يزخر التراث الإسلامي بالأقوال والأفعال التي تدعو المسلمين إلى تأكيد ذواتهم، والأكثر من ذلك أن هذا الدين احترم ثقة أهل الديانات الأخرى بأنفسهم، وتأكيدهم لذواتهم، وسنرى الكثير من المواقف الدالة على ذلك. ولنبدأ بالقرآن الكريم، والذي لا ريب فيه، دستور الأمة المجيد، المحفوظ بأمره تعالى من التحريف والتبديل، والذي تحدى العلماء وغيرهم في مختلف التخصصات العلمية والدينية واللغوية على أن يأتوا بأية واحدة مثل آياته، والتي تعدت الخمسة آلاف آية، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وهو الصالح لكل زمان ومكان حتى قيام الساعة، ويوم تخلينا عن هديه الكريم، تداعت علينا الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، بعد أن دب فينا الوهن، لتشبثنا بماديات الدنيا الفانية، وضياع معاني العزة، والكرامة، والثقة في الله، والتي تولد أرقى معاني الثقة بالنفس والإباء وتأكيد الذات. ومن الآيات التي تدعو إلى الإبَاءُ والعِزَّة في القرآن الكريم: {وَإِذَا قِـيلَ لَهُ اتَّقِ الله أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثم، فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ، وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}. (سورة البقرة، الآية 206 ) {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِـي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}. (سورة ص، الآية 2) {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا، إِليه يصعد الكلم الطيب والعملُ الصَّالِـحُ يَرْفَعُهُ، وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ، وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ}. ( سورة فاطر ، الآية 10) {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْـمُلْكِ تُؤْتِـي الْـمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْـمُلْكَ مِـمَّنْ تشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ}. ( سورة آل عمران ، الآية 26) {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْـمُؤْمِنِـين}.(سورة الـمنافقون ، الآية 8) ويقول العزيز الحكيم: "الَّذينَ يَتَخِذونَ الكَافِرِينَ أولِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤمِنِين، أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزّةَ فإنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعاً"، (الآية 139 من سورة النساء) . وغيرهم من الآيات التي تدعوا أبناء الأمة إلى الاعتزاز بمنهج الله، كي يعتزوا بأنفسهم، فمن عظَّم الله في نفسه هان عليه كل البشر، وهانت عليه نفسه محبة في سبيل الله؛ ويذكر الله هذا المعنى في كتابه المجيد: "وإنْ كادُوا لَيَفْتِنونَكَ عنْ الّذي أوْحِينَا إِليكَ لِتَفْتَريَ عَليِنْا غَيرَهُ، وإذاً لاتَّخْذُوكَ خَليِلاً. وَلَولا أنْ ثَبّتنَاكَ لقدْ كِدتَ تَرْكنُ إِليِهِم شَيْئاً قَليِلاً"، (الآيتان 73 ، 74 من سورة الإسراء). ويقول النبـيُّ مـحمَّد صلى الله عليه وسلم:«لَـيْسَ الغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ، وَلَكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ». ويقول أيضاً: «ما نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مالٍ، وما زادَ الله عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلا عِزًّا». أما صاحب الرسالة، وناقل الدين الإسلامي للعالمين، وأقصد هنا عالمي الإنس والجن، والمبلغ عن رب العالمين إلى قيام الساعة، سيدنا محمد –صلى الله عليه وسلم– فلا ولن ينسى التاريخ له وقفته الخالدة، عندما ذهب سادة قريش إلى عمه أبي طالب يعرضون عليه المال والملك لابن أخيه محمد في مقابل أن يكف عن الدعوة لديانة التوحيد، وألا يسب أصنامهم وألا يسفه من يعبدها ويتوسل إليها، فماذا كان منه صلى الله عليه وسلم؟ هل ساومهم في عرضهم؟ هل آثر السلامة ولم يرد عليهم حتى لا يزداد إيذاؤهم له ولأتباعه من المسلمين المستضعفين؟ أو هل حتى فكر وقدر قبل أن يرد عليهم؟ لا ثم لا.... وكلا ثم كلا... فالنبي المعصوم لا ينطق عن الهوى، بل هو وحي يوحى، ومن أراد أن يفهم معنى تأكيد الذات، فليسمع إلى رده صلى الله عليه وسلم، ومن أراد أن يؤكد ذاته بعد أن عصفت به الأحداث، وتلاعبت به الدنيا، فليستمع إلى القول الفصل: "والله ياعم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه"، ما هذه البلاغة واللباقة!! وما تلك الفصاحة، وسرعة البديهة!!! وما هذا الثبات على المبدأ، وما هذا القدر من الثقة في الله؟!، والتي ينجم عنها الثقة بالنفس؟!!، فمن أجل عقيدته ورسالته وإيمانه بالواحد الأحد تحمل من أبناء قبيلته وغيرهم من الكفار والمشركين بجزيرة العرب، هو ومن آمن معه من صحابته صنوف الإيذاء والتعذيب والتجويع والتشريد بل والحروب بكل تبعاتها، لأكثر من عشرين عاما، كل ذلك دون أن ينتظر أجراً من البشر، محتسبا أجره عند رب البشر، ورافضا حتى الدعاء على من ظلمه هو وأصحابه، قائلا: "لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبدون الله ولا يشركون به شيئا، اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، هذه الشخصية الفذة ربت أجيالاً من الأخيار، لديهم ثقة لا حدود لها فيما عند الله من خير، وثقة بنصر الله لهم؛ مما جعلهم يسيطرون على أكثر من ثلاثة أرباع العالم في حوالي ثمانين عاما من وفاته –صلى الله عليه وسلم-، حيث نشروا في تلك البلدان المفتوحة، مكارم الأخلاق وحرية الاعتقاد، والتسامح الديني، وأما عن ازدهار العلوم والآداب والفنون فحدث عنه ولا حرج، كل ذلك بشهادة المنصفين من المستشرقين، ولم نسمع من كتب السير وهي بالمئات أن أحداً من أصحابه صلى الله عليه وسلم كان مريضا باضطراب الاكتئاب أو القلق أو المخاوف المرضية أو الوسواس أو غيرهم من الاضطرابات النفسية التي يذكرها الباحثون قبل عهد الصحابة وبعدهم، فيذكر بعض الباحثين مثلا أن مجنون ليلى وهو من قبل ظهور الإسلام مات وهو يعاني من اضطراب ذهاني لفترة ليست بالقصيرة، وكذلك بعض الخلفاء العباسيين والفاطميين كان لديهم بعض الاضطرابات النفسية، وهذا يدل على أهمية دور البيئة المحيطة بالشخص في حدوث الاضطرابات النفسية، فقد كان صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق العظيم كما وصفه رب العزة بذلك. أما تحقيق التوازن الأخلاقي فهو أمر هام لتحقيق الصحة النفسية والحد من انحراف النفس البشرية عن الوسطية والسواء والاعتدال، فالتواضع والتسامح ولين الجانب والكرم وحفظ اللسان عن الفاحش والبذيء من الأقوال وحفظ الجوارح عن أذى الخلق كلها من مكارم الأخلاق، ويقابلهم بنفس القدر من الأهمية الاعتزاز بالنفس والإباء والشمم والصدق والصراحة والعدل ونصرة المظلوم وعدم التفريط في حق النفس ولا في حقوق الآخرين، فكان الصحابة رضي الله عنهم معتدلي الفكر والمزاج كما علمهم النبي صلى الله عليه وسلم، يعطون كل ذي حق حقه، وسأسرد فيما يلي اهتمامه -صلى الله عليه وسلم- بعزة المسلم، وغرس الثقة في الله، والتي تؤدي إلى الثقة في النفس وتأكيد الذات، وكمثال استمع لهذه الوصية النبوية الخالدة لحبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو صبي لم يتجاوز الخامسة عشر من العمر: "يا غلام أحفظ الله يحفظك، أحفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فإن العباد لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يقدروا على ذلك. ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا على ذلك، جفت الأقلام وطويت الصحف"- أخرجه أحمد والترمذي. فهو صلى الله عليه وسلم يوصيه بمراقبة الله عز وجل، النافع الضار، والمعز المذل، فلما الخوف من البشر؟! أياً كان وضعهم أو منزلتهم!، ولقد وعى عبد الله بن عباس هذا الدرس النبوي تماما إلى أن توفاه الله عز وجل. وكان سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسمع لأصحابه، ويشاورهم الرأي، وفي كثير من المواقف كان يأخذ برأيهم، ولعلنا نذكر في هذا المقام، مشاورة الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه من الأنصار في غزوة الخندق، والمشركين من الأحزاب يحيطون بالمدينة محاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليهم رضوان الله، فأشار صلى الله عليه وسلم بأن يصالح قبيلة غطفان على ثلث تمر المدينة لهذا العام في مقابل انسحابهم من حصار المدينة، وتركهم لباقي المحاصرين من الأحزاب، وذلك بعد أن رضي زعماء غطفان بهذا الرأي، ولم يبق إلا أن يُسجل هذا الاتفاق في وثيقة موقعة من قادة الطرفين، ولكنه أصر صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه أولا في هذا الأمر، وذلك كعادته دائما عليه الصلاة والسلام، واهتم صلى الله عليه وسلم اهتماما خاصا برأي السعدين، سعد بن معاذ وسعد بن عبادة.... فهما زعيما المدينة، وهما بهذا أصحاب أول حق في مناقشة هذا الأمر، واختيار موقف تجاهه...... قص رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث التفاوض الذي جرى بينه وبين زعماء غطفان.... وأنبأ صحابته أنه إنما لجأ لهذه المحاولة رغبة منه في أن يبعد عن المدينة وأهلها هذا الهجوم الخطير، والحصار الرهيب.... فتقدم السعدان إلى رسول الله بهذا السؤال: "يارسول الله... أهذا رأي تختاره، أم وحي أمرك الله به"؟ قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: "بل أمر أختاره لكم..... والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما". وأحس سعد بن معاذ أن عزتهم كمؤمنين تواجه امتحانا، وأي امتحان هذا؟!!! هنالك قال: "يارسول الله.. قد كنا نحن وهؤلاء على الشرك وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا من مدينتنا تمرة إلا قرى -أي كرما وضيافة- أو بيعا.. أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا...؟! والله مالنا بهذا من حاجة.. وو الله لا نعطيهم إلا السيف..... حتى يحكم الله بيننا وبينهم"...!! وعلى الفور عدل -صلى الله عليه وسلم - عن رأيه، وأنبأ زعماء غطفان أن أصحابه رفضوا مشروع المفاوضات، وأنه صلى الله عليه وسلم أقر رأي أصحابه والتزم به.... آه! ما هذا القدر العظيم من الثقة بالنفس، وتأكيد الذات!، والعزة، وعلو الهمة!، مع الأدب الجم!، واللباقة في الحوار، والتواضع وخفض الجناح من جانب صاحب الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم لأصحابه! بل وأكثر من هذا، نجد رسولنا العظيم، والقائد الأعلى، يبيح لفتيان الصحابة أن يناقشوه، وكلهم ثقة بأنفسهم، مؤكدين لذواتهم، فيتبادل -صلى الله عليه وسلم- الرأي معهم، وقد يأخذ برأيهم، فقد روي أنه أجاز رافع بن خديج أن يلحق بجيش المسلمين في غزوة أحد ولم يجز زميلا له هو سمرة بن جندب، فقال له سمرة: يارسول الله: أجزت رافعا ورددتني، ولو صارعني لصرعته.. فقال له صلى الله عليه وسلم. "فدونك فصارعه".. فصرعه فأجاز الاثنين للجهاد في سبيل