, نلبس البنطلون، أصبح لنا رصيد في البنك, ووصلنا إلى المناصب القيادية، واختلطنا بالرجال، ورأينا الرجل الذي أخافنا في طفولتنا، ثم الرجل كما هو، والمرأة غدت رجلا: تشرف على منـزلها، وتربي أطفالها, وتأمر خدمها، وبعد أن نلنا كل شيء، وأثلجت صدورنا انتصاراتنا النسائية على الرجال في الكويت أقول لكم، وبصراحتي المعهودة: ما أجمل الأنوثة, وما أجمل المرأة، المرأة التي تحتمي بالرجل، ويشعرها الرجل بقوته، ويـرفض أن تسافر وحدها، وقد يطلب منها أن تجلس في بيتها. ما أجمل ذلك، تربي أطفالها، وتشرف على مملكتها، وهو السيد القوي. نعم، أقولها بعد تجربة: أريد أن أرجع إلى أنوثتي التي فقدتها أثناء اندفاعي في مجال الحياة والعمل. لقد ذكرني كلام السيدة غنيمة الفهد بكلام مفكر آخر، هو مجدي بدوي، في جريدة البلاغ، والذي كتب نفس الرأي ولكن من جانب أخلاقي وديني: [تؤكد الحركات الجديدة على فكرة الصراع بشكل متطرف بين القوي والضعيف وبين الرجل والمرأة وبين الشرق والغرب؛ فكل شيء ما هو إلا تعبير عن "موازين القوى" وثمرة للصراع المستمر، والإنسان في نظرها مجرد كائن طبيعي يمكن رده إلى الطبيعة المادية، ويمكن تسويته بالكائنات الطبيعية "الحيوان- النبات" إلى أن يتم تسوية كل شيء بكل شيء آخر، ومن ثم تتعدد المراكز ويتهاوى اليقين، ويبدأ البحث عن أشكال جديدة للعلاقات بين البشر لا تهتدي بتجارب الإنسان التاريخية ناهيك عن أية تعاليم دينية. لا غرابة إذن في أن تتم إعادة صياغة الإنسان في الحضارة الغربية في ضوء معايير المنفعة المادية والجدوى الاقتصادية، الأمر الذي أدى إلى تزايد هيمنة القيم "البرانية" المادية مثل الكفاءة في الحياة العامة مع إهمال الحياة الخاصة. أما بالنسبة للمرأة فاهتمام الحضارة الغربية ينصب على دور المرأة العاملة "البرانية" ويُهمِل دور المرأة الأم "الجوانية أو ربة المنزل"، ومن ثم الاهتمام بالإنتاج على حساب القيم الأخلاقية والاجتماعية الأساسية مثل تماسك الأسرة وضرورة توفير الطمأنينة للأطفال، كما اقتحمت وسائل الإعلام مجال الحياة الخاصة، وأسقطت أهمية الإحساس بالأمن النفسي الداخلي، وطبقاً لهذا الاتجاه الذي يكثف محاولات تسويق أفكاره بمجتمعاتنا في زمن العولمة مستعيناً بذيوله من بني جلدتنا، فإن العمل الإنساني هو ما يقوم به المرء ذكراً أم أنثى نظير أجر محسوب خاضع لقوانين العرض والطلب، على أن يؤديه في رقعة الحياة العامة مستبعداً بطبيعة الحال الأمومة والسكينة الأسرية وتربية الأطفال وغيرها من الأعمال والواجبات الأسرية؛ لأنها في نظرهم لا يمكن حسابها بدقة، ولا يمكن أن تنال عليها المرأة أجراً مادياً نقدياً رغم أنها تستوعب جل حياتها واهتمامها، فهي تؤديها في رقعة الحياة الخاصة. وخلاصة الأمر أن هذه المحاولة المادية تسحب قيم العطاء والأمومة والدفء الأسري عن وجه العالم وتجرده من الإنسانية، ومن ثم لم يكن مستغرباً في ظل هذه المفاهيم أن تنشأ ظاهرة تسمى بتأنيث الفقر في المجتمعات التي تشهد تسويقاً محموماً لهذه الأفكار- لاسيما في الولايات المتحدة الأمريكية- ففي إطار ما يسمى بحرية المرأة والرجل طبقاً لهذه المفاهيم، "يتعايش" رجل مع امرأة تنجب له طفلاً أو أكثر دون أن يرتبطا بعقد زواج، وبعد فترة طويلة أو قصيرة يتملك أحدهما الملل، وتنشب معارك بين الاثنين، فيقرر الرجل أن يحقق ذاته خارج نطاق هذه العلاقة، ويترك تلك المرأة مهجورة وحدها ترعى أطفالها، فتزيد أعباؤها النفسية والاقتصادية والاجتماعية. إذا كانت هذه هي الحال في المجتمعات الغربية فإن الأمر يتطلب منا اليقظة تجاه مؤسسة الأسرة والانتباه إلى جميع محاولات التسلل إلى أمنها واستقرارها، وإن اتخذت هذه المحاولات في بعض الأحيان صوراً منمقة تحت شعارات مختلفة تبدو براقة محببة لمفرغي الذات والنفس وقاصري النظر، ذلك أننا أمة تملك أسباب الخيرية، ولنا خصوصية شرقية نابعة من إيماننا العميق بالأديان وتعاليمها وأخلاقياتها، ومن ثم يتعين علينا أن نؤكد هذا المعنى، حاملين مصابيح الخير والهداية إلى الناس، لا أن نكون مقلباً لنفايات الماديين الفكرية والاجتماعية الغربية، والمادية بصورة فجة وبحتة. فالتصور الإسلامي للمرأة قائم على أساس التكوين الجماعي للمجتمع، وليس على أساس التكوين الفردي الاستقلالي النزعة والنظرة، وينظر للفرد امرأة أو رجلاً في هذا الإطار، والنسق الحقوقي للفرد في الإسلام مصاغ في صورة واجبات، فحقوق الزوجة في الأسرة تحددها واجبات الزواج، وحق الولد في النفقة من أبيه يحددها واجب إنفاق الأب على ابنه].