أزمة مقاييس خلقتها تلك الدمية "باربي" لدى العديد من فتيات هذا العصر شرقا وغربا، فتسببت بقوامها الممشوق بشكل يفوق الطبيعة الآدمية في إصابة العديد من الفتيات بهوس الوزن. فقد قُدمت لأعوام كنموذج لما يطلق عليه الجسد "المثالي"، ونصبت لأعوام مثلا أعلى للأطفال، فإذا بهن يمضين منذ نعومة أظفارهن في سعي حثيث للوصول إلى ما يسمى بـ"مقاييس باربي". والمشكلة الحقيقية هي كون هذا النموذج -بل مصطلح المثالية- مضللا في حد ذاته؛ لأنه لا يخضع للواقع. فلو نظرنا على سبيل المثال للدمية "باربي"فسنرى أن محيط رأسها أكبر من خصرها، كما أن طول ساقيها لا يُمكنان –واقعيا- إنسانا من المشي، هذا النموذج لا يمكن تحقيقه إلا باللجوء إلى عمليات التجميل، واتباع سبل لا تراعي الآثار الصحية. وللوصول إلى تلك الأجساد "المثالية" كان لا بد من وجود معيار للقياس، فإذا بجداول الوزن "المثالي" والتي تضع معادلة تربط الوزن بطول القامة، تعتلي قمة اهتمام كل باحث عن الرشاقة، ويتم التوصية بها من معظم الأطباء كوسيلة للتعرف على مدى مطابقة جسدك للوزن " المثالي". وحول حقيقة الجسد المثالي، والوزن النموذجي كان هناك شكل آخر من النماذج، وهو شكل المعادلة الرياضية حيث تحدد عن طريق المعطيات "الوزن، والطول" مدى كون وزن الفرد منا مثاليا من عدمه. يوضح القول دكتور وائل أبو هندي أستاذ مساعد للطب النفسي بكلية الطب جامعة الزقازيق بمصر: "إن نشأة مفهوم الوزن المثالي ينبع من جداول أعدها خبراء شئون التأمين على الحياة في إحدى شركات التأمين الأمريكية، ومنها ما وضع في الخمسينيات من القرن الماضي، ومنها ما اعتبر تعديلات وضع في الثمانينات من ذلك القرن أيضا". وقد كانت تلك الشركات تبحث عن الأوزان التي يتوقع لها صحة أفضل، وقدرة على الحياة لفترة أطول حتى لا تخسر شركات التأمين، هذه هي أصول مفهوم الوزن المثالي الذي يرغب الناس جميعا وعلى مستوى العالم في الوصول له. وعن صحة تلك المعلومات يقول أبو هندي: "إن تلك البيانات مشكوك في صلاحيتها، فلا يمكن استخدامها وتعميمها على المجتمع الذي أجريت فيه هذه الدراسات أي المجتمع الأمريكي، فما بالكم بتعميمها على كل المجتمعات البشرية؟ علما بأن هذا التعميم هو الحادث بالفعل". كل ذلك فضلا عن أن تلك الجداول لم يأخذ واضعوها في اعتبارهم الكثير من الفروق الفردية بين البشر فيما يتعلق على سبيل المثال بتوزيع الدهون في الجسد وبحجم الهيكل العظمي وغير ذلك، بل إن من أهم الانتقادات التي توجه لتلك الجداول أنها لم تستند إلى معلومات من علم قياسات الجسد البشري، بل إلى ما يوصف بأنه توليفات اعتباطية للمعلومات. مثالي أم اعتباري؟ يرى الدكتور مراد عاصم استشاري العلاج الطبيعي أن أصل فكرة هذه المعادلة "الوزن المثالي" أنها معايير تقريبية، تستند في الأساس إلى قوانين فيزيائية لحساب كتلة الجسم مع الأخذ في الاعتبار الاختلاف بين كثافة الدهون والعضلات وهي في النهاية تقريبية، حيث إنها وضعت بناء على دراسات بين أعداد ضخمة من الناس وحساب أفضل الأوزان التي تجمع بين القوام الرشيق والصحة الجيدة. أما الدكتور طارق رشدي إخصائي التغذية الإكلينيكية فيرى أن الوزن المثالي هو ذلك الوزن الذي يحقق أقل قدر من الدهون. وتستخدم لمعرفة نسبة الدهون والمكونات الأخرى للجسم أجهزة حديثة؛ لذا فلا يمكن الاعتماد على أي معادلة رياضية لحساب الوزن، فقد يصل الشخص إلى ما يسمى بالوزن المثالي طبقا للمعادلة بسبب فقدان قدر كبير من الماء (المكون الرئيسي للجسم) لا لما فقده من الدهون، وهنا لا يعد الوزن "مثاليا". فيما يرى أبو هندي أن ربط الطول بالوزن لا يسمح بقدر وافر من المرونة في زيادة ونقصان الوزن، فمن الملاحظ أن المعنيين بالصحة البشرية على اختلاف مواقعهم عندما يتحدثون عن الصفات البشرية سواء النفسية أو المعرفية منها أو الجسدية فإنهم يتحدثون عن مثال يتوزع حوله الأفراد، ما بين الزيادة عن المثال أو النقصان عنه، ويعتبر هذا التوزع طبيعيا، فإذا ما كان