كتبه/ ياسر عبد التواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فليس زعما مني بأن تلك الأزمة الجديدة ستغرق فيها الولاياتُ المتحدةُ -وغالبا النظام الرأسمالي برمته- فهي تيتانيك أخرى تهوي من عليائها، ولا ينفعها ما احتاط له صانعوها، ويشهد بذلك خبراء؛ حيث تعددت آراؤهم فيما يحدث وفي أسبابه، وإن كانوا جميعا يؤكدون أنها بداية النهاية سواءً في الاقتصاد أو السياسة أو الاجتماع.
وفي حقيقة الأمر فإن أفول الحضارات هو سنة كونية؛ حيث يحدث ضمور لكل ازدهار ما دامت الأمة حازت أسبابه، وهو ما عبَّر عنه الكاتب الأمريكي "بول كيندي" الذي كتب كتاباً حاز شهرة واسعة من نَحْوِ 20 سنة، ويحمل عنوان "صعود وأفول الدول العظمى"، حيث كان هاجسه فيه أن يجيب على سؤال مفاده: هل من الضروري أن يعقب ازدهار دولة وصعودها إلى مقام الدول العظمى، هبوط وأفول؟ وهل سيحدث هذا أيضا للولايات المتحدة؟
وقد وصل بول كينيدي إلى أن هذا الأفول بعد الصعود يكاد يكون حتمياً، وأن السبب هو أن الدولة العظمى تميل بعد بلوغها درجة معينة من القوة والسيطرة إلى أن تمد نفوذها إلى أبعد من طاقتها، أي إلى أبعد مما تستطيع الاحتفاظ به، إذ يفرض عليها هذا التوسع نفقات اقتصادية فضلاً عن بعض الأعباء السياسية والاجتماعية لا تقدر على مواجهتها، فإذا بها تنكمش وتضطر إلى تقليص نفوذها.
وقد طبق الكاتب هذا بالفعل على أمريكا، وتوقع أن تنكمش كما حدث لبريطانيا، وببعض التأمل نجد أن تصوره هذا ليس ببعيد، وهو ما شاهدناه متمثلا في رغبة الأمريكان في التوسع والسيطرة من خلال مشروع طموح غطوا عليه بغطاء محاربة الإرهاب، ورصدوا له ميزانية ضخمة للغاية لا شك أنها استدراج رباني أضر بها من حيث لا تحتسب، و(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)(الفجر:14).
فيكفي أن نتأمل في أن الإنفاق العسكري زاد حوالي ألف مرة في العالم بعد أن تولت الولايات المتحدة رفع هذا الشعار عقب أحداث سبتمبر.
سبحان الله!! كان الإنفاق العسكري عالميا لا يتجاوز المليار دولار سنويا فرفعته الولايات ورجال الحرب وتجار السلاح إلى حوالي 15 مرة، وفقا لتقرير معهد "ستوكهولم" لأبحاث السلام الدولي الذي رصد بلوغَ الإنفاق على التسلح مبلغا قياسيا بعد أحداث 11 سبتمبر، بلغ 1204 مليار دولار في عام 2006 بينما لم يكن في التسعينات يتجاوز المليار.
وكان مصير هذا التصور للنجاح والسيطرة هو الفشل -بحمد الله تعالى-؛ فلقد وُوْجـِه المشروعُ المتحذلق بمقاومة بدأت بوقف مشروعها وستنتهي ليس فقط بالأحذية، بل بانسحاب ذليل -ربما كان هو أكبر أسباب اختيار أوباما-، فأراد اللهُ -تعالى- أن يجابِهَ التخطيطَ الظالمَ بدفع من الأمة أوقفت تقدمه من جهة، وكبدته خسائر فادحة من جهات سواء على الصعيد العسكري أو السياسي أو الاقتصادي.
خسارات ضخمة للغاية لا تستطيع أمريكا أن تتحملها، فحمل هذا مزيدا من التعجيل بهذا الأفول المذكور.
وعلى صعيد الاقتصاد دعني أذكر لك توقعات الخبراء في هذا الصدد؛ فقبل سنوات كنت أقرأ تحليلات للأستاذ عادل حسين -رحمه الله-، يتوقع تدهورا وأفولا ربطه -وَحُقَّ له- بالنظام الربوي ومشكلاته الاقتصادية والشرعية، فأسَجِّلُ له هنا بُعْدَ نظرهِ، وصائبَ تفكيرِهِ في وقتٍ كانت نشوةُ الولاء على أشدها لهذا النظام البالي المُفْرِطِ الأنانية.
وهذا الذي ذكره الأستاذ عادل ذكره غيرُه، ومنهم الدكتور "إيغور بانارين" عميد كلية العلاقات الدولية في الأكاديمية الدبلوماسية التابعة لوزارة الخارجية الروسية الذي أدلى بتصريح يوم 24 نوفمبر/ 2008 بتصريح لصحيفة "أزفيستيا" الروسية يتحدث فيه عن الانهيار المتسارع الخطى للاقتصاد الأميركي والرأسمالي، وهو صاحب تعليق تيتانيك الذي استعرته منه للتعبير عن الأفول السريع أو سَمِّهِ الانهيارَ.
وكان "البروفيسور بانارين" قد تنبأ بهذا منذ 10 سنوات في عام 1998 بالنمسا بمؤتمر دولي تحت عنوان "الحرب المعلوماتية" متوقعا أزمة اقتصادية ستحدث قي الولايات المتحدة في عام 2009، قد تؤدي إلى حرب أهلية وإلى تفكك الدولة الأمريكية فيما بعد، وبدت آنذاك تنبؤات خيالية، غير أن الكثير منها باتت تتحقق.