الله. وصحابي جليل آخر عاش حياته مجاهداً ضد الظالمين هو عبد الله بن الزبير؛ ولننتقل معا إلى واقعة وفاته وقد شارف عمره على السبعين عاما، والحجاح بن يوسف الثقفي قد حاصر مكة المكرمة قرابة ستة أشهر مانعاً عن أهل الحرم الطعام، كي يحملهم على التخلي عن عبد الله بن الزبير والذي أصبح وحيدا، بلا جيش وبلا أعوان!. ولنبصر صورة أمينة لذلك الموقف؛ ولنصغي إلى الحوار الذي دار بين عبد الله بن الزبير وأمه ذات النطاقين الشجاعة العظيمة "أسماء بنت أبي بكر" في تلك الساعات الأخيرة من حياته.. قالت له السيدة الفذة، والتي كان عمرها قد تجاوز المائة عام: "يابني أنت أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق، وتدعو إلى حق، فاصبر عليه حتى تموت في سبيله، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية... وإن كنت تعلم أنك أردت الدنيا، فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك، وأهلكت من قُتل معك".... قال عبد الله: "والله يا أماه، ما أردت الدنيا و لا ركنت إليها. وما جُرتُ في حكم الله أبدا، ولا ظلمت، ولا غدرت، ولكن أخشى ياأماه أن يمثلوا بجسدي بعد موتي"... قالت أمه أسماء: "يا بني وهل يضر الشاة جلدها وسلخها بعد ذبحها، إني لأرجو الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن سبقتني إلى الله أو سبقتك".... وتبادلا معا عناق الوداع وتحيته.... وبعد ساعة انقضت من قتال مرير غير متكافئ، تلقى رضي الله عنه ضربة الموت وهو في داخل بيت الله الحرام يجاهد منفردا بعد أن انصرف عنه من انصرف، وقتل من قتل من أصحابه. ولم يرض الحجاج إلا بصلبه... وتحركت الأم المكلومة لترى جسد ولدها مصلوباً، بعد أن فصلوا رأسه عن جسده، ليرسلوها إلى عبد الملك بن مروان في دمشق، وتقدم منها عبد الله بن عمر رضي الله عنه معزيا ومواسياً، فأجابته قائلة: "وماذا يمنعني من الصبر، وقد أهدي رأس يحي بن زكريا -عليهما السلام- إلى بغي من بغايا بني إسرائيل". يالعظمتك، ياابنة الصديق!! أجل.. إن يكن رأس "ابن الزبير" قد قدم هدية للحجاج ولعبد الملك بن مروان.. فإن رأس نبي كريم هو يحي عليه السلام قد قدم من قبل هدية لسالومي.. وذلك من ملك فاسد المزاج من ملوك بني إسرائيل لبغي حقيرة من رعاياه!!. وتأكيد الذات لم يكن حدثا عرضيا في حياة عبد الله بن الزبير رضي الله عنه و أرضاه، ولكن مواقف تأكيد الذات لديه، تبدأ من مراحل صباه المبكرة، فقوة الحجة والبيان لديه منقطعتي النظير؛ ولعل ذلك من بركة رسول الله عليه وسلم، فقد كان أول ما دخل فاه هو ريق النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان أول طفل يولد للمسلمين بالمدينة بعد هجرته صلى الله عليه وسلم إليها؛ وكان اليهود قد أشاعوا في المدينة أنهم سحروا للمسلمين كي ينقطع نسلهم، فكان مولده في قباء عند قدوم أمه أسماء مهاجرة من مكة إلى المدينة، فما كان من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن حملوا المولود فرحين فور ولادته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففرح به صلى الله عليه وسلم وحنكه بتمرات من فيه الشريف بعد مضغها، فكان أول ما خالط فاه رضي الله عنه هو لعابه صلى الله عليه وسلم، فكان من أشجع الناس قلبا، وأفصحهم لسانا، وأقواهم حجة وبيانا، نذكر لعبد الله بن الزبير موقفه مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وهو لم يزل في أعوام صباه يلعب مع الصبية في طرقات المدينة، فما أن رأى الصبية عمرا رضي الله عنه، حتى فروا هاربين إلا عبد الله بن الزبير، ثبت في مكانه واقفا، دون أن يهتز له ساكن!! فسأله سيدنا عمر: لم لم تفر كما فعل أقرانك؟ فأجابه بلباقة وشجاعة غير معهودتين مع صحابي جليل، وخليفة للمسلمين يرجف أمراء الأقاليم الإسلامية من الصحابة الكرام عند المثول بين يديه للحساب، وتخاف الشياطين من أن تسلك وادياً يسير فيه!، ويخشى أحباؤه قبل أعدائه من غضبته للحق وفي الحق، فماذا قال هذا الصبي الواثق بنفسه والمؤكد لذاته: يا أمير المؤمنين، لم أرتكب جرما فأفر منك، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسعها لك!!، فأعجب برده أمير المؤمنين قائلا: "إن لهذا الصبي في كبره لشأن". ولقد صدق حدسه رضي الله عنه وأرضاه، وكتب التاريخ عن عبد الله بن الزبير وشجاعته وفصاحته وقوة حجته وبيانه صفحات من نور، فهي نور يُهتدى به لمن أراد أن يعيش عزيزا أبيا مهابا، لا يخاف في الله لومة لائم. فلله درك ياابن الزبير!!.. ما أشجع قلبك!!.. وما أقوى حجتك وبيانك!!... وما أفصح لسانك!!... وما أشد ثقتك بنفسك وتأكيدك لذاتك!!!... وذلك كله رغم أنه لم يكن طالبا لدنيا!!! أو طامعا في خلافة أو ملك زائل!!... ولكنه رضي الله عنه محب للحق، منافح عنه، وبكل وسيلة شريفة نقية، فقد طلب منه ابن حصين قائد جيش الشام أن يبايعه و معه جيش الشام بخلافة المسلمين بعد علم ابن حصين بوفاة يزيد بن معاوية وهو متجه لمحاربة ابن الزبير في الحجاز!، فرفض ابن الزبير رضي الله عنه عرض ابن حصين، لأنه رضي الله عنه له مآخذ على ما ارتكبه جيش الشام من مخالفات في حق المسلمين!!!. بل والأعجب من ذلك أن ابن الزبير غضب على خمسين من أمهر الرماة الذين يحاربون معه وفي صفه، وطلب منهم أن ينصرفوا عن الجهاد معه، وهو في أمس الحاجة لمساعدتهم، والحجاج بن يوسف، قائد جيش الأمويين، يحاصر الحرم ويضربه بالمنجنيق، تصور لماذا؟!... لأنهم سبوا عثمان بن عفان، الخليفة الراشد، وذلك بحجة أنه آثر أقاربه من الأمويين -من أمثال معاوية بن أبي سفيان ومروان بن الحكم- بالمناصب والمال على باقي المسلمين، فأنكر ابن الزبير ذلك على هؤلاء الرماة من جيشه، مؤثرا رضي الله عنه أن يستشهد في سبيل الله وحيدا منفردا، على أن يلقى الله وقد سكت على سب أحد الصحابة المبشرين بالجنة، وممن؟ ممن يقاتلون معه!!!!! والله إن مواقف عبد الله بن الزبير لجديرة بالمدارسة والاعتبار من المسلمين جميعا، وخصوصا في هذه الأيام... ولسيدنا علي بن أبي طالب مقولة من ست كلمات تلخص أسباب عدم تأكيد الذات لدى الكثير من الناس وهي: "الناس من خوف الذل في ذل"، يالها من كلمات قليلة، وجملة صغيرة، جمعت معاني عظيمة فأوعت؛ و لذا فمواجهة الذل ومقاومته هما خير وسيلة لدفع الذل وتأكيد الذات، وهذا المعنى هو ما ندندن حوله في هذا الكتاب . والآن، دعونا نعيش هذا الموقف الجلل مع واحد من صحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل موقعة القادسية، وذلك عندما طلب رستم قائد جيش الفرس رسولاً يتفاوض معه من جيش المسلمين، فأرسل له سيدنا سعد بن أبي وقاص ربعي بن عامر رضي الله عنهما، فدخل الصحابي الجليل على رستم وقد زينوا مجلسه بالبسط الفاخرة واللآليء الثمينة، والوسائد المبطنة بالحرير، والزينة العظيمة، وقد جلس رستم على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب رثة، وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس على البسط الحريرية الفاخرة، ثم نزل عن فرسه وربطها ببعض الوسائد، وأقبل على رستم وعليه سلاحه ودرعه، فقالوا له ضع سلاحك. فقال إني لم آتكم ولكنكم دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت!!.. فقال رستم دعوه يدخل... فأقبل يتوكأ على رمحه فوق الوسائد، فخرق معظمها!!!.. قالوا له ماجاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء؛ من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله... قالوا و ما موعود الله؟.. قال الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقى.. فقال رستم: قد سمعت مقالتكم ، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال: نعم، كم أحب إليكم يوم أو يومين؟!