الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد ،
مع من نصوم؟ سؤال يتكرر كل عام، وربما سأله البعض بصيغة: هل نصوم مع مصر؟ أم مع السعودية؟
مع أنه من الناحية الفقهية لا يتصور طرح السؤال بهذه الصورة، وإنما الصيغة الفقهية للسؤال: مع من نصوم مع بلدنا؟ أم مع أول بلد تعلن دخول الشهر؟ والإجابة لا تخرج عن إحدى إجابتين، إما مطلقًا أو بشروط، إما أن نصوم مع بلدنا. أو نصوم مع أول بلد يعلن دخول الشهر. وهل يختلف ذلك بالطريقة التي اعتمدتها بلدنا، أو البلد التي سبقتها بإعلان دخول الشهر -حال حدوث ذلك- أفي إعلان الشهر أم لا؟
كل هذه أسئلة يطرحها المسلمون، والإجابة تختلف بحسب مذهب المسئول، ونظرته للأدلة، شأنها شأن كل مسائل الخلاف الكثيرة في الفقه الإسلامي، إلا أن صعوبة هذه المسألة في أنها مسألة مركبة من عدة مسائل فقهية، ونحن نحاول في هذا العرض الموجز ذكر المسائل التي ينظر فيها الفقيه قبل إجابته على هذا السؤال، دون تفصيل للأدلة، وإنما مقصودنا وضع تصور واضح عن المسألة من الناحية الفقهية، وسوف نرتب المسائل على دورها في حسم الإجابة.
أولاً: مسألة من رأى الهلال وحده (ومثلها من خالف مذهب أهل بلده).
هذه المسألة هي أهم مسألة يجب النظر فيها للإجابة عن هذا السؤال، وهي بذلك مقدمة على مسألة اتحاد المطالع، واختلافها، ومسألة الحساب الفلكي.
والناظر في هذه المسألة سيترجح لديه أحد ثلاثة أقوال:
الأول: الالتزام بما أعلن في بلده مطلقًا، وهذا هو مذهب جمهور المعاصرين،الشيخ ابن باز، والشيخ بكر أبو زيد، عملاً بقوله- صلى الله عليه وسلم-: (الصوم يوم يصوم الناس، والفطر يوم يفطر الناس).
الثاني: أنه يلتزم بمذهب نفسه. إلا أنه يسر بالفطر إذا أفطر وحده، وربما ذهب البعض إلى أنه يعمل بمذهب نفسه في الصوم دون الفطر.
الثالث: أنه يلتزم بما يعلن في بلده، إن كان يوافق مذهبًا سائغًا من المذاهب المتنوعة، وأما إذا لم يكن، كالعمل بالحساب الفلكي في دخول الشهر، رغم عدم رؤية الهلال فلا يعمل به.
والذي يرى الرأي الأول فإنه يفتي مباشرة بوجوب اتباع المعلن في بلده، ولا تؤثر في فتاواه اختياره في المسائل الأخرى كاتحاد المطالع والحساب الفلكي، لأنه مهما كان مذهبه فسوف يلتزم بمذهب بلده.
وهذا الذي يذهب إليه شيخنا ياسر برهامي المشرف على الموقع مع التحفظ على اعتبار الحساب كافياً في الإثبات لأنه مخالف لإجماع السلف. ومثله من يرى العمل بما أعلن عنه في بلده إذا وافق قولاً سائغاً، إلا إذا عمل أهل بلده بالحساب الفلكي لدخول الشهر، دون رؤية الهلال.
وأما من يختار في هذه المسألة، وجوب العمل بمذهب نفسه فسوف يحتاج إلى تحقيق مذهبه في المسألتين الأخيرتين.
المسألة الثانية: مدى اعتبار الحساب الفلكي في إثبات الشهر:
والناس في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
الأول: العمل بالحساب الفلكي مطلقا. وهو قول شاذ مخالف لإجماع السلف.
الثاني: رفض العمل بالحساب الفلكي مطلقا. وهو مذهب جمهور المعاصرين.