الحديث عن الوزن فإن الرجوع إلى جداول الوزن والطول لا يسمح بذلك التوزع أو التدرج؛ لأن الوزن كذا يناسب الطول كذا أو العكس، وتصبح الرسالة التي تصل إلى الناس هي أنك إذا أردت صحة جيدة وأداء جسديا أفضل ما وعمرا أطول فإن وزنك يجب أن يكون كذا! وإلا فأنت تعرض نفسك للخطر. الترويج للنموذج وفي إطار البحث وراء فكرة خلق النموذج والترويج يوضح الدكتور عماد حسين محاضر في التاريخ بالجامعات المصرية أن تغلغل كل من مدرسة فرويد (التي ترى الجنس الغريزة الإنسانية الأساسية) في فكر وتوجهات "هوليود" حدا بالإعلام إلى استقصاء مواصفات المرأة المرغوبة خاصة بين الجنود الأمريكيين وانطبقت المواصفات على نموذج "مارلين مونرو"، وأصر مهندسو هذا النموذج على أن يكون الموضوع هو الجسد فقط، أي لا يتم الترويج للجميلة الذكية أو الماكرة، بل التركيز على الجميلة البلهاء حيث إن التسويق يتطلب التركيز على محور واحد، وكما روج لمارلين مونرو نموذجا للجمال الأنثوي، روج لألفيس بريسلي نموذجا رجوليا، وبذلك كان الترويج للنموذج الغربي "الأمريكي" نموذجا أمثل، ومن وراء ذلك الترويج للثقافة الغربية بشكل عام. وحول ما يرى دكتور عماد في فكرة المعيارية في التقييم يرد قائلا: "بأن استيراد المعايير وتطبيقها دون النظر إلى الفارق الثقافي والعادات أمر قد يصلح في بعض العلوم دون الأخرى، كما أن الغرب بدأ بالتخلي عن عدد ضخم من الرؤى التي أثبتت فشلها كالنظر للجسد النحيل نظرة إعجاب، بينما ما زالت ذات الفكرة تروج في العالم العربي لأسباب تجارية كالترويج لأدوية أو مراكز للتنحيف أو غيرها من الأسباب". الإعلام.. في قفص الاتهام "إن هوليود تعيد تشكيل العقول، والتاريخ، فالناس سيفكرون بالطريقة التي ترسمها لهم السينما، وسيعرفون تاريخهم من خلال ما تعرض الشاشة الكبيرة" هكذا يقول جون كيندي. بالفعل يبدو أن الإعلام لعب دورا رئيسيا في خلق صورة ذهنية للشكل المثالي، فالمتصفح للصحف والمجلات يلحظ امتلاءها بصور لعارضات لا يمثلن سوى نسبة محدودة جدا من عموم الناس، كما أن المظهر بالنسبة لهن هو جزء من عملهن، فنرى أن لكل منهن مجموعة من المتخصصين للاهتمام بكل ما يلزم لظهورهن بالمظهر الفائق. وهذا هو ذات المفهوم الذي يحذر منه الدكتور عمرو أبو خليل إخصائي الطب النفسي، مؤكدا أن أخطر ما يواجهنا في حياتنا الآن هو "القولبة النموذجية" إن صح التعبير وهو تصور وجود "نموذج" موحد للنجاح والجمال ولغيرها من أمور الحياة، سواء طريقة العيش أو طريقة الملبس.. فالمواصفات النموذجية للجمال هي النحافة في الجسم والبياض في لون البشرة والتلوين في العين وغيرها من الصفات التي تسبب مثلا في صرعة الرجيم والنظام الغذائي، فكل الفتيات يردن أن يشبهن موديلات الموضة أو فتيات الإعلانات أو الفيديو كليب، فهذا هو الجمال وغيره لا يكون جمالا، وهكذا في طريقة الملبس أو حتى في معايير النجاح... وهذا أمر غير صحيح بالمرة فالأمور متراكبة ومتعددة الأبعاد وتختلف مقاييسها وصفاتها من مكان لمكان ومن موقف لموقف ومن ثقافة إلى ثقافة ومن زمن إلى زمن. كلهن جميلات ولذا فإن وضع ذلك كله في قالب واحد ثابت يفرض على الجميع ويسوق له من أجل أن يتبناه الجميع هو فعلا من أخطر الأمور التي تواجهنا في حياتنا كما أسلفنا في بداية كلامنا؛ لذا فيجب أن نعي هذا الأمر جيدا، فالجمال قضية نسبية لها أكثر من وجه وليس لها مقياس ثابت يمكن أن نعاير الأمور أو نقيسها به. إننا نحبس أنفاسنا في قدر كبير من المفروضات غير المنطقية التي تصيبنا بالإحباط وتفقدنا الثقة في أنفسنا دون أي داعٍ إلا تصورنا أن هناك نموذجا واحدا يجب أن نلتزم به. وأخيرا، فلا أجد للختام أفضل من العبارة التي قالها فتى في أحد أفلام هوليود حينما حصل على تذكرة تمكنه من الدخول عبر تلفاز شاشة السينما إلى عالم الأفلام وفي محاولة لإقناع أحد الممثلين الذين قابلهم بأنهم ليسوا في الواقع قال له: "انظر حولك سترى كل النساء باهرات الجميلات... إذن نحن لسنا في الواقع".