كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
مسألة جبن لبن الآدمية هي إحدى المسائل التي ذكرها علماؤنا الأجلاء -عليهم رحمة الله- تفريعاً عن مسألة الرضاع، حيث فطنوا إلى أن العلة من انتشار الحرمة بين الرضيع ومرضعته هي تغذي الطفل على لبن مرضعته، ومن ثم نبات لحمه ونشوء عظمه منه، كما ورد ذلك في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إنما الرضاع ما شد العظم وأنبت اللحم).
ومن ثم فقد نصوا على ثبوت حكم الرضاع متى وصل لبن المرضعة إلى جوف الرضيع بأي طريقة كانت، سواء التقم ثديها وهي الطريقة الأكثر شيوعاً، أو استحلبت له ثم صُبَّ في حلقه ويسمى الوجور، أو نُقِطَ في أنفه ويسمى السعوط، أو عمل منه جبناً، وهذا كله إعمالاً للعلة التي بيَّنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شأن الرضاع.
إذا علمت هذا فاعلم أن ذِكرنا لهذه المسألة الفرعية وإعطاءها الصدارة في عنوان مقالنا ليس قلباً للأوضاع، وإنما تنبيهاً على ما وقع فيه المستشرقون وأذنابهم، وهم الذين يزعمون التحقيق العلمي والاطلاع الواسع على كتب تراثنا، وإذ بهم يأخذون على دين الله -تعالى- رخصةً رخَّص فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- بإرضاع الكبير كبديل عن التَّبنِّي الذي نزل القرآن بتحريمه آنذاك.
ولا تحسبن أن القوم يستنكرون إنشاء تلك البنوة بين المرضعة ومن ترضعه في ذلك السن، وإلا فهم يرون التَّبنِّي بغير ما رضاعة في صغر ولا كبر، وهو ما كان معمولاً به في الجاهلية، وأقره الإسلام فترة ثم نهى عنه، وإنما الآفة عند القوم هي توهمهم جهلاً أو تجاهلاً أن الرضاعة لابد فيها من التقام الثدي، ويتساءلون كيف يمكن أن يرضع الكبير من ثدي امرأة لم تصر أماً له بعد؟
وهؤلاء إما أنهم لم يرجعوا إلى كتب تراثنا كما يزعمون وتلك مصيبة، وإما أنهم رجعوا ولم يفهموا وتلك مصيبة أكبر، وإما أنهم رجعوا وفهموا ثم كتموا ولبسوا وتلك أعظم، ذلك أنهم لو رجعوا إلى هذه الكتب لوجدوا أمرين:
الأول: هو عدم لزوم التقام الثدي في الرضاعة للصغير، فما بالك بالكبير؟!
الثاني: أن الثدي عورة من المرأة على ابنها من النسب، فما بالنا بمن يراد له أن يكون ابنا لها من الرضاعة؟!
ومن علم هاتين الحقيقتين أيقن أنه -صلى الله عليه وسلم- لما أجاز رضاع الكبير لم يكن في حاجة إلى أن يبين للسائلة، وهي صحابية جليلة، وهي قبل ذلك امرأة عاقلة، وهي إنما سألت دفعاً للحرج عن زوجها، وهو صحابي جليل وجد في نفسه من دخول من كان ابناً له بالتَّبنِّي على امرأته التي كانت أمه بالتَّبنِّي، فكيف يُزال هذا الحرج؟ بأن تلقمه ثديها؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!!
وإذا علمت هذا فرغنا من هؤلاء المشغِّبين، وبقي لنا نحن أهل الإسلام أن نعرف هذه الرخصة هل هي خاصة بالواقعة التي وردت فيها أم أنه يمكن القياس عليها، وهذا يتطلب معرفة القصة، ومعرفة أنها رخصة، ومعرفة المناط الذي نيطت بهذه الرخصة، لنعلم هل يمكن تكرارها أم لا؟
أما القصة فأصحابها ثلاثة من أفاضل الصحابة، وكلهم من السابقين الأولين إلى دين الله. أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة أحد السابقين إلى الإسلام رغم سيادة أبيه في مكة وعداوته للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وامرأته سهيلة بنت سهل إحدى السابقات إلى الإسلام رغم تأخر إسلام أبيها، وسالم مولاه وهو أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد أمهر الصحابة -رضي الله عنهم- بالقرآن، وهو أول إمام للمسلمين في الصلاة في دار الهجرة في مسجد قباء، وكان أبو حذيفة -رضي الله عنه- أعتق سالماً -رضي الله عنه- وتبنَّاه؛ لِما رأى من سبقه للإسلام وحرصه على تعلم القرآن. ثم لما نزل تحريم التَّبنِّي جاءت سهيلة امرأة أبي حذيفة -رضي الله عنهما- تشتكي ما يجده أبو حذيفة في نفسه من دخول سالم عليها، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم- أرضعيه خمس رضعات تحرمي عليه.
