كيف نميز الألوان ونراها

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : الدكتور / أحمـد شوقـي إبراهيم | المصدر : www.alameron.com

تبطن الشبكية كرة العين من الداخل، وتركيب الشبكية بالغ الدقة والتعقيد، بالغ الإعجاز في الخلق، والشبكية حساسة للضوء، وهي التي تستقبل صور المرئيات، وتحولها إلى مراكز الإبصار في المخ عبر العصب البصري، والشبكية مكونة من عشر طبقات على الأقل من الخلايا المختلفة في الشكل والوظيفة، وأهم خلايا الشبكية هي الخلايا العصوية Rods، والخلايا المخروطية Cones، والخلايا العصوية تعمل على الرؤية في الضوء العادي والخافت، وأما الخلايا المخروطية فتعمل على الرؤية في الضوء الشديد وتميز الألوان.

وإذا دخل الإنسان مكاناً مظلماً فجأة بعد أن كان في ضياء، فإنه لا يرى من المكان المظلم شيئاً. وشيئاً فشيئاً تتضح أمامه صور الأشياء التي أمامه في المكان المظلم، وتوضيح الصور تدريجياً في الظلام هو بواسطة الخلايا المخروطية، التي تزيد من قوة إبصار العين عشرات الأضعاف، إلا أن الخلايا العصوية هي المسئولة عن الرؤية الليلية، فتقوي قدرة الشبكية على تمييز المرئيات في الضوء الخافت ليلاً مئات الأضعاف.

ولكن ما الذي يقوي قدرة الخلايا العصوية على الرؤية الليلية مئات المرات؟ إنها مادة الرودوبسين Rodopsin، وهي مادة بروتينية تتفكك في وجود الضوء، إلى مادتين، أحدهما فيتامين A غير الفعال، أما أثناء الضوء الخافت في الليل أو في الأماكن المظلمة، فإن مادة الرودوبسين يُعاد تركيبها من جديد، ويتحول فيتامين A إلى فيتامين فعال، فتحدث القدرة على الرؤية الليلية، ونذكر قول الله عز وجل: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]

وإذا نقصت كمية فيتامين A الفعال إلى درجة كبيرة، حدث ما يسمى بالعشى الليلي أو العمى.

وأجسام المرئيات فيها من أسرار الخلق ما لم يُكتشف بعد، فبعض الأجسام تمتص كل ألوان الطيف الشمسي، لذلك تبدو سوداء اللون، وإذا عكست كل الألوان بدت للعين بلون أبيض، وإذا امتصت كل الألوان ما عدا اللون الأخضر، بدت بلون أخضر، وإذا امتصت كل الألوان ما عدا اللون الأصفر، بدت بلون أصفر... وهكذا بقية الألوان في المخلوقات والمرئيات، وألوان الرسم والطلاء لها نفس الأسرار في الخلق؛ منها ما يمتص جميع ألوان الضوء فيبدو طلاء أسود اللون، ومنها ما يمتص كل الألوان ما عدا اللون الأزرق فتراه طلاء أزرق اللون... وهكذا كل الألوان.

وإذا تفكرنا في الألوان في الجنة نعلم أنها تختلف عن الألوان التي نعرفها في الدنيا لأن الرسول صلى الله علية وسلم اطلع على الجنة... ولما سألوه ماذا رأى فيها قال " فيها ألوانٌ لا أدري ما هي"، وقال في أحاديث أخرى، إن ماء أنهار الجنة أشد بياضاً من اللبن، وهذه حقيقة فوق طاقة فهمنا فنحن لا نعلم شيئاً أشد بياضاً من اللبن، فإن ذلك يدل على أن الضوء في الجنة مختلف عن الضوء الذي نعرفه في الدنيا، ولكن كيف؟ يخرجنا من هذه الحيرة الحديث القدسي الشريف، قال رسول الله r عن الجنة يحكي عن ربه عز وجل: " أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ".




***اختلاف رؤية الألوان في الحشرات عن الإنسان***

تتميز الزهور بألوانها الزاهية الجميلة، وبرائحتها الجذابة، ولما كانت الزهور تحتوي على الأعضاء الجنسية في النبات، فإنها في حاجة إلى زيارة الحشرات لها لتعمل على تلقيحها، من هذا ندرك أن ألوان الزهور وروائحها، مصممة أساساً لجذب الحشرات، فهي تخاطب الحشرات بالدرجة الأولى، ثم تخاطب الإنسان وتعطيه صورة من صور الجمال في هذا الوجود؛ ذلك أن الله تعالى جميل يحب الجمال.

