إن الله - تعالى- قد خلق هذا الكون بما فيه فأبدعه، ولم يعيَ بخلقه، خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيراً، خلق هذا الإنسان الضعيف وحمَّله أمانة لم تحملها السماوات والأرض والجبال، وجعله خليفة في الأرض، وذلل له ما عليها من مخلوقات، لكنه - سبحانه وتعالى - علم مع ذلك أن هذا المخلوق الضعيف لا يستطيع الاستغناء عن خالقه - عز وجل -، فأمده بحبل من عنده، ورباط من قوته، وجعل نفسه - تعالى- له ملجأ في الملمات والكربات فقال - تعالى-: ((أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ)) (62) سورة النمل. ثم جعل - سبحانه وتعالى - هذا الدعاء عبادة من العبادات التي حرَّم أن تصرف لغيره لعلمه - عز وجل - أن كل حبل إلى ما سواه مقطوع، وكل طريق إلى غيره ممنوع، وكل طارق لغير بابه مدفوع، فأمر هذا الإنسان بأن يفرده بالدعاء، وألا يدعو سواه؛ لكي يحصل على مشتهاه، ولئلا يكون من المعذبين فقال عز من قائل: ((فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ)) (213) سورة الشعراء، وقال - تعالى -: ((وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) (88) سورة القصص. فانقسم الخلق في ذلك إلى قسمين: قسم دعا غير سيده، وأطاع غير مولاه، وصرف الدين لمن لا يستحق، فحاق به الخسران والضلال، وكان نصيب ما عمله التضييع والإبطال قال - تعالى-: ((وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)) (5) سورة الأحقاف، وقال - عز وجل -: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74))) سورة غافر. هذا هو موقف الكافرين يوم القيامة الذين التجؤوا إلى غير سيدهم، وغرَّهم حلم مولاهم فدعوا إلهاً غيره، هاهو موقفهم المتبرئ من الإشراك بغير الله - تعالى -. وقسم آخر أخذ بتعاليم ربه، وتمسك بحبله، وصار من جنده، فما تصيبه من شدة، ولا تدهمه من ملمة؛ إلا توكل عليه، ورفع يديه ملتجئاً إليه، ولسان حاله يقول: "يا سامعاً لكل شكوى، ويا مجيباً لكل نجوى، ويا دافعاً لكل بلوى، يا فارج الهم، ويا كاشف الغم". يفعل ذلك مقدماً توبته قبل دعاه، وذلته قبل بلواه، علمه قادته من الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - ألا يدعو ربه إلا موقناً، ولا يأتيه إلا موحداً، ولا يطلبه إلا راجياً، فعن أمثال هؤلاء يقول - تعالى -: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)) (186) سورة البقرة، ويقول عز من قائل: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)) (60) سورة غافر. ها هو نبي الله نوح - عليه السلام - لما اشتدت عليه الكربة، وزادت عليه الغربة، رفع يديه إلى ربه ((فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ)) (10) سورة القمر، فأهلك الله قومه، وما جعل عليه من لومه. استمع لقول الله - عز وجل -: ((فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (17))) سورة القمر. وهذا إبراهيم الخليل، نبي الله الجليل، أبو الأنبياء، ومربي الأتقياء، رأى قومه يدعون غير الله فأبى وأنكر، ودعا إلى الله - عز وجل - فأكثر، أراد قومه أن يصرفوه عن هذا الباب؛ فاستقام لربه وثاب، وثبت على دينه وما استجاب، ورد عليهم الخطاب: ((وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً)) (48) سورة مريم فكان جزاؤه لمَّا فعل ذلك ((فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً (49) وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً (50))) سورة مريم. وانظر إلى النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - سيد الخلق، وإمام الحق، من كشف الله به الغمة، وأصلح به هذه الأمة، لما اشتد عليه الأذى من قريش، وأراد أن يتخذ من دونهم أنصاراً خرج إلى الطائف علَّ الله أن يهدي أهلها إلى الحق، فاستمر بين أهلها عشرة أيام يدعوهم فما لربهم استجابوا، وما لخالقهم أنابوا، بل ليتهم وشأنه تركوه، إذ لم يسلم من أذاهم له ومن ديارهم أخرجوه، وسلطوا عليه سفهاءهم وغلمانهم فرجموه حتى أدموه، فرفع أكف الضراعة إلى المولى - عز وجل - قائلاً: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملَّكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة؛ من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)[1]. فاستجاب الله دعاه، وأرسل له جبريل وملك الجبال يريا حاجته إلى عذاب قومه فقال: (بل أرجو أن يخرج الله - عز وجل - من أصلابهم من يعبد الله - عز وجل - لا يشرك به شيئاً)[2]، فاستحق لذلك لقباً لقبه الله - تعالى- به ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) (4) سورة القلم. عباد الله: على مثل هذا الطريق الذي سار عليه الأنبياء يسير المؤمن، ولمثل هذا العمل يلجأ الموحد، فالدعاء لا يكون إلا للخالق المتفرد، الذي يُستمد منه المعونة، وتستجلب منه الرحمة، وتُستدفع به النقمة، إذ الدعاء له منزلة عالية، ومكانة سامية عند الرب - عز وجل - فقد ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء)[3] وهذا الحديث صحيح. وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: (أفضل العبادة الدعاء) [4] وأورد الإمام الترمذي حديثاً في سننه قريباً من هذا فعن أبي الأحوص عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (سلوا الله من فضله، فإن الله - عز وجل - يحب أن يسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج)[5]، وعن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)) (60) سورة غافر).[6] وما هذه المرتبة السامية، والمنزلة العالية؛ إلا لأنه يجتمع فيه من أنواع التعبد ما قد لا يجتمع في غيره، فتجتمع فيه عبادة القلب وعبادة اللسان وعبادة البدن: أما عن عبادة القلب فيستدعى فيه حضور القلب، وعباده الله بالتوجه والقصد، والرجاء والتوكل، والرغبة فيما عنده والرهبة من عذابه. وأما عن عبادة اللسان فيستدعى من اللهج بالتمجيد والتحميد، والتقديس والمسألة، والتضرع والابتهال. وأما عن عبادة البدن فيه فبالانكسار والاستكانة بين يدي الله - عز وجل -، والتذلل له والتبرؤ من الحول والقوة إلا به، مستغيثاً به - سبحانه - دون سواه، ولهذا قال عز من قائل: ((قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً)) (77) سورة الفرقان. والدعاء عبادة سهلة ميسورة، مطلقة غير مقيدة بمكان ولا زمان ولا حال، فهي في الليل كما أنها في النهار، وفي البر كما أنها في البحر والجو، وفي السفر كما الحضر، وفي الغنى كما في الفقر، وفي السر كما في العلانية، وفي المرض كما في الصحة، وهي أول منازل العبودية وأوسطها وآخرها، ولذا نجد من حكمة الباري - عز وجل - أن أنزل فاتحة الكتاب التي بها نقرأ في كل ركعة من ركعات الصلاة، وهي سورة من أولها إلى آخرها جاءت في الدعاء، اسمع إلى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثاً غير تمام) فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله - تعالى- قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله - تعالى-: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم قال الله - تعالى-: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض إلي عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)[7]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.