والناظر إلى هذا القصة يجد فيها أمرين أساسيين:
الأول: وجود قدر كبير من شعور الأمومة والبنوة المتبادل بين سهيلة -رضي الله عنها- وسالم -رضي الله عنه-، وهي أمومة التَّبنِّي، وهي أمومة أقرها الشرع فترة قبل أن ينزل تحريم التَّبنِّي.
الثاني: وجود حاجة ماسة في أن يكون التعامل بينهما على هذه الصفة، ومن ثم رخص لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- رغم ثبوت الأصل في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا رضاع إلا من مجاعة)، (لا رضاع إلا في الحولين)، (إنما الرضاع ما شد العظم وأنبت اللحم) وغيرها من الأحاديث.
ومن ثم اختلف أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم هل يمكن أن يقاس على هذه الرخصة فتمنح لأحد آخر أم لا؟ فرأى كثير منهم أن واقعة وجود أمومة معتبرة من الشرع ثم إلغائها واقعة لن تتكرر، ومن ثم فلا يمكن أن يقاس على هذه الحالة، بينما رأت عائشة -رضي الله عنها- وغيرها من الصحابة أن أمهات المؤمنين لهن أن يأخذن بهذه الرخصة لدخول طلبة العلم عليهن؛ لوجود الوصفين الموجودين في حالة سالم وسهيلة -رضي الله عنهما- وهي:
1-الأمومة: وهي هنا أمومة أمهات المؤمنين.
2-وجود الحاجة؛ لأن أمومة أمهات المؤمنين وإن كانت تحرم الزواج منهن إلا أنها لا تبيح الخلوة بهن، وحاجة طلبة العلم إلى أمور لن يجدوها إلا عند أمهات المؤمنين.
وقد شغَّب الشيعة -قبحهم الله- على أم المؤمنين عائشة في أمرها لطلبة العلم، وكلهم من أصاغر الصحابة أو من أولاد كبارهم، بالرضاع من أختها أو من بنات أخيها لتكون خالتهم أو عمتهم من الرضاعة، وهم في الغالب مصدر هذا الوهم المريض في عدم تصور رضاع إلا من الثدي مباشرة، وعنهم نقل المستشرقون هذه الفرية وطبقوها على ما أرشد إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- سهيلة -رضي الله عنها-.
وقد فات الشيعة في ذلك أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- موافق لأم المؤمنين في مذهبها هذا، وإن خالفها فيه سائرُ أمهات المؤمنين، ولعلهن لم يرين أن لهن أن يأخذن بهذه الرخصة، وليس عندهن ما عند عائشة -رضي الله عنها- من العلم.
ويبقى السؤال: هل يمكن أن نقيس على حديث سالم -رضي الله عنه- وفعل عائشة -رضي الله عنها-؟
أما فعل عائشة -رضي الله عنها- فلا سبيل إلى القياس عليه لاعتبارين:
الأول: عدم جواز القياس على قياس، وإنما القياس يكون على الأصل مباشرة.
الثاني: أن نوع الأمومة الذي اعتبرته عائشة -رضي الله عنها- لا يمكن أن يتكرر.
وأما حديث سالم -رضي الله عنه- فالظاهر بقاء القياس عليه في مثل حالته، كأن تُسْلِم أسرةٌ يكون عندها ابن من التَّبنِّي، وقد نشأ لا يرى في المرأة التي تبَنَّتْه إلا أمه، ولا ترى فيه إلا ابنها، وحينئذ يجوز أن ترضعه أو تدفعه لأختها أو بنات أخيها لإرضاعه لتكون أماً له أو خالة أو عمة من الرضاعة أو نحو ذلك من الحالات التي يوجد فيها أمومة سابقة وكانت معتبرة شرعاً، أو وجود ما يقاربها أو يتوقع حصولها قبل البلوغ، كاللقيط الذي تجاوز السنتين ويحتاج إلى من تضمه إليها، وسوف ينشأ في كنفها كأمه، وما يشابهها من حالات.
وأما ما نسب إلى بعض المتأخرين من التوسع في هذا الأمر فوصْفُهُ بأنه قياس فاسد الاعتبار لا يكفي للدلالة على قدر الفساد والإفساد، والصد عن سبيل الله، والبعد عن معرفة مقاصد الشريعة.