وتركيب الزهرة يتناسب تماماً مع سلوك الحشرة التي تزورها، وتلعب ألوان أوراقها دوراً هاماً في جذب الحشرات إلى الزهرة، ومن الجدير بالذكر أن الحشرات لا ترى ألوان الزهور بحاسة بصرها بالألوان التي نراها نحن بحاسة بصرنا، فالزهور التي نراها نحن بلون أبيض تراها الحشرات بلون أزرق مخضر، ولا ندري أيهما يرى اللون الحقيقي للزهرة؟ أهي حاسة البصر في الحشرة؟، أم هي حاسة البصر في الإنسان؟، أم أن الله عز وجل خلق حواس البصر في مخلوقاته بحيث ترى حاسة البصر في كل منها من الوجود حولها ما يسعدها ويبهجها؟.

وهذه قدرة عجيبة في فطرة خلق حواس البصر في المخلوقات، لا يقدر عليها إلا الله تعالى الحكيم المبدع العظيم الذي قال: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى3،2]

وقدرة تمييز الألوان عند الطيور والحشرات، يجعل بعضها يعجب بألوان معينة وينجذب إليها، لذلك نجد بعض الطيور تقوم بعملية تلقيح نبات العايق الأحمر في أمريكا، بينما يقوم النحل بتلقيح السلالات الزرقاء من نفس النبات في بريطانيا، بالرغم من أن كلاً من السلالتين له نفس الشكل ونفس تركيب الزهور، والفرق الوحيد بينهما هو اختلاف اللون.

ولما كانت حشرات النحل تقوم بالجانب الأكبر من عمليات تلقيح النباتات بمقارنتها ببقية الحشرات، فإننا نجد أنه من المناسب أن ندرس ظاهرة تمييز الألوان عند النحل



***النحل وتمييز الألوان***

في سنة 1793 نشر العالم كريستيان سبرنجل كتاباً قال فيه: "إن تعدد الألوان في الزهور هو من أجل الحشرات، وجذب اهتمامها لتقبل على الزهور، وتمتص الرحيق وتأخذ حبوب اللقاح، وهي إذ تفعل ذلك تسبب عملية تلقيح النباتات بانتقالها من زهرة إلى أخرى، دون أن تتعمد هي ذلك، ودون أن تشعر"، إلا أنه اعتقد أن ألوان الأزهار تراها حاستا البصر في كل من الإنسان والنحل بنفس اللون، ولم يخطر بباله قط أن حاسة البصر في النحل ترى الألوان مختلفة عن رؤية حاسة بصر الإنسان لها.

وفي سنة 1912 نشر العالم الألماني فون هس نتائج تجاربه العلمية التي أثبتت أن النحل لا يميز الألوان، وكتب قائلاً: "إن التجارب العلمية التي أجراها سبرنجل كانت ترتكز على أن زيارات النحل للزهور بسبب ألوانها، وأنها ترى ألوان الزهور كما تراها حاسة البصر في الإنسان، ولكننا لا نستطيع أن نجزم بأن الألوان البديعة في الزهرة التي تراها عين الإنسان، تراها أيضاً عين الحشرة، إذ لا يمكن أن نتصور أن إدراك الألوان لدى الحشرات تماثل إدراك الإنسان لها".

والضوء مكون من إشعاعات مرئية، أمواجها ذات أطوال مختلفة، تقاس بأجزاء من البليون من المتر أي أنجستروم (ج. ب. م)، فالإنسان يدرك الطيف من الأشعة الشمسية الواقع ما بين 380 - 780 (ج. ب. م)، ولا يُدرك الإشعاعات التي أطوال أمواجها ما بين 300- 380 (ج. ب. م) والتي تُسمَى الأشعة فوق البنفسجية، والإشعاعات التي أطوال أمواجها ما بين 780-1200 (ج. ب. م) والتي تسمى الأشعة تحت الحمراء، ومن هذا يتضح لنا أن حاسة بصر الإنسان لا ترى الأشعة تحت الحمراء ولا الأشعة فوق البنفسجية.

ونأخذ مثلاً زهرة نبات الخشخاش، إننا نراها بلون أحمر، فهل هي حمراء اللون حقاً؟، إن سطح أوراق تلك الزهرة يستطيع امتصاص اللون البنفسجي والأزرق والأخضر والأصفر من ألوان الطيف، ولا يستطيع امتصاص اللون الأحمر فيرتد منها، لذلك يصل إلى حاسة بصرنا لون أحمر، فكل ما نرى من ألوان للأشياء المحيطة بنا، إن هي إلا تلك الألوان التي لم تُمتص.

أما الألوان التي امتصت فلا ترى، أما كيف يراها النحل فهذا موضوع بحث طويل قام به العالم الألماني " كارل فون فريش" أستاذ علم الحيوان بجامعة ميونيخ ونال به جائزة نوبل للعلوم عام 1973.