وذكر "البروفيسور بنارين" ذلك، وذكر أن الولايات المتحدة ستتفكك إلى أجزاء مقدما فيها براهين مقنعة تشير إلى أن العامل المالي -الاقتصادي- هو القوة المدمرة الرئيسية للولايات المتحدة، بسبب أن الدولار غير مدعوم بشيء، وأن الديون الخارجية كانت تتعاظم بشكل متوال، في حين لم تكن موجودة في عام 1980.
وعندما تنبأ بهذا الأمر عام 1998 كان الدَيْنُ الخارجيُ آنذاك يزيد عن 2 تريليون دولار، أما الآن فإنه بلغ قيمة تزيد عن 11 تريليون دولار، وهذا يشكلُ هَرَمًا سَيَنْهارُ حَتْمًا.
قارِنْ الرقمَ الناجم عن الديون الخارجية، وأضفْ إليه الإنفاقَ العسكري المذكور، وتأتي بعد ذلك المشكلة الاقتصادية الحالية، وما يتبعها من انهيار شركات عملاقة وتأثر البورصة، ودخول البلاد مرحلة الكساد، ألا يمكن أن نشبِّهَ هذا بتيتانيك التي اغتر أصحابها، وظنوا أنهم قد جمعوا لها أسباب النجاة، فإذا بها تهلك في ساعات أمام أعينهم بخطأ غير متوقع؟!
لكنا لا نكتفي بترديد هذه الأقوال عن الفشل الاقتصادي والعسكري وفشو الحماقات السياسية، بل نقول: إن أكبر أسباب الانهيار هو الظلم... نعم ائتوني بطفل في أقصى الأرض لا يعرف مظالم أمريكا! هل تضيع دماء الناس في مشارق الأرض ومغاربها هدرا؟! حاش لله.
فما من ذنب أجدر أن يعجل الله -تعالى- لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم.
والشيء بالشيء يذكر: فلنقل هذا أيضا في أفعال اليهود في فلسطين وفي غزة المحاصرة التي ضمت بعض بلاد العرب للبغي بأهلها قطيعة الرحم، فنسأل الله أن يرحمنا.
إذاً نعود لحديثنا ونقول: إن الله -تعالى- ذكر في كتابه بكل وضوح آيات متعددة حول هذا الطغيان وعاقبته ومآله، ولابد أن نفهمها جيدا ونتأمل فيها، ومن ذلك قول الله -تعالى-:
(مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)(آل عمران:179)، ففيها يتضح لنا أن دوام الظلم محال، وأن الله -تعالى- يتدخل بحكمته وقدرته ليفشل الطغاة ويفضح المفسدين، ويمن -سبحانه- على المستضعفين الذين قال في أمثالهم: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ)(القصص:5-6)، وفيها أنه مهما بلغ الطغاة من الحذر فإنه -تعالى- يأتيهم من حيث لم يحتسبوا، ويريهم ما كانوا يحذرون، ولا غرو أن أرى اللهُ -تعالى- فرعونَ ما كان يحذر من زوال الملك على يد رضيع تربى في حجره.
وقال -تعالى-: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)(البقرة:251)، فمن فضله على العالَم أن تدافعَ قوى الخير قوى الشر، وأنه بذلك يذل الله -تعالى- المتكبرين، ولو ذهبنا نستقصي لطال المقام.
ونقول في النهاية -قبل أن نغرق مع تيتانيك الثانية فنضيع كمثل ضياعهم، ونضل كمثل ضلالهم-: لا بد لنا من وقفة؛ وقفة نعود فيها إلى الله -تعالى- ونكبر دينه، ونقر بمنهجه، ونعلم بأن ما قاله -تعالى- هو صدق لا باطل فيه، وهو حق لا زيغ فيه، فلنتبع دينه وأوامره، ولننصر شريعته، وكلنا ثقة بأنها الخير كله.
ومن اتباعنا الصادق ويقيننا القوي أن نسعى أفرادا وجماعات ودُوَلاً إلى تطبيق العقيدة الصافية التي جاء بها الإسلام حيث يزداد يقيننا بألا غالب إلا الله، وألا ملجأ من الله إلا إليه، وأنه -تعالى- غالب على أمره، وأنه لا راد لحكمه، وأنه لا ينفع في البر والبحر غيره.
قبل أن نغرق معهم فلنعد لديننا ولتوجيهاته؛ فلنربأ بأنفسنا عن الربا واقتصاده المشوه الكذوب، وليكن لنا اقتصادنا المستقل القائم على أداء الحقوق والبعد عن الغرر واستغلال حاجات الناس؛ الاقتصاد الإسلامي الحقيقي الذي يحمل في طياته البر والإحسان للفقراء وذوي الحاجات.
وما أجمل الفكرة الرائدة عن الدينار الذهبي الإسلامي وربط العملات به بدلا من الدولار الذي بدأته ماليزيا ولم يلقَ إلا التجاهل من إخوانهم المسلمين.
فقبل أن نغرق معهم فلنستقل عنهم حضاريا في مجالات الحياة المتنوعة: سياسيا، واقتصاديا واجتماعيا، وثقافيا.. نعم نأخذ منهم ونعطيهم، لكن بعزة نفس وتكافؤ مصالح، بل لتكن دعوتنا معنا نقدمها لهم غير أذلة ولا منهزمين فربما ينفعهم ذلك يوما ما، قال -تعالى-: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ)(التوبة:6).