، قال لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا. وقال ما سن لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث: بعد الأجل.. فقال: أسيدهم أنت؟ قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم. فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل فقالوا: معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك إلى هذا الكلب!!. أما ترى إلى ثيابه؟! فقال: ويلكم لا تنظروا إلى الثياب وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة، إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل ويصونون الأحساب!! . هذا الحوار التاريخي الساخن يحتاج منا لوقفة تأمل، فالوضوح الشديد في رؤية الصحابة لأمور الحياة ومنها جهادهم في سبيل الله نابع من التحديد الشديد لهدفهم الأسمى في الحياة، هذا الهدف هو السعي لرضا الله عز وجل، وليس هناك درجة أعلى من درجة الجهاد في سبيل الله (فالجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام هذا الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم)؛ فلا يهتم أحدهم -رضي الله عنهم وأرضاهم- في سبيل ذلك بالموت في سبيل الله، أو تحقيق النصر والغنائم، بل جُل الصحابة رضي الله عنهم كانوا يؤثرون الشهادة على الغنائم والنصر، بل ويتنافسون ويستهمون لنيل هذه الدرجة العالية في ميادين الوغى لتكون كلمة الله هي العليا. هذا الوضوح الشديد في رؤيتهم للأمور، مع تحديدهم لأولويات الحياة لديهم، يجعل هدفهم واضحا وصافيا صفاء الماء العذب المنساب، ومع وجود هذه الدرجة العالية من الصدق مع النفس -وهو في الحقيقة من أصعب أنواع الصدق- حيث يرون أنفسهم كما هي بدون تجمل، وبدون استعمال أي حيل دفاعية يحتاجونها للتغلب على واقعهم، لأنهم في الحقيقة راضون عن واقعهم تماما، وبالتالي فهم راضون عن الصورة الداخلية لذات كل منهم، بل إن الكثيرين منهم كانوا يُوصفون بأن ظاهرهم كباطنهم، مع ثقتهم في وعد الله بلا حدود، وعقيدة وإيمان لا تفل صلابة عن الجبال الرواسي، وثقة بالنفس ظاهرة للعيان، فربعي بن عامر –رضي الله عنه- كجندي في الجيش وسعد بن أبي وقاص –رضي الله عنه- كقائد لجيش المسلمين لهما مرجعية واحدة، وهدف واحد، وغاية واحدة، فحتى المهلة التي أعطاها لجيش الفرس هي بناء على هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتعاليمه. أما دخوله على قائد الفرس في ثياب متواضعة، وغرسه لرمحه في الحرير الذي يمر عليه، غير آبه لقيمته النفيسة الغالية؛ فهي رسالة أخرى للفرس المشركين، هذه الرسالة باختصار هي أن: المظاهر المادية التي تعظمونها وتتكبرون بها على خلق الله هي تحت أقدامنا، بل لا نعيرها أدنى اهتمام، فهناك غنى نفوسنا، وثقتنا بمؤازرة الله عز وجل لنا، وثقتنا بالله وفي الله بلا حدود، وكأني أتمثل في موقف هذا الصحابي الجليل المقولة الشهيرة: "الكبر على أهل الكبر تواضع".... ولقد استوعب قائد الفرس "رستم" معظم هذه الدروس لدهائه وفطنته، ولكن من حوله من أكابر الفرس أضاعوه، ومنهم كسرى أنوشروان نفسه، فلم يستوعبوا قدر هؤلاء الصحابة المجاهدين المحسنين، فكانت عاقبة المتكبرين من حكام وقادة الفرس خسرا، فقُتِل معظمهم على يد المسلمين، وضاع ملكهم وتفرق شملهم