واستعمل " كارل فون فريش" في تجاربه، الماء المحلى والعسل في أوعية زجاجية، واستخدم ألواناً ملونة لقياس ردود فعل النحل تجاه الألوان، وبواسطة تجارب عديدة استطاع ذلك العالم أن يكتشف أن حاسة البصر في النحل تستطيع أن تميز بعض الألوان حتى تلك الألوان القريبة من بعضها البعض، مثل اللون الأزرق واللون الرمادي، واكتشف أيضاً أن حاسة البصر في النحل لا تستقبل الإشعاعات ذات أطوال تتعدى 650 (ج. ب. م)، بينما تستقبل حاسة البصر في الإنسان إشعاعات تصل أطوالها إلى 780 (ج. ب. م)، إلا أن حاسة البصر في النحل تستقبل الأشعة فوق البنفسجية الموجودة ما بين 300 - 380 ج. ب. م (والتي لا تستقبلها حاسة بصر الإنسان)، ولاحظ ذلك العالم أن النحل يحط على أوراق زهرة الخشخاش الأحمر (كما نراها نحن)، ولا يمكن للنحل أن يراها بذلك اللون، لأن اللون الأحمر ذو أمواج أطوالها ما بين 650-750 (ج. ب. م)، وهذه لا تستقبلها حاسة البصر في النحل، لذلك لا تراها حمراء، بل إن النحل لا يرى اللون الأحمر أبداً، ولكن أوراق زهرة الخشخاش تعكس أيضاً الإشعاعات فوق البنفسجية التي أطوالها ما بين 300- 380 ج. ب. م (والتي لا تستقبلها حاسة البصر في الإنسان)، لذلك ترى حاسة البصر في الإنسان زهرة الخشخاش بلون أحمر، بينما تراها حاسة بصر النحل بلون بنفسجي.

إذن فحاسة البصر في كل من الإنسان والنحل ترى نفس الشيء بلونين مختلفين، ولا يمكن أن يكون الشيء الواحد بلونين مختلفين، إذن فلزهرة الخشخاش لون واحد، ولكن ما هو؟ هل هو الأحمر الذي يراه الإنسان، أم هو البنفسجي الذي يراه النحل؟ أم أن لزهرة الخشخاش لوناً آخر؟ أم أن حواس البصر في المخلوقات المختلفة قد فطرها الله تعالى على أن ترى منها الألوان التي تروق لها؟.

وألوان الزهور البيضاء تراها حاسة بصر الإنسان بيضاء، ولكن حاسة بصر النحل تراها ذات لون أزرق مخضر، واللون الأخضر لون العشب وأوراق النباتات الخضراء تحسه حاسة البصر في الإنسان بلون أخضر، إلا أن حاسة بصر النحل تراه بلون رمادي.

أما اللون الأصفر فتحسه حاسة البصر في كل من النحل والإنسان بنفس اللون، ولو ظهرت زهور صفراء اللون وسط حقل من الحقول لشاهد الإنسان الحقل بلون أخضر وفيه زهور صفراء، أما حاسة البصر في النحل، فترى تلك الأزهار بقعاً صفراء متناثرة على أرضية رمادية اللون، والنحل يميز اللون الأزرق كما تميزه حاسة بصر الإنسان، ولكنها في بصر الإنسان تكون زرقاء باهتة.

وعلى أية حال فإن الألوان في الزهور لم توجد من أجل عيون الإنسان فقط، وأما قبل كل شيء من أجل عيون الحشرات؛ لأن العلاقة بين الحشرات والزهور علاقة حتمية لضرورة استمرار حياة كل منهما، فسبحان الخالق المبدع العظيم، وسبحان الذي خلق فسوَّى والذي قدر فهدى، كما قال الله تعالى: { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى3:1]، وسبحان من أحسن كل شيء خلقه والذي قال: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة:7]


***الألوان في الجنة***

في الجنة ألوانٌ جميلة مختلفة أخبرنا الله تعالى عنها في الوحي الإلهي في القرآن والسنة، منها الأبيض والأحمر والأخضر وغير ذلك من الألوان، ولقد اطّلع رسول الله صلى الله علية وسلم على الجنة، ورأى فيها ما رأى عياناً ليلة المعراج، فقد قال الله عز وجل في سورة النجم[17:12]: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}.

وسدرة المنتهى ملكوت من ملكوتات الله تعالى، وسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما غشيها يا رسول الله؟ قال: "غشيها نور من الله عز وجل ما يستطيع أحد أن ينظر إليها"، {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}: أي لم يوجه بصره إلى غير ما رأى، ولم يلتفت يميناً ولا شمالاً.

ولقد اطّلع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنة ورآها، ولما سألوه ماذا رأى في الجنة، قال: " فيها ألوانٌ لا أدري ما هي" إلخ الحديث الشريف