الثالث: العمل بالحساب الفلكي في النفي، لا في الإثبات. يعني رد شهادة الشهود إذا ما شهد الشهود على رؤية الهلال بينما يجمع الحساب على استحالة وجود الهلال في السماء. فيعتبرونها من باب رد الشهادة الشهود إذا خالفت الحس. وهو مبدأ مقرر عند الفقهاء كافة، وإن لم يتفقوا على جعل هذه الصورة منه.
وأما إثبات دخول الشهر بمجرد الحساب من غير رؤية الهلال ولو في غيم فهو مجمع على بدعيته.
وهذه المسألة سوف يحتاجها من لا يرى الالتزام بأي إعلان دخول للشهر يكون قائماً على مذهب مبتدع. وكذلك من يرى الالتزام بما يعلن في بلده بشرط أن يكون أحد الأقوال المعتبرة في الفقه الإسلامي.
ومن كان هذا حاله فإنه سيعمل بإعلان بلده. إلا إذا قام على الحساب الفلكي، فإنه سوف ينتظر إعلان من أول بلد لا تعتمد على الحساب الفلكي.
المسألة الثالثة: اتحاد المطالع واختلافها:
وهذه المسألة الأكثر شهرة، بينما ترتيبها في تكوين الفتوى بالتزام بما أعلن عنه في بلد أم لا؟ هو هذا الترتيب، فإذا كان الباحث يرى أنه ملزم بما يعلن عنه في بلده. فالأمر عنده محسوم كما أسلفنا، وإلا فهو مضطر للبحث أولا مسألة أثر الحساب الفلكي في إعلان الشهر، ليحدد ما هو ضابط اعتبار رؤية ما صحيحة هل تكفي شهادة الشهود؟ أم يشترط عدم مخالفتها للحس كالحساب الفلكي إذا كان متفقاً عليه وبلغ الحساب مبلغ التواتر- وبعد هذا وبناء على منهجه في مسألة اتحاد المطالع واختلافها والتي اختلف العلماء فيها على مذهبين أساسيين:
الأول: متى ظهر الهلال في بلد وجب على جميع البلاد الصوم والفطر معها. وهو ما يعرف باتحاد المطالع.
الثاني: لا يلزم. وأنه يلزم أهل كل بلد رؤيتهم -وهو ما اشتهر باختلاف المطالع-، مع أن مسألة اختلاف المطالع أحد الأقوال في اعتبار اختلاف البلاد، ويتفرع على القول الثاني وضع حد للبلد على اختلاف واسع بين الفقهاء في ذلك.
وبناء على ذلك فمن يرى اتحاد المطالع يعمل بأول إعلان رؤية صحيحة -بناء على شروط ذلك عنده-، وأما من يرى اختلافها فيعمل برؤية بلده فقط. وعلى أية حال فالجميع يشدد على أن من خالف ما عليه عامة الناس فعليه أن يستسر بأي مظهر مخالف كالفطر في حالة الفطر، وصلاة القيام جماعة في حالة الصوم، وكذا التزام بالخروج لصلاة القيام جماعة في حالة الفطر قبل الناس مراعاة بأنهم ما زالوا يعملون ببقاء الشهر، ويَسَع الإمام أن يصلي معهم حتى ولو كان يعتقد أن تلك هي ليلة العيد، حيث لا يوجد ما يمنع من قيام ليلة العيد إذا كان ذلك لحاجة، وإنما المنع في القصد إلى ذلك.
مذهب دار الإفتاء المصرية
والذي استقر عليه العمل بدار الإفتاء المصرية هو:
الاعتماد على الرؤية البصرية للهلال في إثبات الشهر شريطة ألا يخالف الحساب -وهو مذهب معتبر-.
القول باتحاد المطالع.
وبناء علي ذلك فهم يعملون بأول رؤية تصدر عن بلد إسلامي، شريطة أن يقر الحُساب بإمكان ميلاد الهلال في هذه البلد في تلك الليلة. وبالتالي فإنه يعمل معهم من كان موافقاً لهم في المذهب. أو من كان يرى وجوب إتباع المعلن في بلده بغض النظر عن مذهبه. وأما من لهم مذهب مخالف ويرون وجوب إتباع مذهب أنفسهم فيعملون به وفق الضوابط السابق ذكرها.